بعد مرور عامين على الغزو الروسي لأوكرانيا، يتفق الخبراء على شئ واحد، ألا وهو أن الاقتصاد الروسي لم ينهر بعد. وجاء ذلك على خلاف توقعات الكثير من الخبراء عقب فرض الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ودول أخرى عقوبات غير مسبوقة على الدب الروسي في أعقاب اجتياحه العسكري لأوكرانيا أواخر فبراير / شباط عام 2022.
لكن اللافت للأنظار هو أنه بعد عامين على الحرب بات النقاش الغربي حول مستقبل الاقتصاد الروسي يتسم بالواقعية، إذ لم يعد يشكك كثيرون في مدى مرونة اقتصاد روسيا، وأصبح الخلاف منحصرا حول مدى صلابة الأسس وراء الأرقام القوية الحالية.
فقد توقع صندوق النقد الدولي مؤخراً أن يرتفع الناتج المحلي الإجمالي في روسيا بنسبة 2.6% هذا العام في زيادة كبيرة مقارنة بتقديرات الصندوق في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي. يُضاف إلى ذلك تحقيق زيادة في معدل النمو بنسبة تقترب من 3 بالمئة العام الماضي بالتزامن مع ارتفاع العائدات النفطية مجددا وبلوغ البطالة أدنى مستوياتها على الإطلاق.
ورغم ذلك، فإن الشكوك مازالت قائمة خاصة في ظل ارتفاع الإنفاق العسكري في روسيا إلى مستوى غير مسبوق، حيث يُتوقع تخصيص نسبة 40 بالمئة من إجمالي ميزانية العام الجاري على الإنفاق الدفاعي والأمني في إطار ما يُعرف باقتصاد الحرب.
ورغم الأرقام الاقتصادية الجيدة، إلا أن روسيا تعاني من نقص متزايد في العمالة وسط ارتفاع معدلات التضخم فيما تستمر العقوبات في إلحاق الضرر، خاصة في ظل تعهد قادة الدول الغربية بالبحث عن طرق جديدة تقوض القدرة الشرائية لموسكو.
"ثلاثة" أسباب لصمود الاقتصاد الروسي
في مقابلة مع DW، قالت إيلينا ريباكوفا، الخبيرة في معهد بيترسون للاقتصاد الدولي، إن هناك ثلاثة أسباب رئيسية وراء صمود الاقتصاد الروسي بشكل جيد أمام العقوبات الغربية. وأوضحت أن السبب الأول يتمثل في أن النظام المالي الروسي كان مستعدا بما يكفي لمواجهة عقوبات مصرفية ومالية، حيث استفاد من الدروس بعد ضم شبه جزيرة القرم عام 2014، مشيرة إلى أن السبب الثاني يكمن في أن روسيا ظلت قادرة على جني إيرادات هائلة من بيع النفط والغاز عام 2022 في الخارج بسبب أن القوى الغربية كانت بطيئة في استهداف مصادر الطاقة الروسية رغم ارتفاع أسعار النفط والغاز عقب الغزو الروسي لأوكرانيا.
وقالت ريباكوفا إن السبب الثالث هو أن قيود التصدير الغربية لم تكن فعالة بما فيه الكفاية. وكانت تلك القيود ترمي إلى منع روسيا من استخدام دول ثالثة للحصول على السلع التي تحتاجها للإنتاج العسكري.
ومع ذلك، قال بنجامين هيلجنستوك، الخبير الاقتصادي في كلية كييف للاقتصاد، إنه ينبغي تسليط الضوء على قضية هامة مفادها أنه رغم أن أداء الاقتصاد الروسي كان أفضل من المتوقع، إلا أن العقوبات ما زالت تتسبب في تأثيرات كبيرة.
وفي مقابلة مع DW، قال إن "بيئة الاقتصاد الكلي لروسيا تدهورت بشكل كبير. السبب في ذلك يرجع إلى العقوبات"، مشيرا إلى انخفاض عائدات الصادرات الروسية من النفط والغاز في عام 2023 مقارنة بعام 2022.
واستشهد في ذلك بقرار البنك المركزي الروسي أواخر العام الماضي برفع معدل الفائدة الرئيسي إلى 16 بالمائة سعيا للحد من التضخم المتصاعد.
التغلب على العقوبات
ويُرجِع الخبراء أداء الاقتصاد الروسي الجيد إلى الطريقة التي تمكنت بها موسكو من الالتفاف حول العقوبات بطريقتين، الأولى تمثلت في تمكن الكرملين من التحاليل على قيود التصدير الغربية، وهو ما مهد الطريق أمام مضي روسيا قدما في شراء السلع الغربية.
ويقول الخبراء إن الطريقة الثانية تكمن في قدرة روسيا على بيع النفط والغاز إلى جميع بلدان العالم رغم وضع الدول الغربية سقف سعري للنفط الروسي أواخر عام 2022، حيث نصت تلك الآلية على وضع حد أقصى لسعر برميل النفط الروسي قدره 60 دولارا، لحرمان موسكو من وسائل تمويل حربها في أوكرانيا.
لكن ورغم ذلك، فقد ظلت روسيا قادرة على بيع إنتاجها النفطي بأسعار تقترب من أسعار السوق العالمي. ويعود الفضل في ذلك لحد كبير إلى ما سفن ما يسمى بـ"أسطول الظل"، الذي ساعد النفط الروسي في الوصول إلى الأسواق في دول مثل الصين والهند وباكستان وبالتالي التحايل على سقف الأسعار.
ويشار إلى أن الولايات المتحدة تفرض بشكل متزايد عقوبات على السفن الفردية والكيانات التي تعتقد أنها تنتهك السقف السعري للنفط الروسي، فيما يشير هيلجنستوك إلى أهمية هذه التدابير من أجل وقف مسار صادرات النفط الروسي وقال: "يمكن أن توقف مثل هذه الإجراءات مسار أسطول الظل لفترة طويلة من الوقت"، مشيرا إلى أنه فيما يتعلق بتقييد قدرة روسيا على شراء السلع الغربية عن طريق استيرادها من دول ثالثة، فإن البنوك يمكنها أن تلعب دورا حاسما.
يشار إلى أن الولايات المتحدة قد قررت أواخر العام الماضي فرض عقوبات على المصارف الأجنبية التي تدعم حرب روسيا في أوكرانيا، في خطوة لاقت إشادة من هيلجينستوك.
وعن ذلك، قال الخبير الاقتصادي في كلية كييف للاقتصاد إن "المؤسسات المالية على عاتقها دور كبير في تنفيذ هذه الضوابط المتخصصة لأنها تستطيع رصد بعض هذه المعاملات من الناحية المالية فيما قد يكون من الصعب رصدها ماديا".
مخاطر اقتصاد الحرب
ويقول خبراء إن هناك عاملا مهما آخر في الأداء الاقتصادي لروسيا وهو الإنفاق الدفاعي، الذي زاد ثلاثة أضعاف منذ عام 2021.
وفي تعليقها، قالت إيلينا ريباكوفا إن اقتصاد الحرب سوف يؤدي إلى ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي جراء زيادة الإنفاق العام لصالح ارتفاع إنتاج المعدات والأسلحة، خاصة الصواريخ والمدفعية والطائرات بدون طيار. وأضافت أن وضع اقتصاد الحرب "يخلق الكثير من الأنشطة، لكنها ليست إنتاجية على المدى المتوسط. وهذا الأمر ليس جيدا من الناحية الاقتصادية بسبب الاستهلاك بإسراف".
ويتفق في هذا الرأي كريس ويفر، مستشار الاستثمار الذي عمل في روسيا لأكثر من 25 عاما، قائلا إن اقتصاد الحرب سيتسبب في عواقب سلبية طويلة المدى بسبب أن جُل الإنفاق الإضافي يكون منصبا على السلع "الاستهلاكية" وليس الاستثمار في قطاع التصنيع.
وفي مقابلة مع DW، أضاف أن اقتصاد الحرب يعمل على استنزاف الاحتياطيات. فبمجرد انتهاء الحرب، سوف ينتهي الأمر باقتصاد أكثر تضررا بكثير وسط تخبط حيال الخطوات الرامية إلى إنقاذه".
وأشار إلى أن اقتصاد الحرب يحتوى على عنصر رئيسي يؤثر سلبا على سوق العمل ألا وهو التجنيد الإجباري، بما في ذلك حقيقة أن حوالي مليون عامل من ذوي المهارات العالية قد غادروا روسيا منذ عام 2022، ما يعني أن سوق العمل يعاني في الوقت الحالي من نقص حاد في العمالة في قطاعات هامة.
وقال كريس ويفر إن البطالة تكاد تكون معدومة، لكن الأجور قد تزايدت بشكل ملحوظ على مدار العام الماضي، مضيفا: "كان الارتفاع في الدخل محركا كبيرا لزيادة معدل التضخم الاستهلاكي وكلما طالت فترة عدم القدرة على معالجة الأزمة، أصبحت مشكلة انخفاض القوى العاملة أكثر صعوبة وأكثر تكلفة وأكثر ضررا على الاقتصاد".
ما مدى قدرة الاقتصاد الروسي على الصمود؟
وأشار ويفر إلى أن القوى الغربية سقطت في فخ التقليل من أهمية موارد روسيا الهائلة، مشيرا إلى أن مصادر الطاقة الروسية والسلع الأخرى مثل اليورانيوم مازالت ذات أهمية للأسواق العالمية.
وأوضح أن الاتحاد الأوروبي على وجه الخصوص قد أفرط في الانخراط فيما يُعرف بـ "الاقتصاد السياسي"، مضيفا "سيقول البعض إن الاقتصاد (الروسي) لم ينهر في عام 2022 أو 2023، لكنه سينهار في عام 2024 بسبب الإنفاق الصناعي العسكري الذي سيؤدي إلى انهيار الاقتصاد...هذه أضغاث أحلام".
وترى ريباكوفا أن مصير أوكرانيا يظل مرتبطا بشكل وثيق بأداء الاقتصاد الروسي، قائلة إنه على الرغم من أن العقوبات لن تكون كفيلة لوقف العدوان الروسي، إلا أنه من المهم بذل الدول الغربية المزيد من الجهود للحد بشكل أكبر من قدرة الكرملين على مواصلة الحرب.
وأضاف "يجري تقديم الدعم المالي لأوكرانيا بيد، لكن يتم تقديم الدعم لروسيا باليد الأخرى بسبب الاستمرار في شراء مصادر الطاقة الروسية، ولا يتم فرض السقف السعري للنفط الروسي بشكل صارم. تتمثل المشكلة الكبرى في عدم تطبيق قيود التصدير بشكل كامل".