7 يوليو 2024
29 أكتوبر 2023
يمن فريدم-أحمد الأغبري

 

تكاد فلسطين أن تكون الامتحان الأبرز لما تبقى من عروبة في شعوب البلدان العربية، وفي النتيجة يمكن القول إن هذه الشعوب قد تجاوزت الامتحان بجدارة انحيازها للمظلومية الفلسطينية، وحقها في الانتصار لقضيتها وتحرير أرضها ومقاومة المحتل الغاصب؛ وهذا الموقف ليس وليد لحظته أو تماهيًا عاطفيًا وقتيًا مع ما تتعرض له غزة جراء فظاعة جرائم العدوان الإسرائيلي؛ بل هو أكبر من ذلك، إذ إن هذه الجرائم قد جاءت تأكيدًا إضافيًا بأن هذا العدو على مدى تاريخه، قد استمرأ همجية الغاصب والمحتل، الذي نقرأه في تاريخ طويل من الدماء والدماء.

 

في اليمن يرتبط أبناؤه بعلاقة وثيقة بالقضية الفلسطينية، وهي علاقة لها تاريخ، إلا أن اللافت في المحطة الراهنة التي تعيشها القضية الفلسطينية أنها جاءت واليمن يعيش حربا أفرغت حياة الناس من قيمتها، وهم يبحثون عما يسد رمق جوع لنحو ثمان سنوات، تمزق خلالها النسيج الوطني، واهترأ النسيج الاجتماعي، إلا أنهم، في مفارقة لافتة، تجاوزا ذلك الواقع المأساوي الأليم والمتشظي، و جاءت ردود أفعالهم الشعبية واحدة من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب إزاء ما تتعرض له غزة، ليخرجوا متوحدين مع مظلومية فلسطين، ومساندين للفعل المقاوم للمحتل؛ وهو ما ترجموه في مظاهرات ومسيرات ووقفات احتجاجية وتضامنية وفعاليات مختلفة على امتداد البلد، وتجاوز ذلك المدن الرئيسية إلى المدن الثانوية؛ مسجلين موقفا عزز من حضورهم العروبي في مرحلة حرجة من تاريخهم وتاريخ العرب عمومًا؛ وهو الفعل التظاهري والاحتجاجي الشعبي الذي ما زال مستمرا.

 

كما تجدهم يعبرون عن التضامن في مجالات أخرى كالكتابة عبر منصات التواصل ووسائل الإعلام، والرسم الكاريكاتوري والفن التشكيلي والشعر، وغيرها من فنون القول والتعبير، التي تُسند الموقف الشعبي، لاسيما وهم يجدون كل يوم فصلاً من فصول أبشع عدوان في التاريخ، وهو عدوان بلغ استهداف أصوات الحقيقة؛ وهو يستهدف الصحافيين والإعلاميين سعيًا منه لإسكات أصواتهم، بل بلغ به الحد أن استهدف ذوي الصحافي نفسه؛ في محاولة للضغط عليه لتجنب القيام بمهمته، كما كان مع عائلة مراسل قناة الجزيرة في غزة وائل الدحدوح، إذ استهدف العدوان الإسرائيلي بكل همجية منزل عائلته؛ واستشهدت زوجته وابنه وابنته وغيرهم من أفراد أسرته.

 

يقدّم الاحتلال الاسرائيلي بهذا المستوى من الجرائم أدلة إضافية وجلية على همجيته؛ لكن كل ذلك لا يراه الغرب وأمريكا؛ فهم لا يرون الدماء وكل هذا الدمار بقدر ما يرون حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها…لينطفئ بتلك الكلمات بريق قيم الحضارة الغربية؛ وكأن فلسطين لم تكن امتحانًا لقيم العرب بل لقيم العالم كله.

 

عودًا على بدء؛ يسجل اليمن شعبيا موقفًا متقدمًا في الاصطفاف مع القضية الفلسطينية والمقاومة كثنائي لا يمكن التفريق بينهما؛ لأن التخلي عن مقاومة المحتل يعني الاعتراف العملي بحقه في الأرض، بينما تبقى الأرض والقضية ما بقيت مقاومة المحتل؛ علاوة أن مقاومة المحتل حق لكل شعوب الأرض، والتي سبق لها أن مارسته، بل هو درس بات يقينًا في ذهنيات الشعوب، وبالتالي فالموقف الشعبي اليمني يوقن هذه الحقيقة، ولا يلتزم فيها موقف أي تيار سياسي؛ لأن هذا الموقف أكبر من أي تيار؛ بل إن هذا الموقف قديم قدم النضال الفلسطيني، بل يعود إلى ثلاثينيات القرن الماضي في علاقته بمساندة هذه القضية وهذه المظلومية.

 

ما قبل النكبة

 

يستعرض الكاتب مُحمّد عبد الوهاب الشيباني، رئيس تحرير منصة خيوط الإعلامية، بعضاً من محطات علاقة اليمنيين بالقضية الفلسطينية.

 

ويقول لـ "القدس العربي": "ارتبط اليمنيون وجدانيا بالقضية الفلسطينية منذ بواكيرها، وترد، مثلا، في سيرة الاستاذ النعمان أنه عندما وصل إلى القاهرة في أواخر ثلاثينيات القرن الماضي (1938) ذهب إلى مجلس الصحافي الفلسطيني وصاحب جريدة الشورى محمد علي الطاهر، وعرّف بنفسه بأحمد محمد أحمد نعمان- ذبحان؛ فرحّب به الطاهر ترحيبًا كبيرًا، ثم عرف الجالسين بضيفه وبصنيعه منذ كان يقوم بجمع تبرعات بسيطة من الأهالي والميسورين في منطقته لدعم فلسطين، وارسالها بواسطته مغلفة وممهورة بخطه الجميل تحت هذا الاسم، وهذا الفعل وغيره صار لاحقاً موضوعاً لكتاب حسن شكري زيوار "مركزية النعمان القيادية للأحرار في دعم فلسطين. الثورة العربية الكبرى 1936-1939م أنموذجاً".

 

ويستطرد الشيباني متوقفًا أمام استضافة اليمن بعض القوات والأسر الفلسطينية حتى صار بعضها جزءًا من النسيج الاجتماعي، وصولًا إلى تطوع عشرات اليمنيين ضمن فصائل المقاومة قائلا: "وفي قرابة تسعين سنة من هذه المبادرة حضر النزوع الشعبي اليمني لدعم القضية الفلسطينية في أهم محطاتها ابتداءً من عام النكبة الأولى 1948 والثانية 1967 مروراً بأيلول/سبتمبر 1970 (أيلول الأسود) وصيف 1982 حين اجتاحت القوات الصهيونية بيروت لإخراج المقاومة الفلسطينية منها، والتي وصلت على إثرها بعض من القوات والأسر الفلسطينية إلى اليمن شمالاً وجنوباً واستقبلت بحفاوة كبيرة، وفتح لها معسكران كبيران الأول في نواحي صنعاء وحمل اسم صبرا والثاني خارج مدينة عدن وسمي شاتيلا. واستقرت عشرات العائلات الفلسطينية في المدن اليمنية، وصار بعضها جزءاً من النسيج الاجتماعي بحكم التزاوج. وكان قبلها عشرات المتطوعين اليمنيين جزءًا من فصائل المقاومة الفلسطينية اللبنانية، التي تصدت لقوات الاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان، ولم يزل الكثير يتذكرون صمودهم في معركة قلعة الشقيف الشهيرة واستشهاد بعضهم فيها".

 

ويضيف مستكملًا الحديث عن أبرز محطات الموقف اليمني في علاقته بفلسطين قائلاً: "في الانتفاضة الأولى 1987 شهد اليمن حملات مساندة كبيرة ومهرجانات سياسية وثقافية كبيرة، وأتذكر منها فعالية ندوة الفكر والفن لدعم الانتفاضة، التي تبنتها جامعة صنعاء بإشراف رئيسها الراحل الدكتور عبد العزيز المقالح، وحضرها الكثير من المثقفين والمفكرين والأدباء والفنانين العرب. وفي الانتفاضة الثانية (انتفاضة الأقصى) كان لليمنيين حضوراً اسنادياً معنويًا واضحًا، فتسمت بشهدائها ورموزها المدارس والشوارع كالشهيد محمد الدرة، الذي قتلته قوات الاحتلال أمام مرأى ومسمع العالم في أيلول/سبتمبر2000 وهو إلى جوار والده في غزة. وهاهم اليوم بكل جوارحهم معنيون بأحداث غزة الدامية يدينون آلة القتل الصهيونية وداعميها من حكومات الغرب العنصرية".

 

التوحد الشعبي

 

ويخلص الكاتب والشاعر محمد عبد الوهاب الشيباني متحدثًا عما يقف وراء الموقف الشعبي اليمني مع فلسطين وقضيتها قائلا: "في كل هذه السنوات يتوحد وجدان اليمنيين شعبياً في التعاطف مع القضية المركزية الأولى للعرب لنوازع قومية ودينية لما تمثله أرض فلسطين وعاصمتها القدس تحديدًا من رمزية عند العرب والمسلمين. وعادة ما تُجاري الحكومات وسلطات الحكم هذا النزوع الشعبي التعاطفي لتقدم نفسها كصوت له، وهو أمر تفضحه ترتيباتها السرية ومنافعها مع القوى المؤثرة والداعمة لدولة الاحتلال، كما هو الحاصل اليوم مع دول المركز في الغرب الداعمة للعملية العسكرية في غزة بنزوعها العنصري والاجرامي في عملية إبادة وتطهير عرقي وتهجير للسكان، ولا تقدِم مثل هذه الحكومات والقوى، التي ترفع شعارات المقاومة، على أي فعل لإيقاف عملية الإبادة الصهيونية المتواصلة بحق المدنيين الفلسطينيين".

 

وأكد أنه "خلال سنوات الحرب الثمان في اليمن لم نشهد ما يجمع اليمنيين في الجنوب والشمال مثلما جمعتهم مؤخراً الأحداث الدامية في غزة، فخرجت المظاهرات المساندة للصمود الفلسطيني في وجه آلة القتل الصهيوني في كل المدن، رغم محاولات سلطات الأمر الواقع تجييرها لصالح شعاراتها السياسية بكل فجاجة".

 

موقف تاريخي

 

من جانبه يرى الكاتب هايل علي المذابي أن الموقف الشعبي اليمني مع فلسطين هو امتداد لما اعتبره مثالًا للشرف ليس في علاقته بالقضية الفلسطينية، ولكن مع كل القضايا الإنسانية العادلة.

 

وقال لـ "القدس العربي": "سيظل الشعب اليمني وستظل مواقفه مثالا للشرف الإنساني، ليس فقط مع القضية الفلسطينية، ولكن مع كل القضايا الإنسانية العادلة، وتاريخنا يشهد بذلك. فلم يخذل اليمنيون مظلومًا، ولم يتوانوا عن نصرة ملهوف، والأنصار في المدينة المنورة هم الذين نصروا النبي عندما خذله قومه، وهم ذاتهم قبائل اليمن الذين ينصرون فلسطين وشعبها اليوم، فموقفهم اليوم ووحدتهم هو امتداد لتاريخ يجمعهم بالقضية الفلسطينية علاوة على ما تمثله القضية الفلسطينية في الذاكرة والتاريخ العربي المعاصر باعتبارها مرتكزا لا يمكن تجاوزه وهو ما تدركه الشعوب العربية جيدا، بما فيها الشعب اليمني".

 

الحراك الشعبي الذي وحد اليمنيين تجاه فلسطين هو جزء من حراك شعبي عربي استطاع إيصال رسالة بموقف هذه الشعوب مما يتعرض له أشقاؤهم الفلسطينيون، في ظل شعور بالعجز يكبلهم عن مساندة الضحايا هناك، فيما يتعرضون له من جرائم لا حد لوحشيتها، وهذا الشعور بالعجز يدركونه جيدًا، ونجده يظهر بوضوح في رد الفعل التظاهري الاحتجاجي القوي، الذي يؤكد أن هذه الشعوب ما زالت حية بثقافتها وقيمها وموقفها من فلسطين ومقاومة المحتل الغاصب.

 

(صحيفة القدس العربي)

 

الفيس بوك
تويتر

جميع الحقوق محفوظة YemenFreedom ---- تصميم وبرمجة ALRAJIHI