في وقت تخوض روسيا حربها في أوكرانيا، فإنها تخسر معركة الداخل في مواجهة التضخم، وفي العام الماضي، ضاعف البنك المركزي الروسي أسعار الفائدة بأكثر من الضعف لترويض الأسعار، لكن التضخم استمر في الارتفاع، فتجاوز 9% هذا الشهر، مع ارتفاع كلفة مجموعة واسعة من السلع والخدمات، من البطاطا (التي ارتفعت بنسبة 91% حتى الآن هذا العام) إلى الرحلات الجوية من الدرجة الاقتصادية (التي ارتفعت بنسبة 35%).
رفع البنك المركزي سعر الفائدة القياسي بمقدار نقطتين مئويتين أخريين الجمعة الماضي إلى 18%، مما يجعله أحد البنوك المركزية القليلة في العالم التي ترفع أسعار الفائدة هذا العام.
واليوم أصبح التضخم سمة يصعب التخلص منها في اقتصاد الحرب الروسي، وعلى رغم أن ارتفاع الأسعار قد تراجع في معظم أنحاء العالم المتقدم، فإن صراع روسيا مع استقرار الأسعار يزداد سوءاً.
وأدى ارتفاع الإنفاق العسكري من قبل الحكومة ونقص العمالة نتيجة ذهاب الرجال في سن العمل إلى الجبهة أو الهرب، إلى زيادة الأجور ورفع الأسعار. في الوقت نفسه، عقدت جولات جديدة من العقوبات الأميركية المدفوعات الدولية، مما زاد من كلفة المستوردين.
وعلى رغم أن الأسعار لا ترتفع بسرعة كافية للتسبب في أزمة اقتصادية أو اضطرابات اجتماعية، فإنها تشير إلى التزايد المستمر في الاختلالات داخل الاقتصاد، ويعني التضخم العنيد أيضاً أن مواصلة الحرب تصبح أكثر كلفة، مما يؤدي إلى زيادة أكبر في الإنفاق العسكري.
وقالت المسؤولة السابقة في البنك المركزي الروسي والباحثة الحالية في مركز "كارنيغي" لروسيا وأوراسيا، ألكسندرا بروكوبيكون، لصحيفة "وول ستريت جورنال"، "في معركة التضخم، ليس لدى السلطات الروسية خيارات جيدة، لا يمكنها إيقاف الحرب، لا يمكنها حل مشكلة العمالة، ولا يمكنها التوقف عن رفع الأجور للسكان. طالما استمرت الحرب، سيظل التضخم مرتفعاً".
وصرح الكرملين للصحافيين، الخميس الماضي، بأنه يعمل على إجراءات للحد من الأسعار، إذ إن "بعض العمليات التضخمية تثير قلق الحكومة والبنك المركزي".
وبعد معاناة من ركود اقتصادي عقب بدء الحرب، انتعش الاقتصاد الروسي عندما وجد المسؤولون والشركات طرقاً للالتفاف على العقوبات الغربية وبيع النفط في الخارج، لكن في الوقت نفسه، عاودت الحكومة الإنفاق العسكري على الطراز السوفياتي، وهو ما يعادل نحو سبعة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، بوصفه محركاً رئيساً للنمو الاقتصادي، وتعمل المصانع التي تنتج الدبابات والطائرات من دون طيار وملابس الجنود في نوبات متعددة، سبعة أيام في الأسبوع، وأدى ذلك بدوره إلى رفع الأجور وزيادة الأسعار.
"ظاهرة مثيرة للفضول"
وفي مايو/ أيار الماضي، استبدل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بوزير الدفاع القديم سيرغي شويجو أندريه بيلوسوف، وهو اقتصادي كلي ومؤيد لتدخل الدولة في الاقتصاد. ويقول المحللون إن هذا التعيين كان اعترافاً بأن الاقتصاد والحرب أصبحا متشابكين بصورة عميقة.
وكان البنك المركزي الروسي أبقى سعر الفائدة الرئيس عند مستوى مرتفع نسبياً يبلغ 16% منذ ديسمبر/ كانون الأول الماضي، لكن ذلك لم يكن له تأثير يذكر على الأسعار. ولخفض أسعار الإسكان الخارجة عن السيطرة، أنهت السلطات هذا الشهر برنامج دعم الرهن العقاري الشهير الذي قدم معدلات مخفضة تصل إلى ثمانية في المئة، وهو نصف معدل البنك المركزي، وساعد البرنامج في حماية الروس من آثار الحرب لكنه أيضاً أسهم في تضخم فقاعة العقارات.
وكتب محللون في "جيه بي مورغان" في تقرير حديث أن مقاومة الاقتصاد الروسي للسياسة النقدية المتشددة "تبقى ظاهرة مثيرة للفضول".
وقال الاقتصادي في معهد فيينا للدراسات الاقتصادية الدولية فاسيلي أستروف، "هذا يظهر بوضوح حدود السياسة النقدية في ظل وضع التوسع المالي وأسواق العمل الضيقة للغاية... ليس للبنك المركزي تأثير كبير، إن وجد، على السياسة المالية ولا تأثير في الإطلاق على الديموغرافيا"، مشيراً إلى تقلص عدد السكان والقوى العاملة في البلاد.
وقال البنك المركزي في تقرير حديث، إن خفض التضخم سيتطلب فترة أطول بكثير من أسعار الفائدة المرتفعة مقارنة بتوقعاته السابقة.
التضخم وذكريات أزمة التسعينيات الاقتصادية
وأفاد موقع "مؤشر بورشي"، وهو مقياس لكلفة المعيشة يتتبع أسعار البنجر والقشدة الحامضة والمكونات الأخرى للحساء التقليدي الشهي، بزيادة قدرها 26% مقارنة بالعام الماضي.
ويثير التضخم بين الروس، ذكريات أزمة التسعينيات الاقتصادية خلال التحول المؤلم إلى اقتصاد السوق، وأدى ارتفاع الأسعار إلى دفع البعض لتقليص استهلاكهم، وتقييد عطلاتهم أو التجمع في مجموعات "تيليغرام" لمناقشة أفضل الصفقات المتاحة.
ويعد نقص العمالة المتزايد عاملاً رئيساً وراء ارتفاع التضخم، في وقت تجند روسيا ما يصل إلى 30 ألف جندي كل شهر، بينما فر مئات الآلاف لتجنب التجنيد الإجباري.
وتفاقم التراجع الديموغرافي في روسيا من نقص العمالة المتاحة، إذ أفاد المسؤولون بتناقص عدد خريجي المدارس الثانوية والجامعات، وانخفض عدد المهاجرين، الذين كانوا دائماً مصدراً طويل الأمد للعمالة، ومن المحتمل أن يستمر هذا الاتجاه بعد أن نفذت السلطات ضوابط هجرة أكثر صرامة استجابة لهجوم إرهابي في مارس/ آذار الماضي على قاعة حفلات "كروكس سيتي هول"، الذي أودى بأكثر من 140 شخصاً.
ووفقاً للبنك المركزي الروسي، تفتقر الشركات إلى كل من المؤهلين تأهيلاً عالياً والعمالة غير الماهرة.
العقوبات الأميركية ومعاناة المستوردين الروس
وقال نائب رئيس الوزراء دينيس مانتوروف الشهر الماضي، إن قطاع الدفاع، يعاني نقصاً بنحو 160 ألف متخصص، على رغم سحب أكثر من نصف مليون عامل من القطاع المدني على مدار العام ونصف الماضيين.
وفي الوقت نفسه، يعاني المستوردون الروس من العقوبات الأميركية المفروضة هذا العام التي زادت من خطر العقوبات الثانوية على البنوك الأجنبية التي تتعامل مع روسيا. وانخفضت الصادرات الصينية إلى روسيا في الأشهر الأخيرة، وتراجعت التجارة التركية مع روسيا تحت ضغط العقوبات هذا العام.
وقال أستروف، "عادة ما تجد روسيا وشركاؤها في الجنوب العالمي طرقاً للالتفاف على العقوبات... لكن هذا سيكون متكرراً، لأن الولايات المتحدة من المرجح ألا تتوقف عند هذا الحد، وفي النهاية، سيكون على المستهلكين والشركات الروسية تحمل الكلفة".