شهد الثلث الأول من الشهر الجاري (أغسطس/ آب 2024) تزايد وتيرة التحذيرات التي صدرت عن منظمات دولية إزاء الأزمة في ليبيا. ففي بيان، قالت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا (UNSMIL)، إنها تراقب بقلق "التحركات الأخيرة للقوات في مختلف أنحاء ليبيا ، وخاصة في المناطق الجنوبية والغربية".
وحثت البعثة، في بيانها (الجمعة 9 أغسطس/ آب)، "جميع الأطراف على ممارسة أقصى درجات ضبط النفس وتجنب أي أعمال استفزازية من شأنها إخراج الأوضاع عن السيطرة وتعريض الاستقرار الهش في ليبيا وسلامة المواطنين للخطر".
وسبق ذلك تحذير صدر عن بعثة الاتحاد الأوروبي لدى ليبيا جاء فيه أن "استخدام القوة من شأنه أن يضر بالاستقرار في ليبيا ويؤدي إلى معاناة إنسانية وينبغي تجنبه مهما كلف الأمر".
ودعت البعثة كافة الأطراف "إلى الدخول في حوار لمنع المزيد من الانقسام، والحفاظ على الاستقرار وعلى اتفاق وقف إطلاق النار لعام 2020، والسعي لتحقيق مصلحة الشعب الليبي كهدف أسمى".
يأتي ذلك على وقع تقارير أفادت باندلاع اشتباكات غير واضحة الدوافع بين فصيلين مسلحين في منطقة تاجوراء، شرقي طرابلس، وذلك بعد هدوء نسبي ساد البلاد خلال الفترة الماضية. وأثار التصعيد الأخير مخاوف من انزلاق البلاد صوب موجة جديدة من الاقتتال.
ورغم عودة الحياة إلى طبيعتها في منطقة تاجوراء، إلا أن طرابلس شهدت أيضا واقعة تطويق عشرات الأشخاص، بعضهم كان مسلحا، مبنى تابعا لمصرف ليبيا المركزي لطرد محافظ البنك قبل أن يتم تفريقهم، بحسب تقارير محلية.
ودفع هذان الحادثان السفير الأمريكي في ليبيا ريتشارد نورلاند إلى القول عبر منصة "اكس" إن "حدوث اشتباكات جديدة بين جماعات مسلحة في الأيام الأخيرة يظهر المخاطر المتواصلة التي يطرحها الجمود السياسي في ليبيا".
تزامن هذا مع تزايد التصعيد السياسي في البلاد؛ إذ أعلن مجلس النواب المنعقد في بنغازي في شرق البلاد، قرار إنهاء مهام السلطة التنفيذية في طرابلس، واعتبار حكومة أسامة حمّاد في شرق البلاد "شرعية" حتى اختيار حكومة موحدة. كذلك أقر سحب صفة "القائد الأعلى للجيش" من المجلس الرئاسي، وهي هيئة منبثقة عن الاتفاق السياسي الذي أقر في جنيف العام 2021 برعاية الأمم المتحدة وتمثل مناطق البلاد الثلاث، وإعادتها إلى رئيس مجلس النواب.
وردا على ذلك، اعتبرت حكومة الوحدة الوطنية أنها تستمد شرعيتها من "الاتفاق السياسي الليبي وتلتزم بمخرجاته التي نصت على أن تُنهي الحكومة مهامها بإجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية، وتُنهي المرحلة الانتقالية".
وتعاني ليبيا من انقسامات منذ سقوط نظام معمر القذافي عام 2011. وتدير شؤونها حكومتان: الأولى معترف بها دوليا في طرابلس برئاسة عبد الحميد الدبيبة، والثانية في شرق البلاد برئاسة أسامة حمّاد وتحظى بدعم مجلس النواب "البرلمان" والمشير خليفة حفتر، الرجل القوي في شرق البلاد.
تحركات قوات حفتر
وفي السياق ذاته، أعلنت قوات المشير خليفة حفتر بشكل مفاجئ عن إجراء تحركات عسكرية جنوب غرب طرابلس قرب مناطق تحت سيطرة حكومة غرب ليبيا.
وقال حفتر إن القوات التابعة لنجله صدام تعمل على تأمين الحدود الجنوبية ومكافحة تهريب المخدرات والبشر ومحاربة الإرهاب، لكن خبراء يلقون بظلال من الشكوك حيال ذلك.
وفي مقابلة مع صحيفة "لوموند" الفرنسية، قال جلال حرشاوي، المتخصص في الشأن الليبي والزميل المشارك في "المعهد الملكي للخدمات المتحدة"، إن قوات حفتر ترغب منذ وقت في السيطرة على مطار غدامس والمناطق المحيطة به.
وأضاف أن "السيطرة على غدامس من شأنها أن تعزز بشكل كبير مكانة حفتر الإقليمية فيما يتعلق بالجزائر وتونس والنيجر، فضلا عن أن تلك السيطرة سوف تسد الطرق أمام حكومة الوحدة الوطنية".
وفي منشور على منصة "إكس"، حذر طارق المجريسي، الباحث السياسي بالمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، من أن استيلاء قوات حفتر على غدامس، "سوف يشكل انهيارا رسميا لاتفاق وقف إطلاق النار الذي أٌبرم عام 2020".
ولم تقف القوات التابعة لحكومة طرابلس صامتة أمام تحركات قوات حفتر؛ إذ دعت الميليشيات الموالية لها إلى الاستعداد لمواجهة أي هجوم محتمل بجنوب ليبيا.
شبح الحرب
بدوره، يرى عماد الدين بادي، الزميل البارز في برنامج الشرق الأوسط التابع للمجلس الأطلسي، أن تحركات حفتر الأخيرة تعد حلقة جديدة في سلسلة "سياسة حافة الهاوية".
وقال في مقابلة مع DW: "انخرطت العديد من الجهات الفاعلة في هذا الأمر من أجل الوقوف على المدى الذي يمكنها أن تصل إليه فيما يتعلق بإهانة أو تهميش أو تقويض خصومها. مازالت عقلية لا رابح ولا خاسر هي السائدة".
ويشير بادي في حديثه إلى حقيقة مفادها أن كافة الفصائل المتناحرة تعتقد أن بمقدورها إدارة شؤون البلاد في نهاية المطاف وترفض العمل صوب تحقيق الوحدة.
وفي مقال نشره موقع "يورونيوز"، كتب حافظ الغويل، المدير التنفيذي لمبادرة شمال أفريقيا في معهد السياسة الخارجية بجامعة جونز هوبكنز في واشنطن، أن "ليبيا مازالت متفككة. وتشير المؤشرات إلى أن الحكومات المتنافسة تعيد تجميع صفوفها من أجل شيء كبير. ليبيا معرضة لخطر التحول إلى دولة مافيا".
التدخل الأجنبي قادر على إنقاذ ليبيا؟
يشار إلى أن حكومتي شرق وغرب ليبيا تحظيان بدعم إقليمي ودولي؛ إذ تدعم تركيا حكومة طرابلس، فيما تقف مصر والأمارات وروسيا إلى جانب حكومة شرق البلاد. وطالبت الأمم المتحدة وجهات أخرى مختلف الداعمين الدوليين للجانبين في ليبيا وجنودهم بمغادرة البلاد.
لكن كما أوضح بادي، فإن وجودهم ربما يمنع المزيد من العنف في ليبيا الآن. وقال بادي لـ DW: "من المفارقة أن النفوذ الأجنبي يظل الشيء الوحيد الذي حال دون العودة إلى سيناريو الحرب الشاملة إلى ليبيا. يوجد توازن قوى بين الأتراك والروس وآخرين. وهناك ثمة تفاهم جيوسياسي فضفاض حول عدم الانخراط في صراع واسع النطاق مرة أخرى".
لقد فشلت كل المحاولات الرامية إلى توحيد شطري البلاد، على سبيل المثال من خلال عقد انتخابات وطنية أو توحيد قوات الأمن أو الوظائف الإدارية أو إعداد ميزانية وطنية أو تشكيل حكومة وحدة مؤقتة.
وجدير بالذكر أنه بين أبريل/نيسان 2019 ويونيو/حزيران عام 2020 حاولت قوات حفتر السيطرة على طرابلس، لكنها فشلت، فيما جرى توقيع اتفاق جنيف، الذي نص على تولي سلطة تنفيذية (حكومة الوحدة الوطنية) والمجلس الرئاسي التحضير لانتخابات رئاسية وتشريعية في ديسمبر/كانون الأول عام 2021، لكن العملية أرجئت بعد تجدد الخلاف السياسي والتوترات الأمنية.
وعلى وقع ذلك، بات المجتمع الدولي معتادا على التعامل مع حكومتين في ليبيا فيما يتعلق بقضايا النفط أو الهجرة. بيد أن خبراء يقولون إن سيناريو قبول الوضع الراهن لم يعد مجديا، خاصة مع تحول الميليشيات التي تدعم الحكومتين إلى ما يشبه المافيا.
وفي ذلك، قال بادي: "اكتسبت الأطراف الفاعلة (في ليبيا) جرأة بعد أن منحها المجتمع الدولي ما يشبه سياسة إفلات من العقاب. تم إهمال ليبيا إلى حد كبير من قبل المجتمع الدولي منذ عام 2021، وقد خدع كثيرون أنفسهم بالاعتقاد بأن ليبيا يمكن أن تظل مستقرة على المدى الطويل سواء عن طريق استمرار الوضع الراهن أو عن طريق المساعدة في إبرام صفقات بين الفصائل المتشرذمة المتناحرة".
وأضاف الزميل البارز في برنامج الشرق الأوسط التابع للمجلس الأطلسي: "سياسة التظاهر بإمكانية احتواء الصراع لم يُكتب لها النجاح. والتوهم أن ليبيا بخير وأنها تنعم بالاستقرار يضمحل ببطء في الوقت الراهن".