سلّطت حادثة الاعتداء على رجل كويتي في ولاية طرابزون التركية وما سبقها من حوادث مماثلة، الضوء على التأثيرات التي قد تلقي بظلالها على السياحة العربية في البلاد، ولاسيما أن كتّابا وصحفيين ومدراء شركات سياحية حذّروا من "مخاطر"، في حال ترسخ المشهد الذي وثقته كاميرات الهواتف المحمولة.
ورغم أن الحادثة التي ضجّت بها الأوساط التركية والعربية حُلّت بتدخل مسؤولين رسميين من الطرفين، مع إعلان ولاية طرابزون إلقاء القبض على المعتدي، بقيت التحذيرات قائمة وازدادت بكثرة خلال اليومين الماضيين، كون ما حصل لم يكن الأول من نوعه، بل جاء في أعقاب عدة حوادث استهدفت سياحا عربا.
وتغطي إيرادات السياحة في تركيا ما يقرب من نصف عجز الحساب الجاري لديها، ويوصف القطاع دائما على أنه "مصنع بلا مداخن"، في إشارة إلى الناتج الكبير الذي يغذي الخزينة وجيوب المواطنين وأصحاب المصالح.
وتشير البيانات الرسمية إلى أن الإيرادات السياحية في تركيا ارتفعت بنسبة 23.1% في الربع الثاني من عام 2023، والمكون من أبريل ومايو ويونيو، مقارنة بالربع المماثل من العام السابق، لتصل إلى 12 مليار و975 مليون و307 ألف دولار.
وفي هذا الربع بلغ إجمالي عدد زوار تركيا 13 مليونا و633 ألفا و877، ومن بينهم مليون و350 ألفا و164 سائحا عربيا، وبذلك تقدر حصة السياحة العربية في تركيا خلال الأشهر الماضية من العام الحالي بـ 10%.
وبعد الضجة التي أحدثها فيديو الاعتداء على الكويتي أطلقت الحكومة التركية حملة استهدفت من خلالها أكثر من 27 شخصا، بينهم مدراء صفحات عبر مواقع التواصل الاجتماعي، "يحرضون على الكراهية والعداء"، ويشاركون "معلومات استفزازية".
وجاءت الحملة بعدما تسلطت الأضواء كثيرا على السياحة العربية في تركيا، في ظل دعوات أطلقها مستخدمون عرب عبر مواقع التواصل الاجتماعي، داعين إلى عدم الذهاب إلى البلاد، خوفا من التعرض لأي اعتداء مماثل.
كما تبعت الحملة سلسلة تحذيرات صدرت من جانب مسؤولين في الحزب الحاكم (العدالة والتنمية) وكتاب وصحفيين مقربين منه، وانضم إليهم مؤخرا زعيم "حزب الحركة القومية"، دولت باهشتلي، بقوله إن "أولئك الذين يستخدمون مشكلة اللاجئين لإثارة الاضطرابات المدنية، تجاوزوا حدودهم".
"مؤشرات شبه رسمية"
ومن غير الواضح حتى الآن ما إذا كان تكرار حوادث الاعتداء على سياح عرب سيلقي بظلالٍ سلبية على السياحة العربية في تركيا، ومع ذلك برزت خلال الأيام الماضية العديد من المؤشرات القريبة من الرسمية.
وأولها حديث ياسين أقطاي، المستشار السابق لرئيس "حزب العدالة والتنمية" والبرلماني السابق، إذ قال إنه ومع انتشار الشائعات حول وجود موقف معاد للعرب في تركيا "بدأت عمليات إلغاء الحجوزات المتزايدة تظهر هذا الصيف".
وأضاف أقطاي في مقالة أن الأمر لم يقتصر على الرحلات السياحية فحسب، بل تغيرت العديد من الاستثمارات الرأسمالية أيضا بسبب حوادث العنصرية في تركيا.
و "لا تبقى الخطابات والأفعال العنصرية ومنشورات وسائل التواصل الاجتماعي، وخاصة ضد العرب داخل تركيا فقط، بل تنعكس على الفور في العالم العربي".
وأوضح أقطاي أن "السائح العربي ينفق ما لا يقل عن 10 أضعاف ما ينفقه السائح الروسي أو الأوروبي". وعلاوة على ذلك "لا يأتي السائح العربي لفترة مؤقتة، بل يشتري المنازل ويستثمر ويؤسس مشاريع تجارية، مما يخلق دخلا فريدا لتدفق الأموال باستمرار إلى تركيا.
ويشير تقرير لصحيفة "يني شفق" المقربة من الحكومة إلى أن "الشكاوى المقدمة إلى الشركات السياحية بدأت تتزايد في الأشهر الأخيرة، في وقت انعكست المشاركات السلبية في أرقام السياحة".
وتحدثت الصحيفة عن "وجود انخفاض في عدد الزوار من العديد من البلدان الإسلامية، وخاصة في الفترة الممتدة من شهر يناير إلى يوليو الماضيين".
ولا تعتبر السياحة المجال الوحيد الذي تضرر من "الحوادث العنصرية"، بل باتت الأخيرة "تقوض العمل الدقيق التي تقوم به تركيا"، والتي تستضيف أيضا أكثر من 300 ألف طالب دولي.
ويترك الطلاب الأجانب ما يزيد عن 2 مليار دولار من العملات الأجنبية إلى تركيا سنويا، وتهدف الحكومة إلى زيادة عدد الطلاب الدوليين إلى أكثر من 500 ألف بحلول عام 2030، وفق بيانات رسمية.
وأوضح البروفيسور جاغري إرهان عميد جامعة "ألتنباش" في إسطنبول، في تقرير نشرته صحيفة "صباح"، قبل يومين أن "كراهية الأجانب في الغرب دفعت الطلاب الدوليين من العديد من البلدان إلى اختيار تركيا كمركز بديل للتعليم، لكنه أضاف أن "القلق بشأن كراهية الأجانب في تركيا يحمل في طياته خطر خلق النتيجة نفسها هنا ومن ثم دفع الطلاب إلى بلدان أخرى".
وقال إرهان نقلا عن عائلات طلاب أجانب: "هناك عداء تجاه العرب في تركيا. كيف يجب أن نرسل أطفالنا؟".
بدوره، قال البروفيسور إيرول أوزفار رئيس "مجلس التعليم العالي"، إن تنقل الطلاب الدوليين يمثل قضية استراتيجية في المجال السياسي، و "قد زاد عدد الطلاب الدوليين في تركيا عشرة أضعاف في العقدين الماضيين، متجاوزا الولايات المتحدة والمملكة المتحدة".
وعلّق أوزفار: "يعتبر الطلاب الدوليين عنصرا هاما للبلدان المضيفة من حيث الاقتصاد والتفاعل الثقافي. وبالتالي، نحن بحاجة إلى عملية سلسة دون أي مشاكل لاندماجهم الاجتماعي".
ماذا يقول العاملون بقطاع السياحة؟
ويرى المتحدث باسم منصة "منظمو الرحلات السياحية" في تركيا، جيم بولات أوغلو أن "السياحة في البلاد ليست قطاعا سياحا فحسب"، بل تغذي 54 قطاعا آخرا، مثل الزراعة وتربية الحيوانات والنسيج وفن الطهي والهدايا التذكارية والبنود والخدمات والسجاد والجواهر".
ويقول: "يكفي أن نعتقد أن 50 مليون سائح يمكنهم تناول بيضة واحدة، وشرب البيرة، وشراء قميص تذكاري كل يوم من تركيا".
علاوة على ذلك، يضيف بولات أوغلو: "الأجانب الذين يأتون إلى تركيا ويجربون المنسوجات والسلع البيضاء والأطعمة والمشروبات يريدون استخدام هذه المنتجات في بلدهم أيضا".
ومنذ سنوات يفضّل السياح العرب طرابزون كوجهة أساسية لهم، بالإضافة إلى بودروم ومناطق أخرى في مدينة إسطنبول.
لكن ومع تكرار الاعتداءات التي تم توثيقها في الفترة الأخيرة سجّل مدراء منتجعات سياحية "تأثيرات سلبية"، ومن بينهم ميتي أوسكودرلي المدير العام لمنتجع "ميفارا" الفاخر.
ونقلت صحيفة "حرييت"، في السابع عشر من سبتمبر، عن أوسكودرلي قوله "ما يقرب من نصف السياح القادمين إلى الفنادق الفاخرة في بودروم في شهري يوليو وأغسطس كانوا ضيوفا من الشرق الأوسط".
ومع ذلك، وبسبب الخطاب المناهض للمهاجرين، انخفض هذا العدد الآن بشكل ملحوظ.
ويتابع مدير المنتجع الفاخر: "على سبيل المثال، تعرضت سائحة من المغرب لهجوم لفظي في تقسيم، وانتشر الأمر على نطاق واسع على وسائل التواصل الاجتماعي. لسنا الوحيدين الذين يشاهدون هذه الفيديوهات بل تنعكس في بلدانهم".
ويبلغ عدد سكان الشرق الأوسط حوالي 350 مليون نسمة، ورغم أن هذه الكتلة تحب تركيا كثيرا، إلا أن "الأخبار السلبية عبر مواقع التواصل الاجتماعي تنعكس في وجهاتهم بخصوص تركيا"، وفق أوسكودرلي.
ويوضح سامت أيدن موظف في إحدى الشركات السياحية بمدينة إسطنبول لموقع "الحرة" أن هناك بالفعل "انخفاضا ملحوظا في أعداد السياح العرب خلال الشهرين الماضيين".
وبينما يرى أن القصة مرتبطة بافتتاح المدارس في دول الخليج وباقي الدول العربية وتوقف وصول الكثير منهم مع قرب انتهاء الصيف، لا يستبعد أن تكون "الأحداث الأخيرة قد ألقت بظلالها السلبية".
ويقول أيدن لموقع "الحرة": "حجوزات الفنادق في الوقت الحالي ليست باهظة الثمن، بسبب الطلب الخفيف والعرض الكبير والشقق السياحية كذلك الأمر"، ويضيف: "هناك تأثر بالفعل. وعلى مستوى السياح المغاربة بدأوا بالتوجه إلى مصر كوجهة بديلة عن تركيا".
"احتياطات ومبادرات"
وأظهرت بيانات رسمية نشرت، مطلع سبتمبر الحالي، أن عدد الوافدين الأجانب إلى إسطنبول وصل إلى أعلى مستوى شهري خلال عقد من الزمن، حيث زارها حوالي 1.87 مليون سائح.
واستضافت الولاية بالمجمل حوالي 7.15 مليون أجنبي، بزيادة قدرها 7.25 بالمئة على أساس سنوي.
وقال محمد إيشلر، نائب رئيس اتحاد أصحاب الفنادق الأتراك بحسب ما نقلت وسائل إعلام، في 6 من الشهر الحالي، إن قطاع السياحة بدأ في تلبية التوقعات في أغسطس الماضي، مضيفا أنهم ينتظرون أن يمتد الموسم السياحي أكثر في الخريف.
وأوضح إيشلر، الذي يشغل أيضا منصب رئيس "جمعية المؤسسات السياحية" وأماكن الإقامة في بحر إيجه أن السياحة التركية تنمو كل عام، وأنه يعتقد أنها ستصل إلى هدف 60 مليون سائح عام 2023.
بدوره يرى رئيس هيئة السياحة في الشرق الأوسط (توساد)، حسن بيرم أن "العلاقات بين الناس في الشرق الأوسط تتطور بشكل أفضل بفضل السياحة"، وأن "التطورات بين الشعوب تؤدي إلى تقارب الحكومات بين الدول".
ولذلك يوضح بيرم في حديث لموقع "الحرة" أنهم "لن يبقوا مكتوفي الأيدي إزاء المبادرات السلبية تجاه السياحة التركية، وخاصة تجاه السياح العرب".
"سنتخذ مبادرات إيجابية ضد العنصرية على وسائل التواصل الاجتماعي وفي الشوارع، وسنتعاون ونقاوم العنصرية والجهل، وسنواصل معا دفع السياحة في تركيا إلى الأمام".
ويضيف رئيس "توساد": "أولئك الذين يمارسون العنصرية ضد السياح في تركيا هم حفنة من الناس، ويحاولون إظهار أنهم مجموعة كبيرة لديهم حسابات مجهولة المصدر فتحوها على وسائل التواصل الاجتماعي".
وفي المقابل هناك "مشكلة أخرى" تتعلق بإقدام بعض الرعايا الأجانب على "إحداث تلوث معلوماتي ضد تركيا على وسائل التواصل الاجتماعي".
ويتابع المسؤول: "يجب على المواطنين الأجانب الذين أنشأوا أعمالا تجارية ويعيشون في تركيا أن يكونوا حساسين بشأن هذه القضية".
وفي الوقت الحالي تتخذ الحكومة التركية كل الاحتياطات اللازمة ضد العنصريين، ووفقا للقانون فإن كافة أشكال العنصرية تتم محاسبتها.
وقد أظهرت وزارتا الداخلية والعدل التركيتان بالفعل مدى جديتهما في مكافحة العنصرية ضد السياح من خلال الاعتقالات التي تمت في الأيام الأخيرة، وفق بيرم، مشيرا إلى أنه "يجب على أمتنا التمييز بين اللاجئين والسياح، كما يجب على اللاجئين الذين يعيشون في البلاد أن يتكيفوا مع مجتمعنا وألا ينسوا أنهم سكان محليون. تركيا بلد آمن ومريح للسياح"، وفق تعبيره.
وفي أواخر أغسطس الماضي نقلت وسائل إعلام تركية عن أيمن مسلماني صاحب إحدى الشركات السياحية العاملة في إسطنبول، قوله: "هناك خسائر كبيرة في سوق الشرق الأوسط بسبب الدعاية المنتشرة ضد تركيا عبر المواقع الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي".
وأشار مسلماني إلى أن هناك خسارة بنسبة 40-50%في هذا السوق، مضيفا: "لسوء الحظ قام جزء كبير من العملاء العرب بتغيير وجهاتهم وتم إلغاء ما يقرب من 40-50%من الحجوزات".
لكن الكاتب والصحفي فهمي كوفتي أوغلو أوضح أن البيانات الرسمية تنفي التأثر الحاصل حسب حديث صاحب الشركة السياحية، ويقول إنه وبينما ارتفع عدد الزوار العرب في جميع أنحاء تركيا فإن سبب الانخفاض الطفيف في إسطنبول هو أنهم بدأوا في التوجه إلى وجهات أخرى، وخاصة البحر الأسود، مقارنة بالأعوام السابقة.
ويشير كوفتي أوغلو إلى "زيادة قياسية في عدد الأشخاص العرب القادمين إلى ولاية طرابزون"، وهو ما دفع وزير النقل والبنية التحتية عبد القادر أورال أوغلو، مؤخرا للحديث عن "تجهيزات لبناء مطار جديد هناك".