عندما كانت غزة تنزف، لم ينفك الحوثيون عن تسويق أنفسهم كقوة إقليمية بارزة تدافع عنها، وراح قادتهم يتباهون باستعراض صواريخهم الإيرانية التي ستدمر إسرائيل، مهددين المنطقة والعالم بعدم الاقتراب من سلطاتهم المطلقة في صنعاء والمحافظات المحيطة بها حتى خال لهم أن الكل قد رضخ لسلطتهم المدعومة من طهران.
وبعيد الإعلان عن هروب رئيس النظام السوري بشار الأسد وسقوط نظامه كعنوان بارز لتتابع انهيارات الأذرع الإيرانية المغروسة في خواصر المنطقة العربية، شعرت جماعة اليمن المسلحة بأن الدور آتٍ عليها، خصوصاً أن الشروط الموضوعية الداخلية والدولية لمواجهة المصير ذاته تعززت، لتعود الميليشيات وتبادر بطلب التوقيع على تسوية سياسية مع الحكومة الشرعية المعترف بها التي ظلت تتلكأ في شأنها لأعوام، بل طالبت بسرعة التوقيع.
وتأتي عوامل ضيق أفق بقاء الحوثي قبيل أيام من تنصيب الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب الذي عرف بمواقف حاسمة تجاه إيران وأدواتها والتوقعات باتخاذه سياسة خشنة من الميليشيات الحوثية، مما وعد به خلال حملته الانتخابية.
شطب كلي
هذه التطورات التي لم يكُن أسوأ المتشائمين في الجماعة يتوقعها تكشف عن "تراجع حظوظها وتغير الخيارات المتاحة أمامها، لتغدو سجينة قبول ما يعرض عليها وهو قليل عما كان عليه سابقاً أو فالحرب التي تطيح بها وتشطبها كلياً كفاعل وجماعة سياسية وهو المصير الأقرب"، بحسب السياسي والكاتب خالد سلمان.
ويرى أن "الواقع صار لا شيء بيد الحوثي ليضغط به ويراهن عليه، فبات بلا حليف ولا جماعة إسناد ولا محور مقاومة وكل التوقعات تذهب نحو الخلاص من آخر وكلاء إيران في اليمن وعموم المنطقة".
وفي الملف اليمني "قامر الحوثي بأوراق قوته بعد أن كان طرف المعادلة الأقوى في طاولة التسوية وتتراجع حظوظه السابقة وتتغير الخيارات المتاحة أمامه، ليغدو سجين قبول ما يعرض عليه" لأنه "لو لم تكُن هناك غزة مشتعلة لتمنى الحوثي أن تكون هناك حرب في غزة، فالحرب هي أداته لتكريسه حاكماً وتمديد سلطاته عبر بوابة القدس وفلسطين ونصرة مظلومية غزة".
ويضيف سلمان أن "غزة ذهبت أو أوشكت أن تطوي جراحها باتفاق سياسي، فيما بقي الحوثي يفتش عن حرب أخرى تشرعن وجوده في الداخل فيحكم قبضته على كرسي الحكم في مناطق سيطرته".
ما الذي يدور في خلد ترامب؟
ينتظر اليمنيون والضالعون في الشأن اليمني ما الذي سينتهجه الرئيس العائد ترمب بالنسبة إلى ملف الأزمة الدامية التي أكملت عامها الـ10 بلا حل يلوح في أفقها المعتم، والرؤية المحتملة وطبيعتها، تزامناً مع استمرار التصعيد الحوثي في البحر الأحمر وخليج عدن، خصوصاً أن الولايات المتحدة دخلت في هذا الملف عقب شن إدارة سلفه جو بايدن سلسلة غارات جوية استهدفت مواقع مفترضة للميليشيات استخدمت فيها قاذفات "بي 2 الشبحية" للمرة الأولى.
وتتباين آراء المراقبين بين التقيد بسياسات البيت الأبيض إزاء المنطقة برمتها مع ارتباطها بالمستجدات الجارية اليوم في فلسطين ولبنان وسوريا، ومن يراها ملفاً سيجري التعامل معه بالتشاور مع الشركاء الدوليين في المنطقة العربية مع عدم إغفال المواقف المبدئية المتشددة لترمب ضد الحوثيين أكثر من أسلافه وإن بصورة نسبية.
ويقول سلمان إن "ترامب وهو يتحدث عن رفض الحروب إلا أن الدولة العميقة ستجبره على الدفاع عن مصالح الولايات المتحدة، وليس هناك ما يهدد هذه المصالح أكثر من ميليشيات مسلحة تصادر الممرات الدولية وتجعل سلاسل التوريد تحت رحمة صواريخها وتذهب نحو تعطيل اقتصادات الطاقة".
المدفع البارز في الصورة
ويعزز من هذا الخيار أن "الحوثي خطر وإزالته تكاد تكون قراراً دولياً برضا إقليمي وإن كان غير معلن ولكنه مبارك في الغرف المغلقة وتحت الطاولة".
ويعتبر سلمان أن توجيهات إيران الأخيرة للحوثي بقبول أي تسوية "لم تعُد صالحة للتعاطي، فبين حل يرحّل الخطر الحوثي قليلاً أو حل يجتث هذا الخطر بعملية موضعية مسلحة فإن الأخير هو الماثل الآن للعيان وهو الخيار الأكثر ترجيحاً وفق المعطيات الراهنة".
وسبق أن اتخذ ترامب في آخر أيام ولايته الرئاسية السابقة بين عامي 2017 و2020 قراراً بتصنيف الحوثيين جماعة إرهابية، قبل أن يسارع خلفه بايدن بإزالتهم من التصنيف ضمن قراراته الأولى فور توليه الرئاسة في فبراير (شباط) 2021، بحجة أن إدراج الجماعة المسلحة في القائمة السوداء سيمنع منظمات الإغاثة والطواقم الأممية الإنسانية من إغاثة ملايين السكان الذين يرفض الحوثي صرف مرتباتهم، ويصر في الوقت نفسه على مضاعفة الضرائب والجبايات.
ومع ما يتردد عن موقف ترامب المتشدد تجاه إيران وأذرعها، يذهب حديث المراقبين للشأن اليمني عن خيار مضاعفة الضربات العسكرية التي بدأها بايدن ضد المسلحين الحوثيين بالتنسيق مع الشركاء في المنطقة والحكومة الشرعية، والأخيرة سبق وطالبت بدعمها سياسياً وعسكرياً للقضاء على المتمردين المنقلبين عليها عام 2014.
ولهذا من المحتمل أن تتجاوز مهمة الضربات الجوية الخاطفة التي لم تصِب أهدافاً حوثية تعطل قدرات الجماعة حتى الآن، إلى عمليات منسقة تقضي على سيطرتها على الأرض، خصوصاً الساحل المطل على البحر الأحمر حيث الموانئ الاستراتيجية التي تسيطر عليها والقوة البارزة التي تحول دون وصول القوات الحكومية إلى العاصمة صنعاء.
ويتوقع الباحث السياسي خالد بقلان أن المجتمع الدولي توصل بصورة قاطعة إلى قناعة بأن جماعة الحوثي باتت تشكل تهديداً للأمنين الإقليمي والدولي لا يحتمل التأخير في ردعه.
ويرى بقلان أن "عمليات الجماعة في البحر الأحمر وتعطيل حرية الملاحة ما هو سوى قليل مما يشهده المجتمع الدولي وهناك خفايا أخرى يمارسها الحوثي تتمثل في تحويل المناطق الواقعة تحت سيطرته في الشمال اليمني إلى معسكرات لتدريب جماعات متطرفة من القرن الأفريقي ودول أخرى مثل ’حركة الشباب‘ الصومالية وغيرها ويقوم بكل هذا في إطار استراتيجية إيران التوسعية وخريطة نفوذها وتحويل اليمن إلى قاعدة ضخمة وخطرة تهدد الإقليم والعالم".
لذلك يمكن "الجزم بأن الجماعة الحوثية اليوم تقع في أولويات الولايات المتحدة وحلفائها من خلال توجه حاسم سيبدأ بتصنيف الجماعة كجماعة إرهابية أجنبية من الدرجة الأولى خلال المرحلة المقبلة، لتتبعها مراحل عسكرية بالتنسيق مع القوى الفاعلة في اليمن والحكومة المعترف بها دولياً".
أخضر واشنطن
وتأكيداً على عدم اتضاح أو "جدية" الموقف الأميركي من الجماعة المدعومة من إيران، أعادت إدارة بايدن في الـ17 من يناير/ كانون الثاني الماضي تصنيف الحوثيين منظمة إرهابية دولية، رداً على هجماتهم على السفن المارة في المياه الدولية غرب السواحل اليمنية.
ومع حال ترقب الموقف الدولي من الجماعة الحوثية، ينتقد الكاتب السياسي نشوان العثماني "انتظار النخبة السياسية اليمنية الدائم لضوء واشنطن الأخضر أو غيرها".
ويرى أنها بهذا "تبدو عاجزة عن اتخاذ المبادرات التي يفرضها الواقع وهذا التردد لا يخدم سوى الحوثيين" الذين قال إنهم "استغلوا الوقت والمواقف الضبابية لترسيخ وجودهم كجماعة تعتمد بصورة أساسية على سلاحها وأيديولوجيتها السلالية، وكلاهما يشكلان جوهر بقائها".
ويضيف أن "استمرار المراهنة على الحوار في غياب إرادة سياسية حازمة لن يؤدي إلا إلى مزيد من إطالة أمد الصراع وتعميق معاناة الشعب اليمني".
ومع ما يتردد عن اقتراب الأطراف اليمنية من التوقيع على خريطة طريق تهيئ لسلام منتظر، يعتبر العثماني أن "الدعوة إلى مفاوضات تُلزمها التخلي عن السلاح والأيديولوجيا السياسية تعني نهايتها وهو ما لن تقبله بل ستواصل مماطلتها لتحقيق مكاسب إضافية". كما أن "المعطيات الماضية تثبت أن الحوثيين لم يلتزموا أي وعود ولم يقدموا أي تنازلات حقيقية".
إظهار التماسك
وإزاء هذه التطورات، حاول الحوثيون إظهار عدم اكتراث بسقوط النظام السوري وانهيار "حزب الله" اللبناني الموكل بدعمهم لوجستياً وعسكرياً. وأظهروا كذلك عدم اهتمام بعودة الرئيس ترامب وقال زعيم الميليشيات عبدالملك الحوثي إنه "لا ترامب ولا بايدن سيثنياننا عن موقفنا".
وتوعد "سنواصل التصعيد بكل ما نمتلك ونسعى إلى ما هو أعظم وما هو أكبر وما هو أقوى"، ولكنه حاول طمأنة جماعته من تبعات عودة الرئيس الأمريكي للبيت الأبيض، قائلاً "لدينا تجربة مع ترامب"، في إشارة إلى عدم اتخاذه خلال ولايته الأولى أي موقف ضد الحوثيين.
وهذه اللغة اعتبرها مراقبون مزايدة ودعاية حوثية مملة ومعروفة، ودليل على خوف حوثي مسبق من صعود إدارة ترامب.
ولغة التحدي التي أطلقها زعيم المتمردين لم تخفِ مشاعر الخوف لدى قادة آخرين دفعت بعضهم كما هي الحال بالقيادي محمد علي الحوثي إلى إطلاق تهديدات بشن ضربات ضد "المصالح الأميركية في المنطقة".
وقال إن "أي تحرك أمريكي لن يضر الشعب اليمني الذي يزداد قوة وعملياته تزداد وتتصاعد".
وعلى الأرض، برزت المخاوف الحوثية على لسان قيادات آخرين طالبوا بالاستعداد لمواجهة ما سموه "التحركات المحتملة"، مما ظهر بإرسال تعزيزات إلى مسلحيهم عند خطوط التماس في محافظة الحديدة الاستراتيجية خشية هجمات متوقعة للقوات الحكومية التي تسعى إلى استعادة السيطرة على الشريط الساحلي ومدينة وميناء الحديدة المطلة على البحر الأحمر، وهو الكابوس الذي تخشى الميليشيات حدوثه لأنه سيقطع عنها أكبر مورد اقتصادي يقع تحت قبضتها.
(اندبندنت عربية)