بينما حظيت الهجمات شبه اليومية التي يشنّها "حزب الله" اللبناني على إسرائيل -منذ اندلاع حرب السابع من أكتوبر- بالحيّز الأكبر من الاهتمام الإقليمي والدولي؛ لمراقبة ما إذا كانت الجبهة اللبنانية-الإسرائيلية ستتطور إلى ساحة حرب ثانية، فإن الهجمات التي بدأها الحوثيون- قبالة السواحل اليمنية؛ لمنع السفن من الوصول إلى الموانئ الإسرائيلية- حوّلت هذا الاهتمام إلى البحر الأحمر، الذي انضم إلى قائمة المناطق التي يدور فيها صراع الوكالة بين إيران وكل من إسرائيل، والولايات المتحدة.
مع أن الجماعات المسلحة التي تدعمها إيران في المنطقة -على غرار الحوثيين وحزب الله وفصائل الحشد الشعبي العراقية- تنفي أن تكون الهجمات التي تشنّها، بانتظام ضد أهداف إسرائيلية وأميركية في المنطقة منذ اندلاع الحرب، بإيعاز من طهران، إلا أن القاسم المشترك بينها أن جميعها تنضوي ضمن ما يُسمى بمحور المقاومة الذي تقوده طهران.
إنّ نفي هذه الجماعات وإيران وجود أي تنسيق فيما بينهما في هذه الهجمات، لا ينفي بطبيعة الحال حقيقة أنها تأتي ضمن استجابة جماعية للمحور الإيراني للحرب الإسرائيلية على غزة. كما أنّ هذا النفي ينسجم مع النهج التقليدي الذي تتبعه إيران في علاقاتها مع حلفائها في المنطقة منذ سنوات طويلة، ويقوم على تجنّب إظهار أي دور إيراني مباشر في رسم التحركات العسكرية للوكلاء.
لقد سعت إيران منذ اندلاع الحرب إلى نفي أي دور لها في الهجوم الذي شنّته حركة "حماس" على مستوطنات غِلاف غزة، لكنّها حذّرت مرارًا من أن مواصلة الهجمات الإسرائيلية على غزة، ستؤدي إلى انتشار الحرب إلى أرجاء الشرق الأوسط.
وفي الواقع، لا تتناقض رغبة إيران بتجنّب الانخراط في الحرب مع الهجمات التي يشنّها حلفاؤها، والتي تبدو مُصممة كوسيلة ضغط على إسرائيل والولايات المتحدة؛ لوقف الحرب على غزة. في جنوب لبنان، لا يزال حزب الله حذرًا إلى حد كبير من الانخراط بحرب واسعة مع إسرائيل، ويلتزم بقواعد اشتباك لا تؤدّي إلى مثل هذه النتيجة.
كما أن الهجمات التي يشنها حلفاء إيران في سوريا، والعراق ضد المصالح الأميركية، كانت قائمةً منذ ما قبل الحرب، وإن تزايدت وتيرتها بشكل كبير بعد الحرب. لكنّها لم تؤدِّ حتى الآن إلى رد فعل انتقامي أميركي كبير؛ بسبب إجماع كل من طهران وواشنطن على هدف تجنب توسيع رقعة الحرب. وحتى في الوقت الذي تجلب فيه هجمات الحوثيين في البحر الأحمر مخاطر حرب إقليمية، فإن الجماعة تفتقر إلى الرغبة أو القدرة أو كلتيهما معًا على التسبب بحرب في منطقة حيوية للاقتصادَين: الإقليمي، والعالمي.
إلى جانب التأثيرات التي يسعى الحوثيون لتحقيقها في هجماتهم في البحر الأحمر؛ لرفع التكاليف الاقتصادية على إسرائيل والاقتصاد العالمي بسبب حرب غزة، فإن الاستعراض العسكري للجماعة وحزب الله والجماعات المسلحة الأخرى في العراق، وسوريا، يندرج أيضًا في إطار استعراض إيران قوتَها الإقليمية.
إن الافتراض السائد -ويبدو واقعيًا إلى حد كبير- أن إيران، التي تُحاول الموازنة بين الضغط العسكري عبر وكلائها لوقف الحرب على غزة، وبين تجنّب انتشارها في المنطقة، وجدت في نهاية المطاف أن تجنب انخراط حزب الله في الحرب بشكل أوسع، وتشجيع الحوثيين، وربما دعمهم، لشنّ هجمات في البحر الأحمر، يُحقق ذلك الموازنة الإيرانية.
ولأنّ الهجمات التي يشنّها حزب الله على إسرائيل لم تؤدِّ إلى تحقيق الأهداف المرجوة منها بتغيير ديناميكية الحرب ودفع إسرائيل، والولايات المتحدة إلى التفكير في المخاطر التي تنطوي عليها مواصلة الحرب، لذا فإن امتداد المواجهة إلى البحر الأحمر يعكس تفعيل خيارات أخرى لدى طهران وحلفائها لزيادة الضغط على إسرائيل، والولايات المتحدة.
هناك أسباب أخرى أكثر أهمية تُفسر اعتماد المحور الإيراني على جبهة البحر الأحمر بقدر أكبر من الجبهة اللبنانية. فمن جهة، فإن انخراط حزب الله في الحرب بشكل واسع يعني أن الحرب أصبحت إقليمية بالفعل، وهذا يتناقض مع الإستراتيجية الإيرانية.
كما أن حزب الله لا يبدو مستعدًا- أصلًا- لخوض حرب كبيرة مع إسرائيل بالنظر إلى تكاليفها الباهظة عليه وعلى لبنان المُنهك أيضًا؛ بفعل الأزمة الاقتصادية الحادة التي يُعانيها منذ سنوات. كما أن مثل هذه الحرب تجلب تهديدات وجودية لأقوى حلفاء إيران في المنطقة، وتزيد من مخاطر تورط إيراني مباشر في الصراع.
من جهة أخرى، فإن تسخين مياه البحر الأحمر، يؤدي بالفعل إلى رفع التكاليف الاقتصادية على إسرائيل، وعلى المصالح الأميركية في المنطقة، بينما يبدو أقل قدرة على التسبّب بحرب إقليمية. فمن جانب، تعتقد إيران أن هذه التكاليف ستدفع الولايات المتحدة والغرب إلى تركيز اهتمامهما على سبل تجنب انهيار الأمن الإقليمي. ومن جانب آخر، فإن جبهة البحر الأحمر لن تُشكل تهديدًا وجوديًا للحوثيين في اليمن، على غرار حالة حزب الله، فيما لو قرّر الدخول في الحرب.
يبدو أن الحسابات الإيرانية كانت واقعية إلى حد كبير. لا يزال العديد من حلفاء الولايات المتحدة يعرضون عن المشاركة في التحالف الأمني المشكّل في البحر الأحمر لوقف هجمات الحوثيين؛ خشية الانجرار إلى حرب إقليمية.
كما أن تنفيذ الولايات المتحدة هجمات انتقامية محتملة على الحوثيين داخل اليمن -لتقويض قدرتهم العسكرية على مهاجمة السفن- لن يؤدي إلى إزالة قوة الحوثيين بالكامل أو فقدانهم السيطرة على الأراضي التي يُديرونها. ووَفق هذا المنظور، فإن جبهة البحر الأحمر أكثر فائدة من حيث وسائل الضغط، وأقل مخاطرة على إيران وحليفها الحوثي.
من بين العوامل الأساسية التي تجعل جبهة البحر الأحمر أكثر أهمية في الإستراتيجية الإيرانية في هذه الحرب، الموقع الجغرافي الإستراتيجي لليمن على حدود البحر الأحمر ومضيق باب المندب الذي يمر عبره ما يُقدر بنحو 40% من التجارة البحرية الدولية، ونحو 20% من تجارة النفط العالمية. لذلك، يعتقد الحوثيون وإيران أن هذه الميزة تثني الولايات المتحدة والغرب عن الانخراط في حرب طويلة الأمد في هذه المنطقة بالنظر إلى تأثيراتها الكبيرة على الاقتصاد العالمي.
يبدو أن حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة- مثل: دول الخليج ومصر مع استثناء البحرين، التي شاركت في التحالف الأمني- يتعاملون مع هذه المخاطر بشكل أكبر من الفوائد المحتملة للمشاركة في هذا التحالف. وهنا تبرز ميزة أخرى لجبهة البحر الأحمر، وهي أنها أظهرت انقسامًا بين الولايات المتحدة وحلفائها العرب، بشأن مقاربة كيفية التعامل مع هذا الوضع المضطرب.
إن السببَين الأساسيين اللذين منعا تطور حرب غزة، حتى الآن إلى صراع إقليمي أوسع، يتمثلان في محاولة إيران الاستفادة بأقصى قدر ممكن من الحرب لاستعراض قوتها الإقليمية من دون الحاجة إلى تعميق انخراطها بالوكالة في الحرب، والحذر الأمريكي في تأجيج الحرب إلى مستوى إقليمي. كما أن طهران تنظر بدرجة أساسية إلى قوة حلفائها في المنطقة على أنها عامل ردع لها في صراعها مع إسرائيل، والولايات المتحدة.
انطلاقًا من ذلك، فإن التوقعات الإيرانية من هذه الإستراتيجية لا تزال تعمل وَفق حسابات طهران. مع ذلك، فإن مخاطر انتشار الحرب في المنطقة ستبقى في تزايد، وقد لا تكفي الموازنة الإيرانية والحذر الأمريكي وحدهما للحدّ من هذه المخاطر وإبقائها تحت السيطرة.