"خلال سبع سنوات من النزوح كان يتجدد أملي في العودة لمدينتي، الآن يتجدد اليأس. كنت أتمنى أن يولد أطفالي وأنا مرتاح في مدينتي وبيتي، وأحقق لهم أحلامهم في بيئة طبيعية". هذا ما قاله الشاب اليمني عبدالله لبي بي سي، وهو نازح داخليا في اليمن.
عبدالله البالغ (32 عاما) هو واحد من ملايين النازحين اليمنيين الذين شردوا بسبب الحرب التي بدأت قبل عشر سنوات.
يواجه خطر الطرد من بيته المستأجر، الذي يعيش فيه مع زوجته و ستة من أبنائه، في بيت متواضع يتكون من طابق واحد، مبني بالطوب الأسمنتي ومسقوف بالخشب.
يقول إنه هرب وأسرته قبل سبع سنوات إلى مأرب وسط اليمن، بعد اقتحام مقاتلي حركة أنصار الله منزله في الحديدة غربي اليمن في غيابه، وتهديد أسرته بالقتل.
في سبتمبر/ أيلول عام 2014، استيقظ اليمنيون على حرب طاحنة بين الحكومة المعترف بها دوليا، وحركة أنصار الله المعروفة بالحوثيين. وغيّرت تلك الحرب وجه اليمن، وسيطر كل طرف فيها على جزء من البلاد حتى الآن.
بعدها فرّ مئات آلاف المدنيين إلى أماكن متفرقة، أبرزها جنوبي البلاد، ولحقت بهم الحكومة المعترف بها دوليا. منذ ذلك الحين، لم يعرف النازحون داخليا طعم الاستقرار.
طرد تلو الآخر
طُرد عبدالله من منزلين ومحل تجاري سكن فيهم سابقا، بسب خلافات مع الملاك على أسعار الإيجار.
يقول"في المنزل الأول طُلب مني دفع الإيجار لمدة 4 أشهر مقدما. ولم تكد تمر 3 أشهر حتى ضاعفوا الإيجار. كنت أدفع 50 ألف ريال يمني، وطالب المالك برفعها لـ 100 ألف".
لم يستطع توفير المبلغ، فاضطر لإخلاء المكان، واستأجر بيتا أصغر.
بعد 3 أشهر تكرر نفس السيناريو مع صاحب البيت الجديد، لكن هذه المرة تشاجروا ولجأوا لقسم الشرطة. يقول "حبست لمدة أسبوع ثم أفرج عني، فاستأجرت محلا تجاريا سكنت فيه".
استقر في النهاية في بيته الحالي . يقول "هذا البيت الشعبي بدون سقف، بدون أي شيء، رممته وأصلحته، والآن صاحب البيت يريد استعادته ليهدمه ويعيد بناءه".
لا تغيب عن بال عبدالله الحياة التي كان يعيشها قبل النزوح. يقول: "بيتي في الحديدة كان جميلا ونظيفا ومرتبا ويناسب أولادي. لكن هذا البيت يأويك من الشمس والمطر. بل أحيانا لا يحمي حتى من المطر".
مئات الآلاف تحت التهديد
نحو 4.5 مليون يمني لا يزالون نازحين بسبب الحرب المستمرة حتى الآن. ثلثهم يعيش في مواقع نزوح جماعي.
أما البقية مثل عبدالله فيعيشون في منازل مستأجرة.
منذ أن قامت الحرب، اضطر نحو ثلث الأسر للنزوح أكثر من مرة. كما عجز معظم النازحين عن دفع إيجار مساكنهم بانتظام، في عام 2023.
النازحون في المخيمات الجماعية ليسوا بمنأى عن التهديد بالطرد، ما يقرب من ربعهم تلقوا إخطارات بالإخلاء العام الماضي.
يقول إبراهيم الحداد مدير وحدة المعلومات والاتصال في مكتب الشؤون الإنسانية بالأمم المتحدة في تصريحات لبي بي سي، إن مأرب استقبلت عددا كبيرا من النازحين، نظرا "لاستقرارها النسبي والوضع الاقتصادي الأفضل، مما أدى لإجهاد الموارد المحلية بما في ذلك خدمات المياه والتعليم والرعاية الصحية، التي أصبحت غير قادرة علي تلبية الطلب المتزايد، بالإضافة إلي النزاعات الاجتماعية بين المجتمعات المضيفة والنازحين".
ويضيف الحداد أن "التدهور الاقتصادي المستمر، والتضخم يضع ضغوطا إضافية على النازحين ومالكي العقارات الذين يفكرون في إخلاء النازحين سعيا للحصول على مصدر دخل أفضل".
ووفقا لإحصاءات المفوضية الأممية لشؤون اللاجئين، فمعظم النازحين المهددين بالطرد في مأرب، حيث يعيش عبدالله، ليس لديهم خيارات أخرى.
مخاطرة العودة
بسبب صعوبة التأقلم في أماكنهم الجديدة، يضطر بعض النازحين للعودة من حيث أتوا، ولم تضع الحرب أوزارها بعد.
لكن هذا ليس خيارا بالنسبة لعبدالله، الذي يقول إن بيته تحول إلى مقر لجنود جماعة أنصار الله.
يقول "علمت مؤخرا أن بيتي تعرض للنهب، ووضعت فيه أجهزة وشبكات اتصال، وبات الجنود يستخدمونه لنيل قسط من الراحة وتخزين القات"، وهو مخدر نباتي مشهور في اليمن.
"عندي شوق لمدينتي لكنه في الصدور فقط. لا أحد يقدر علي العودة للبيت". يقول عبدالله.
ووفقا لإبراهيم الحداد مدير وحدة المعلومات والاتصال في مكتب الشؤون الإنسانية بالأمم المتحدة، تعد الألغام الأرضية والذخائر غير المنفجرة واستمرار القتال في بعض المناطق من أشكال الخطر التي تواجه العائدين لمناطقهم الأصلية، وتجعل من الصعب تحقيق عودة مستدامة.
ويضيف "غالبا ما يواجه العائدون عوائق قانونية أمام استعادة ممتلكاتهم أو استخراج الوثائق المدنية، مما يزيد تعقيد إدماجهم أو إعادة توطينهم".
وتحذر مؤسسات الأمم المتحدة من أن "عمليات الإخلاء التي تؤدي إلى العودة المبكرة للنازحين داخليا إلى موطنهم الأصلي، دون توفر الأمن المطلوب، قد تقوّض مبادئ العودة الطوعية في أمان وكرامة".
ملايين على شفا المجاعة
"كان الحصول على الطعام في الحديدة سهلا جدا ولا ألقي له بالا، بينما نحصل على الطعام هنا بشق الأنفس"، وفق ما يقول عبدالله.
توفير المال أيضا بالأمر اليسير، فمنذ ترك عبدالله العمل في معرض السيارات الذي كان مملوكا لوالده في مدينة الحديدة قبل النزوح، لم يهنأ بوظيفة أبدا. أحيانا يعمل في تصليح أعطال الكهرباء، أو حراسة المنازل، ويقول: "قد تعمل يوما، وتجلس دون عمل باقي الأسبوع، أو تعمل بضعة أيام وتجلس باقي الشهر".
لا يواجه النازحون أزمة سكن فحسب. فنصف السكان تقريبا على شفا المجاعة ولا يجدون مياه نظيفة للشرب، وتفتك بهم أمراض خطيرة، كالكوليرا وشلل الأطفال، وفقا للأمم المتحدة.
كما يعاني نحو 2.4 مليون طفل يمني من سوء التغذية الحاد، وفقا للمصدر الأممي نفسه.
ويتخوف الحداد، من أن استمرار الصراع يفاقم الأزمة الإنسانية، ويحول دون التقدم نحو تحقيق الاستقرار على المدى الطويل في اليمن.
أزمة تمويل
تبذل المنظمات الدولية جهودا حثيثة لإغاثة هؤلاء النازحين، لكن الأمم المتحدة، أكبر هذه المنظمات تواجه نقصا في التمويل، وتحديات قد تقلص حجم عملياتها في اليمن.
في مايو/ أيار الماضي، خصصت الدول المانحة نحو 735 مليون دولار أمريكي للاستجابة الإنسانية في اليمن، مقابل 2.7 مليار دولار أمريكي كانت مطلوبة هذا العام، أي نحو ربع المبلغ المطلوب. وكانت خطة الاستجابة للأزمة في اليمن قد جرى تمويلها بنسبة 40% العام الماضي.
نقص التمويل ترك العديد من الأسر دون دعم، وفقا لتصريحات إبراهيم الحداد لبي بي سي. لكنه يؤكد أن عمليات الإغاثة تتواصل وفقا لمبادئ العمل الإنساني، رغم هذه الأزمات.
يشعر عبدالله بالظلم والعجز لأنه مضطر أن يعيش هذه المأساه مع أطفاله، ولا يعلم ماذا يخفي لهم المستقبل.
خلال حديثه مع بي بي سي، يكرر وصف مدينة الحديدة التي نزح منها بكلمة "بلادي". ورغم أنه نازح داخل اليمن، فإنه يقول: " كأنني لا أعيش في وطني".