بعد أن تخلت برامج الفضاء العالمية لعقود عن فكرة العودة إلى القمر لصالح محطة الفضاء الدولية وبعثات استكشاف النظام الشمسي، تعود "برامج القمر" إلى الواجهة مدفوعة بالرغبة في دراسة وربما استغلال الموارد التي يمكن العثور عليها هناك.
ومن بين هذه الموارد، يمثل "الهيليوم-3" الذي يندر وجوده على الأرض، الإمكانات الأكثر أهمية في مجال الطاقة. إذ يعد هذا النظير الذي يطلق عليه اسم "الكنز الثمين"، وقوداً مثالياً لتشغيل مفاعلات الاندماج النووي من دون ترك نفايات خطرة لأنه غير مشع.
وتشير تقارير وكالة الفضاء الأميركية "ناسا" إلى وجود مليون طن من هذا الغاز على القمر، مضيفة أنه من الناحية النظرية يوفر مزايا كثيرة مقارنة بالطاقة النووية الحالية، باعتباره يولد طاقة وفيرة ومنخفضة الكربون ولا توجد بها تقنية نفايات نووية. وعلى الورق، مزايا هذا الغاز تجعله مورداً تنافسياً، في حين أنه مفيد لتطبيقات أخرى بما في ذلك علم التبريد، وأجهزة الكمبيوتر الكمومية، وتصوير الرئة بالرنين المغناطيسي.
ما هو "الهيليوم - 3"؟
خلال دراستهم المكثفة لسطح القمر، اكتشف علماء الفضاء في سبعينات القرن الماضي، وجود موارد فيرة هناك بما فيها "الهيليوم-3". ومع ذلك، فإن التكلفة والقيود التكنولوجية أعاقت أي تقدم كبير في هذا المجال حتى السنوات الأخيرة التي شهدت تطوراً لافتاً في مجال الروبوتات، واستكشاف الفضاء، وتقنيات استخراج الموارد التي أحيت فكرة "تعدين القمر".
يحمل "الهيليوم-3"، وهو نظير نادر للهيليوم، المفتاح لمستقبل من الطاقة الوفيرة والنظيفة لكوكب الأرض. وعلى عكس الهيليوم الذي نواجهه عادة، يحوي "الهيليوم-3" على نيوترون واحد فحسب في نواته بدلاً من النيوترونين المعتادين، وهذا الاختلاف يجعله ذا قيمة عالية لغرض محدد ألا وهو تفاعل الاندماج النووي.
ويقدم هذا الغاز الثمين بخصائصه الفريدة، بصيصاً من الأمل في السعي وراء تفاعلات الاندماج النووي الخاضعة للرقابة، حيث يتم إنتاجه بكثرة بواسطة الشمس وتحمله الرياح الشمسية في جميع أنحاء الكون. ومع ذلك، لا يوجد على الأرض إلا بكميات ضئيلة، مما يجعله مورداً ثميناً.
ترجع ندرة "الهيليوم-3" على الأرض في المقام الأول إلى حقيقة أن الغلاف الجوي لكوكبنا يتعرض لصعقات مستمرة من الأشعة الكونية، مما يتسبب في فقدان هذا الغاز في الفضاء. وفي المقابل تراكمت لدى القمر، الذي يفتقر إلى غلاف جوي كبير، كميات كبيرة من "الهيليوم-3" على مدى أكثر من مليار عام.
دوره في إنتاج الطاقة
تكمن إمكانات "الهيليوم-3" في قدرته على إطلاق العنان لمصدر طاقة نظيف وغير محدود فعلياً، وحل عديد من تحديات الطاقة والبيئة التي تواجه كوكبنا. وعندما يتم دمجه مع الديوتيريوم، وهو نظير مستقر للهيدروجين، يمكن أن يخضع للاندماج النووي، مما يؤدي إلى إطلاق كمية هائلة من الطاقة تتجاوز بكثير ما يمكن تحقيقه من خلال تفاعلات الانشطار النووي التقليدية.
وعلى عكس المفاعلات النووية التقليدية التي تعتمد على اليورانيوم أو البلوتونيوم، فإن مفاعلات الاندماج التي تستخدم "الهيليوم-3" ستنتج الحد الأدنى من النشاط الإشعاعي ولن تولد نفايات نووية ضارة، وهذا يقلل بشكل كبير من الأثر البيئي والأخطار المحتملة المرتبطة بالطاقة النووية. إضافة إلى ذلك، تُقدر الطاقة المنطلقة من تفاعل الاندماج الذي يتضمن "الهيليوم-3" بعشرة ملايين ضعف طاقة التفاعل الكيميائي، مما يجعله مصدر طاقة فعالاً بشكل لا يصدق.
وتشير تقديرات العلماء النوويين إلى أن مجرد كيلوغرام واحد من هذا الغاز يحوي على طاقة كافية لتزويد مدينة صغيرة بالطاقة لمدة عام كامل. ويمكن لهذه الكفاءة أن تقلل بشكل كبير من اعتمادنا على الوقود الأحفوري وتساعد في مكافحة تغير المناخ.
الجهود العالمية لاستخراجه من القمر
أظهرت الصين بعيد إطلاقها لبعثتي "تشانغ آه 4" في 2018 و"تشانغ آه 5" في 2020 لدراسة البيانات المتعلقة بتضاريس وتكوين التربة، اهتماماً كبيراً بغاز "الهيليوم-3". ومذاك الحين يعمل معهد "بكين لبحوث جيولوجيا اليورانيوم" (BRIUG) لقياس محتوى "الهيليوم-3" في التربة القمرية، وتقييم طرق استخراجه، ودراسة التثبيت الأرضي لهذا النظير. وتعكس هذه التطورات أيضاً استراتيجية بكين الشاملة للسيطرة على المعادن القمرية لا سيما وأنها تستعد لإنشاء "قاعدة بحثية" في القطب الجنوبي للقمر بحلول عام 2030.
وفي عام 2022، أعادت بعثة "تشانغ آه 5" إلى الأرض معدناً جديداً من سطح القمر وصفته وكالة أنباء "شينهاو" الرسمية بأنه "نوع من الكريستال العمودي الشفاف عديم اللون". وقال العلماء الصينيون حينها إن المعدن الجديد يحوي على "الهيليوم-3" القادر على تغيير العالم.
ولعل أكثر من يعمل على استخراج "الهيليوم-3" حالياً هي شركة "إنترلون" الأميركية التي تضم نخبة من علماء الفضاء والتقنيين، وأمضت نحو أربعة أعوام على تطوير تكنولوجيا استخراج هذا الكنز الثمين. وتعتزم الشركة أن تكون أول من يجمع الموارد القمرية ويعيدها ثم يبيعها على الأرض، موضحة أن هناك طلباً كبيراً على "الهيليوم-3" في صناعة الحوسبة الكمومية، وأنها وجدت بالفعل عملاء يريدون شراء الموارد القمرية بكميات كبيرة.
وتنوي الشركة إجراء مهمة تنقيب في وقت مبكر من عام 2026، حيث ستطلق صاروخاً تجارياً ومركبة فضائية إلى منطقة من القمر يعتقد أنها تحوي على كميات كبيرة من "الهيليوم-3". وبمجرد وصولها إلى هناك، ستقوم المركبة بالحفر عبر التربة القمرية، وإذا سار الأمر كما هو مخطط له، فإن الشركة تأمل في إطلاق مهمة أخرى في 2028 والتي ستكون بمثابة "عرض توضيحي شامل للعملية بأكملها"، وهذا يستلزم إرسال آلة حصاد إلى القمر، والتي من شأنها أن تلتقط التربة القمرية، ثم تقوم بمعالجتها لفصل "الهيليوم-3". بعد ذلك سيتم إرجاع كمية صغيرة وتسليمها للعملاء، لتقدم الشركة بحلول عام 2030، على إجراء عمليات واسعة النطاق.
وبما أن الوصول إلى القمر أمر صعب ومكلف، سيتعين على "إنترلون" الاعتماد على عدد من عمليات الإطلاق والتقنيات غير الموجودة بعد، مثل العربة الجوالة القمرية التي ستستخرج التربة القمرية. ومن أجل ذلك، طورت الشركة تقنية استخراج صغيرة وخفيفة ولا تتطلب قدراً هائلاً من الطاقة، مما يسهل نقلها إلى القمر والعمل هناك.
ومن جهتها، لا تخفي وكالة الفضاء الأميركية "ناسا" اهتمامها بثروات القمر، إذ أعلن مدير الوكالة السابق جيم بريدنشتاين عام 2020، أن "ناسا" تريد "تأسيس اليقين التنظيمي لاستخراج الموارد الفضائية والإتجار بها". وفي وقت سابق من هذا العام، حاولت مركبتان فضائيتان تجاريتان الهبوط على سطح القمر كجزء من برنامج "ناسا" المصمم لنقل الأدوات والتجارب إلى سطح القمر، وفي النهاية نقل البضائع والمركبات الجوالة.
أما وكالة الفضاء الأوروبية فتتطلع بدورها نحو إنشاء مستعمرات أو قواعد دائمة على القمر تباشر من خلالها التنقيب عن "الهيليوم-3" واستخدامه لاحقاً لتزويد المركبات الفضائية بالوقود من دون وجود تاريخ محدد لإطلاق هذا المشروع.
كيفية استخراجه
وتتضمن عملية استخراج "الهيليوم-3" من القمر خطوات معقدة وتستهلك الكثير من الموارد. فأولاً تتطلب نشر مركبات التعدين الآلية على سطح القمر لجمع التربة القمرية. ويتوجب تجهيز هذه المركبات بأجهزة استشعار وأدوات متقدمة لتحديد واستخراج التربة التي تحوي أعلى تركيز من هذا الغاز.
وبمجرد جمع التربة فإنها ستخضع لعملية تسخين دقيقة لتحرير ذرات "الهيليوم-3" المحبوسة. وتتطلب عملية التسخين هذه تحكماً دقيقاً في درجة الحرارة لتجنب إتلاف المورد الثمين وضمان نقائه. وبعد استخراج الذرات سيتم احتواؤها بعناية وإعادتها إلى الأرض، وستتضمن هذه العملية أنظمة تخزين ونقل متطورة لمنع أي تسرب أو تلوث.
التأثير البيئي
من العوامل المؤثرة عند النظر في أي مصدر للطاقة هو تأثيره البيئي. وهنا يقدم "الهيليوم-3" صورة إيجابية ذلك أن تفاعلات الاندماج النووي باستخدام هذا الغاز لا تنتج أي غازات دفيئة تقريباً، وهذا يتناقض كلياً مع احتراق الوقود الأحفوري، الذي يطلق كميات كبيرة من ثاني أكسيد الكربون والغازات الدفيئة الأخرى في الغلاف الجوي، مما يساهم في ظاهرة الاحتباس الحراري وتغير المناخ.
وإضافة إلى عدم وجود انبعاثات الغازات الدفيئة، فإن تفاعلات اندماج "الهيليوم-3" لا تنتج أي ملوثات للهواء تساهم في الضباب الدخاني أو أشكال أخرى من تلوث الهواء، وهذا ما يجعله خياراً نظيفاً ومستداماً للطاقة يمكنه تحسين جودة الهواء بشكل كبير وتقليل الآثار الصحية السلبية المرتبطة بمصادر الطاقة التقليدية.