لا تقرأ زيارة الفريق أول عبدالفتاح البرهان إلى الرياض بوصفها تحركاً بروتوكولياً عابراً، ولا باعتبارها مجاملة دبلوماسية في سياق حرب طاحنة أنهكت الدولة والمجتمع في السودان، بل تقرأ، في جوهرها كحلقة ضمن مسار أوسع لإعادة ترتيب موازين النفوذ الإقليمي والدولي حول الحرب السودانية، ومحاولة لإعادة ضبط موقع المؤسسة العسكرية السودانية داخل معادلة الوساطات المتنافسة، وفي القلب منها الجهد الأمريكي المتعثر، والرباعية الإقليمية التي لم تنجح بعد في تحويل الضغط السياسي إلى وقف فعلي لإطلاق النار.
الزيارة جاءت في توقيت بالغ الدلالة، فالخرطوم – بمفهومها السياسي لا الجغرافي – تمر بأضعف لحظاتها منذ الاستقلال، والدولة السودانية لم تعد ساحة صراع داخلي فقط، بل أصبحت مسرحاً مفتوحاً لتقاطعات إقليمية ودولية، تتداخل فيها حسابات الأمن في البحر الأحمر، والقرن الأفريقي، مع مخاوف الانهيار الشامل وما يحمله من تدفقات لجوء وتهديدات عابرة للحدود.
في هذا السياق، تصبح كل زيارة خارجية لقائد الجيش السوداني رسالة متعددة الاتجاهات: إلى الداخل، وإلى الحلفاء، وإلى الخصوم، وإلى الوسطاء على حد سواء.
الرسالة الأساسية
أولى الرسائل التي تحملها زيارة البرهان إلى الرياض تتعلق بإعادة تثبيت موقعه بوصفه الطرف العسكري الذي لا يمكن تجاوزه في أي مسار سياسي.
فخلال الأشهر الماضية، ومع تعثر جولات التفاوض ورفض القيادة العسكرية بعض المقترحات الدولية، ساد انطباع – خصوصاً في الدوائر الغربية – بأن البرهان يميل إلى إدارة الصراع من موقع القوة الميدانية، لا من موقع التسوية.
استقبال الرياض له، وعلى أعلى مستوى، يعيد إدخاله إلى قلب المشهد الدبلوماسي، ويمنحه منصة إقليمية تتيح له إعادة صياغة روايته: ليس كمعطل للسلام، بل كفاعل حذر يشكك في جدوى مقترحات لا تراعي – من وجهة نظره – اعتبارات الأمن والسيادة ووحدة المؤسسة العسكرية.
بهذا المعنى، فإن الزيارة لا تنفصل عن صراع السرديات. البرهان يسعى إلى القول إن المشكلة ليست في رفضه السلام، بل في طبيعة العروض المطروحة، وفي غياب ضمانات تنفيذية حقيقية. والرياض، باستقباله، تمنحه مساحة لإعادة تقديم هذا الخطاب في عاصمة تعد أحد مفاتيح المشهد الإقليمي، وتملك علاقات وثيقة بواشنطن والقاهرة، وتدير توازنات دقيقة مع أطراف إقليمية أخرى.
من زاوية الرياض، لا يمكن فصل الزيارة عن طموح سعودي أوسع لأداء دور الوسيط المركزي في أزمات الإقليم. فالسعودية، التي راكمت خبرة تفاوضية في ملفات عدة خلال الأعوام الأخيرة، تدرك أن السودان يمثل اختباراً معقداً: حرب داخلية ذات أبعاد إقليمية، وطرفان مسلحان، ومجتمع دولي منقسم بين الرغبة في إنهاء القتال والعجز عن فرض ذلك.
استضافة البرهان تعكس رغبة سعودية في ألا تبقى على هامش الجهد الأميركي، بل في أن تكون جزءاً من صياغته أو إعادة توجيهه. الرياض هنا لا تقدم نفسها بديلاً لواشنطن، بل شريك قادر على الوصول إلى ما لا تصل إليه الدبلوماسية الأميركية وحدها: مخاطبة الحسابات الأمنية والسياسية للمؤسسة العسكرية السودانية بلغة أقرب إلى فهمها، وربما أكثر واقعية من منظورها.
لكن هذا الدور الوسيط يظل محكوماً بقيود واضحة، فالسعودية لا تملك وحدها مفاتيح الضغط الحاسم، ولا تستطيع فرض تسوية من دون تنسيق مع بقية أطراف الرباعية، لا سيما الولايات المتحدة ومصر، لذلك، يمكن قراءة الزيارة أيضاً كمحاولة سعودية لجس نبض البرهان: ما الذي يمكن أن يقبل به؟ وما الذي يرفضه؟ وأين يمكن تعديل المسارات التفاوضية القائمة لتصبح أكثر قابلية للتطبيق؟
الرسائل الموازية
لا يمكن قراءة زيارة الرياض بمعزل عن القاهرة، فمصر تظل الفاعل الإقليمي الأكثر حساسية تجاه مسار الحرب السودانية، بحكم الجوار الجغرافي، وتشابك الملفات الأمنية، والخشية من انهيار الدولة السودانية بما يحمله من تداعيات مباشرة على الأمن القومي المصري. من هنا، فإن أي تقارب سعودي – سوداني على مستوى القيادة العسكرية لا بد أن يمر، ولو ضمنياً، عبر حسابات القاهرة.
الزيارة، في هذا السياق، لا تعني تجاوز الدور المصري، بل قد تعكس تنسيقاً غير معلن يسعى إلى توحيد الخطاب الإقليمي الموجه إلى البرهان: دعم مشروط، لا شيك على بياض، دعم يهدف إلى منع انهيار الدولة، لكن من دون الانخراط في حرب مفتوحة بلا أفق سياسي.
القاهرة تدرك، كما الرياض، أن انتصاراً عسكرياً حاسماً لأي طرف يبدو بعيد المنال، وأن إطالة أمد الصراع تزيد من كلفة الفوضى على الجميع.
إحدى أهم زوايا قراءة الزيارة تتعلق برسالتها غير المباشرة إلى الولايات المتحدة، فالتوقيت جاء في ظل ضغوط أميركية متزايدة لدفع الأطراف نحو هدنة إنسانية طويلة الأمد، تمهيداً لمسار سياسي، غير أن هذه الضغوط اصطدمت، مراراً، برفض أو تحفظ من القيادة العسكرية السودانية، التي رأت في بعض المقترحات تجاهلاً لمعادلات القوة على الأرض.
زيارة الرياض تسمح للبرهان بإعادة التفاوض حول شروط التفاوض نفسها، فهي تقول، عملياً، إن أي مسار سياسي لا بد أن يمر عبر عواصم إقليمية قادرة على التأثير الحقيقي، لا عبر مقترحات تصاغ بعيداً من مخاوف الفاعلين العسكريين. كذلك فإنها تلمح إلى أن البرهان لا يتحرك في عزلة، وأن لديه هوامش مناورة إقليمية يمكن توظيفها لموازنة الضغط الأميركي.
لكن هذا لا يعني أن الزيارة تمثل تحدياً مباشراً لواشنطن، بل هي أقرب إلى محاولة لإعادة ترتيب العلاقة: قبول مبدئي بفكرة التسوية، مقابل تعديل أدواتها وآلياتها وضماناتها. والسؤال المفتوح هنا هو ما إذا كانت الولايات المتحدة مستعدة لتقديم هذه التعديلات، أم أنها ستواصل الاعتماد على أدوات الضغط نفسها التي لم تنتج اختراقاً حقيقياً حتى الآن.
ما الذي لا تقوله؟
على رغم كل ما تحمله الزيارة من دلالات، فإنها لا تحمل – حتى الآن – اختراقاً نوعياً في مسار الحرب، فلا إعلان عن هدنة، ولا مؤشرات واضحة على تغيير جذري في مواقف الأطراف، وهذا في حد ذاته دلالة، فالزيارة تعكس إدارة للأزمة أكثر مما تعكس حلاً لها، إدارة تهدف إلى كسب الوقت، وإعادة التموضع، وفتح قنوات، من دون حسم الخيارات الكبرى.
كذلك فإن الزيارة لا تجيب عن السؤال الأكثر إلحاحاً: كيف يمكن تحويل أي تفاهم سياسي إلى واقع ميداني في ظل غياب آليات مراقبة وفصل قوات فعّالة؟ هذا السؤال يظل معلقاً، وهو ما يجعل أي تفاؤل مفرط في شأن نتائج الزيارة سابقاً لأوانه.
تحت مظلة جميع هذه المعطيات يمكن تصور ثلاثة مسارات رئيسة لما بعد زيارة البرهان إلى الرياض: الأول يتمثل في تهدئة محدودة، إنسانية الطابع، تسوّق بوصفها إنجازاً دبلوماسياً، لكنها تظل هشة وقابلة للانهيار.
المسار الثاني هو إعادة صياغة المبادرة السياسية برعاية رباعية أكثر تنسيقاً، وهو مسار صعب لكنه ليس مستحيلاً إذا توافرت إرادة دولية حقيقية، أما المسار الثالث، وهو الأسوأ، فيتمثل في استمرار الحرب مع إدارة خارجية للأزمة، إذ تتحول الوساطات إلى أدوات احتواء لا أدوات حل.
في المحصلة، تكشف زيارة البرهان إلى الرياض عن طبيعة اللحظة السودانية الراهنة: لحظة سيولة سياسية، وتوازنات غير مستقرة، وفاعلين إقليميين يسعون إلى منع الأسوأ من دون امتلاك أدوات فرض الأفضل. هي زيارة تؤكد أن الحرب السودانية لم تعد شأناً داخلياً، وأن مصيرها يناقش في العواصم بقدر ما يحسم في الميدان.
لكنها أيضاً تذكير بأن السلام لا يصنع بالزيارات وحدها، ولا بالصور الرسمية، بل بإرادة سياسية تقبل بتنازلات مؤلمة، وبمسارات تنفيذية تضع حماية المدنيين في الصدارة.
إلى أن تتوافر هذه الشروط، ستظل زيارة البرهان إلى الرياض علامة على حركة الدبلوماسية، لا على نهايات الحرب.
(اندبندنت عربية)