بوزنها الثقيل تغري مخلفات الأسلحة التي تركها طرفا الحرب في مدينة الحديدة، غربي اليمن، الأطفال الذين يبيعونها لتجار الخردة. وعلى الرغم من خطر انفجارها في وجوههم، فإنهم لا يكفون عن البحث عنها وجمعها من المزارع ومناطق المواجهات.
وتلقى شظايا وبقايا الأسلحة النارية رواجا كبيرا لدى تجار الخردة في البلاد، إذ يبيعونها بأسعار مرتفعة للحرفيين الذين يعيدون تدويرها في صناعة سلع ذات جودة عالية، مثل الخناجر التقليدية (الجنبية) والفؤوس والسكاكين الكبيرة وأدوات الحراثة.
ولا يكف الأطفال في شارع الخمسين ومدينة الصالح، شمال شرقي المدينة، عن البحث لجمع مخلفات الأسلحة، على الرغم من الحوادث المتكررة لانفجار الألغام والعبوات الناسفة التي راح ضحيتها عدد كبير منهم، بين قتيل وجريح.
وكانت القوات الموالية للحكومة اليمنية تقدمت نحو مدينة الحديدة الخاضعة لسيطرة الحوثيين عام 2018، وفرضت عليها حصارا. وحتى انسحابها من هناك في نوفمبر/تشرين الثاني 2021، بنى الطرفان تحصينات دفاعية من الألغام والعبوات المتفجرة على طول خطوط التماس.
عودة إلى المجهول
وبعد توقف الحرب وعودة المدنيين إلى منازلهم، كان القتال قد دمّر معظم المزارع، واضطر العاملون فيها إلى البحث عن بدائل جديدة. ودفعتهم الظروف المزرية للبحث عن مخلفات الأسلحة وبيعها لتجار الخردة.
وبات الدخل الضئيل الذي يكسبونه شريان حياة لهم، إذ يقول عبده إبراهيم (أحد سكان المدينة) للجزيرة نت "إن الوضع المعيشي الصعب أجبرهم على المخاطرة في المناطق التي كانت ساحة للقتال والبحث فيها عن مصدر رزق لهم".
ويضيف إبراهيم "نحن سنموت سواء بالألغام والمتفجرات أو من الجوع في منازلنا، فالمزارع التي كنا نعمل فيها دُمرت تماما".
ووفق أحدث بيانات برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة، فإن 6 ملايين يمني يقفون على شفا المجاعة، ويتحدث سكان مدينة الحديدة عن ظروف معيشية بالغة الصعوبة، على الرغم من إعادة الفتح الجزئي للميناء الذي يُعد المنفذ الرئيس للمساعدات الغذائية والواردات.
ويقول وليد -وهو عامل في متجر براتب شهري- للجزيرة نت إن بعض الرواتب لا تتجاوز 60 ألف ريال يمني (قرابة 100 دولار)، وأكثر الناس لم تعد لديهم أعمال، إضافة إلى توقف رواتب الموظفين الحكوميين منذ عام 2016.
الخردة مقابل الغذاء
في منطقة المحمدية بمديرية الحالي، بدا الطفل ياسر حميد سعيدا وهو يحمل بين يديه قذيفة هاون لم تنفجر، أضافها إلى كيس بلاستيكي جمع فيه مخلفات فارغة للأعيرة النارية.
يقول الطفل ياسر -للجزيرة نت- وهو يرافق قريبه الشاب، الذي يبحث بدوره عن مخلفات الأسلحة، إن بيع تلك القذيفة سيؤمن له ولأسرته الطعام، مضيفا: "أريد أن آكل".
وتُباع خردة الحديد بأسعار بخسة، إذ يعادل سعر الكيلو الواحد نحو 80 ريالا يمنيا (0.14 دولار). ويعزو تجار الخردة تراجع سعر الحديد إلى توقف مصانع إعادة تدوير الحديد في المدينة، وزيادة تكاليف النقل وصعوبة تصدير الخردة خارج البلاد.
لكن ياسر لا يكتفي بالحديد فقط، فالمخلفات البلاستيكية التي تركها المقاتلون تعد مكسبا كبيرا، فالكيلو الواحد من البلاستيك يُباع بضعف ثمن كيلو الحديد.
غير أن تلك المخلفات غالبا ما تكون في أماكن الألغام والعبوات المتفجرة. ويقول السكان إنه كلما توغلت في تلك المناطق تجد حديدا أكثر، وهو ما يثير رغبة الأطفال في خوض مغامرة تنتهي أحيانا بمأساة.
حرب يومية
مثّل انسحاب القوات الحكومية من الحديدة انفراجا أمنيا كبيرا، لكن الألغام والعبوات الناسفة لا تزال حربا يومية للسكان. ووفقا لـ"المرصد اليمني للألغام"، وهو منظمة غير حكومية تُعنى بتوثيق ضحايا الألغام، فإن 349 مدنيا قُتلوا وأُصيب 523 آخرون بين يناير/كانون الثاني 2022 وأبريل/نيسان 2023، معظمهم في الحديدة.
وأوضح المرصد، في بيان، أن غالبية الضحايا من الأطفال، إذ قُتل 120 وأُصيب 217 طفلا. ويبدو أن النسبة الكبرى منهم كانوا يبحثون عن خردة بين مخلفات الحرب، حسب ما يقول أحد السكان الذي اكتفى بالإشارة إلى اسمه بأحمد.
ويضيف في حديث للجزيرة نت: "نسمع كثيرا عن قصص أطفال يموتون بسبب الألغام، لكن في منطقتنا لم يحدث ذلك".
وقالت بعثة الأمم المتحدة لدعم اتفاق الحُديدة إنها سجلت في المدينة، خلال أبريل/نيسان الماضي، 13 ضحية في صفوف المدنيين جراء الألغام الأرضية والمتفجرات.
وساعدت الرياح في تعرية الألغام المدفونة. ومع ذلك، فإن السلطات لم تتخذ أي خطوة لنزعها. وحسب أحمد، فإن الحوثيين نصبوا لافتات تحذيرية في أماكن خالية من الألغام، وتجاهلوا تحديد المناطق التي توجد فيها ألغام.
ويضيف "صرنا نعرف الأماكن، لأن الريح أظهرت الألغام، واكتشفنا أن حقول الألغام المفترضة لا توجد فيها ألغام".
ويقول إن الألغام لم تتسبب في مقتل كثير من الأشخاص فحسب، بل أدت أيضا إلى تدمير الزراعة، وهو ما تسبب في خسائر فادحة للمزارعين الذين أصبحوا يخاطرون بأرواحهم وأطفالهم.
والأربعاء الماضي، حذرت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) من أن نحو 6 ملايين طفل يمني على أبواب المجاعة ما لم يتم اتخاذ إجراءات عاجلة تضمن توفير التمويل الكافي لتقديم المساعدات المنقذة لحياتهم.
وحاول الحوثيون منع تجار الخردة من شراء مخلفات الأسلحة، لكن جهودهم فشلت إذ يستمر بيع هذه المخلفات بلا هوادة.