قبل عام أوقفت روسيا صادرات الغاز عبر خط أنابيب "نورد ستريم 1" كرد انتقامي على دعم الاتحاد الأوروبي لأوكرانيا التي مازالت تتعرض لعدوان روسي، لكن استخدام موسكو سلاح الغاز ضد أوروبا ألحق الضرر أكثر بالاقتصاد الروسي.
على مدى أكثر من خمسين عاما، ظلت روسيا المصدر الموثوق فيه لتوريد الغاز للقارة الأوروبية فيما استمر ذلك حتى في ذروة الحرب البادرة حيث لعبت موسكو دورا كبيرا في تعزيز اعتماد ألمانيا - أكبر اقتصاد أوروبي - على مصادر الطاقة الروسية. وعلى وقع ذلك، شكل الغاز الروسي نموذجا تجاريا في أوروبا قوامه الأساسي الصادرات ومصادر الطاقة الرخيصة.
بيد أن هذا المسار قد تغير مع بدء التوغل الروسي العسكري في أوكرانيا أواخر فبراير / شباط العام الماضي وفرض عقوبات غربية غير مسبوقة وواسعة النطاق ضد الدب الروسي.
وجرى استثناء الغاز الروسي من العقوبات على النقيض من الفحم والنفط الروسيين فيما حاولت دول أوروبية خاصة ألمانيا، التي كانت تعتمد على روسيا في أكثر من 50% من إمدادات الغاز قبل الحرب، تقليل الاعتماد على الغاز الروسي.
ولم تقف موسكو صامتة حيال ذلك إذ أقدمت على "تسليح" الغاز داخل أوروبا التي كانت تحصل على أكثر من ثلث احتياجاتها من الغاز من روسيا قبل الحرب حيث أوقفت شركة "غازبروم" المملوكة للحكومة تدفقات الغاز عبر أكبر خط أنابيب ينقل الغاز الروسي إلى أوروبا وهو "نورد ستريم 1" وذلك قبل إغلاقه إلى أجل غير مسمى قبل عام.
وأثار وقف تدفق الغاز الروسي إلى أوروبا مخاوف داخل القارة وسط قلق من انقطاع التيار الكهربائي وتقنين استخدام الطاقة في الشتاء فيما ارتفعت أسعار الغاز في أوروبا إلى مستوى قياسي تجاوز 343 يورو (371 دولاراً) لكل ميجاوات/ساعة في أواخر أغسطس/آب من العام الماضي وهو ما أسفر عن ارتفاع معدلات التضخم إلى مستويات تاريخية.
بيد أن السيناريو الأسوأ لم يجد طريقه إلى أرض الواقع حيث نجت أوروبا من أزمة طاقة كاملة بفضل أن فصل الشتاء الماضي كان أكثر اعتدالا فيما ساهم انخفاض استهلاك الغاز وزيادة واردات الغاز الطبيعي المسال من دول أخرى، في تخفيف أزمة الطاقة داخل بلدان الاتحاد الأوروبي.
وعلى ضوء ذلك، يرى سيمون تاغليابيترا من مركز "بروغل" للأبحاث في بروكسل أن "الاستراتيجية الروسية باتت تضر بروسيا ما يعني أنها حققت فشلا ذريعا حيث اعتقد الكرملين في السابق أنه من خلال تسليح الغاز ضد الاتحاد الأوروبي، سيضطر الاتحاد إلى تقليص دعمه لأوكرانيا على الفور، لكنه كان خاطئا بشكل قاطع في ذلك".
النموذج الاقتصادي الألماني "قيد النظر"
لكن ورغم ذلك، فإن الاضطرابات في أسواق الغاز أجبرت الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة مثل الكيماويات والأسمدة والورق على إغلاق المصانع أو تقليل الإنتاجية. وفي ألمانيا، انخفض الإنتاج في القطاعات كثيفة الاستهلاك للطاقة بنحو 20% عن مستويات ما قبل الحرب بين أواخر عام 2021 وأواخر عام 2022.
وقد ألقى ذلك بظلاله على قدرة ألمانيا التنافسية على المستوى الدولي حيث أشار تقرير صدر مؤخرا عن غرفة التجارة والصناعة الألمانية إلى أن ما يقرب من ثلث الشركات الصناعية الألمانية تفكر في نقل خطوط الإنتاج إلى الخارج أو أنها بدأت بالفعل في ذلك جراء ارتفاع تكاليف الطاقة داخل البلاد.
ورغم تراجع اسعار الغاز بشكل كبير العام الماضي حيث وصلت عند مستوى 35 يورو لكل ميجاوات في الساعة، إلا أنها لا تزال أعلى بكثير من مستويات السنوات السابقة.
وفي منتصف الشهر الجاري، أعلنت المفوضية الأوروبية امتلاء منشآت تخزين الغاز في الاتحاد الأوروبي بنسبة 90% قبل شهرين ونصف الشهر من المهلة المحددة لبلوغ هذا المستوى في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني.
وُيضاف إلى ذلك تمكن الاتحاد الأوروبي من استبدال مصادر الطاقة الروسية بمصادر من الولايات المتحدة والنرويج وقطر فيما لا يزال الطلب على الغاز ضعيفا وسط التباطؤ في قطاع التصنيع مما يمهد الطريق أمام بقاء الأسعار تحت السيطرة.
ورغم ذلك، خرجت بعض الأصوات لتحذر من أن سوق الغاز ما زال معرضا للخطر مع توقع أن يكون فصل الشتاء المقبل قاسيا ما يدفع إلى زيادة الطلب على الغاز للتدفئة ما قد يؤدي إلى استنزاف مخزون أوروبا من الغاز.
روسيا فقدت مكانتها الدولية في سوق الغاز
وفي سياق متصل، قال الخبراء إن روسيا بقرارها بإغلاق نورد ستريم، قد سجلت هدفا لكن في مرماها. ووفقا للبيانات، فقد انخفضت حصة روسيا في سوق الاتحاد الأوروبي بشكل كبير إلى نحو 10% مع صعوبة قيام روسيا بإعادة توجيه إمداداتها من الغاز الاحتياطي.
وعلى وقع انخفاض صادرات الغاز الروسي إلى أوروبا بنحو 60% ليصل إلى قرابة 62 مليار متر مكعب العام الماضي، أقدمت غازبروم على خفض الإنتاج بمقدار الخمس فيما يتوقع استمرار الانخفاض خلال العام الجاري.
وفي ذلك، قال تاغليابيترا إن روسيا "قد فقدت مكانتها كمصدر دولي رئيسي للغاز إلى الأبد".
ورغم تمكن روسيا من إعادة توجيه النفط إلى دول أخرى مثل الصين والهند، إلا أنها لم تستطع تحقيق الأمر ذاته فيما يتعلق بالغاز نظرا إلى صعوبة نقله فضلا عن الحاجة إلى ضخ استثمارات ضخمة في مجال خطوط الأنابيب ومصانع التسييل وإعادة التحويل.
وفي ضوء أنه جرى إنشاء جُل البنية التحتية لتصدير الغاز في روسيا لتلبية احتياجات أوروبا، فإن روسيا تجد صعوبة في إعادة توجيه إمدادات الغاز إلى الصين ودول أخرى.
وأفادت وزارة المالية الروسية بتراجع إيرادات الغاز 45% تقريبا خلال الأشهر الخمسة الأولى من العام الجاري إلى 710 مليارات روبل (8.3 مليار دولار) مقارنة بالفترة ذاتها العام الماضي.
وفي السياق ذاته، ترغب روسيا في جذب مشترين جدد بما في ذلك الدول السوفياتية السابقة مثل كازاخستان وأوزبكستان فضلا عن تطلعها إلى تعزيز صادراتها من الغاز الطبيعي المسال وتوسيع شبكات الغاز في البلاد للحفاظ على تدفقاته.
وتنظر موسكو إلى الصين باعتبارها بديلا عن السوق الأوروبي، لكن استبدال السوق الأوروبي بالسوق الصيني في مجال الغاز سوف يتطلب بناء خطوط أنابيب جديدة لتوسيع خط أنابيب "طاقة سيبيريا" الحالي إلى الصين.
وفي مقابلة مع DW، قال ميخائيل كروتيخين، الخبير الروسي في مجال الطاقة، "إذا كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يخطط لبناء خطوط أنابيب إلى الصين بنفس قدرة خطوط الأنابيب إلى أوروبا، فسيتعين عليه الانتظار لعقدين من الزمن."
وأشار كروتيخين إلى إشكالية أخرى تتمثل في تردد الصين في شراء المزيد من الغاز الروسي في الوقت الراهن.
انهاء الاعتماد على الغاز الروسي كاملا
الجدير بالذكر أن استمرار دول أوروبية في شراء الغاز الروسي – حتى لو كان ضئيلا – قد أثار دعوات إلى التخلص التدريجي من واردات الغاز الطبيعي المسال من روسيا التي ارتفعت إلى 22 مليار متر مكعب العام الماضي مقارنة بـ 16 مليار متر مكعب العام الماضي.
وكانت بلجيكا وفرنسا وإسبانيا قد أقدمت على شراء كميات كبيرة قياسية من الغاز الروسي المسال العام الماضي.
وتستند دعوات التحرر من الحاجة للغاز الروسي المسال إلى أن هذا الأمر يقوض خطة الاتحاد الأوروبي لإنهاء الاعتماد بشكل كامل على مصادر الطاقة الروسية بحلول عام 2027 فضلا عن أن ذلك يساعد بوتين على الحصول على موارد مالية لتمويل آلة الحرب الروسية.
وكان مفوض الطاقة في الاتحاد الأوروبي كادري سيمسون قد دعا في وقت سابق من العام الجاري الشركات الأوروبية إلى الكف عن توقيع عقود جديدة مع موردي الغاز الطبيعي المسال من روسيا.
وفي المقابل، يعزو الطرف الآخر استمرار شراء الغاز الروسي إلى مشاكل قانونية محتملة مع غياب الخروج بتدابير ذات صلة على مستوى الاتحاد الأوروبي فضلا عن مخاطر ارتفاع التضخم والافتقار إلى البدائل.
يشار إلى أن دولا مثل هولندا وإسبانيا تمضي قدما في اتخاذ خطوات لوقف شراء الغاز الطبيعي المسال من روسيا، لكن في ظل استثناءه من العقوبات الأوروبية، فإن خطط أوروبا للتخلص من الغاز الروسي إلى الأبد قد تستغرق بعض الوقت.
ويرى مراقبون أن تسليح روسيا للغاز دفع أوروبا إلى البحث عن دول أخرى وإلى تسريع التحول نحو الطاقة النظيفة ومصادر الطاقة المتجددة مما كتب نهاية لمكانة روسيا باعتبارها المورد الأول للغاز إلى أوروبا.
وقال كروتيخين إنه رغم أن روسيا قد تخفض أسعار الغاز في المستقبل، إلا أن "الدول الأوروبية سوف يأتي في أذهانها دائما أن موسكو قد تنتهك عقود الغاز في أي وقت لأسباب سياسية.. لا يمكن الاعتماد على العقود من الجانب الروسي، لأنه لا يمكن الوثوق بموسكو".