تردد دوي انفجارات قوية وارتفعت أعمدة الدخان الأسود في السماء وخلت المواقع الأثرية من السياح وابتعد الصيادون عن السواحل وهجر المتنزهون الشواطئ. فقد حول القصف الإسرائيلي مدينة صور الساحلية اللبنانية الخلابة إلى مدينة أشباح.
كانت صور في مأمن أغلب فترات العام الذي شهد تبادل إطلاق النار بين جماعة حزب الله اللبنانية وإسرائيل. لكن الغارات الجوية الإسرائيلية هذا الأسبوع أثارت مخاوف من أنه لن يكون هناك مكان آمن في لبنان.
وبالقرب من أحد المباني السكنية الثلاثة التي تحولت إلى أنقاض يوم الأربعاء، وضعت عائلة متاعها في سيارة متوقفة تحيط بها شظايا الزجاج المكسور والحطام. وحُمّلت ثماني حشيات على سقف السيارة وربطت بحبل.
وحطم القصف الإسرائيلي واجهات المباني المحيطة فانكشفت أنابيب الحمامات ومطابخ بالكامل. وتناثر المتاع الشخصي في كل مكان، الأحذية والصور والألعاب والملابس.
وخلت الشواطئ الخلابة في صور من الرواد. وفي الشهر الماضي فحسب، كان نشطاء في حماية البيئة يساعدون السلاحف البحرية المهددة بالانقراض على وضع بيضها على طول الساحل، لكن منذ ذلك الحين، حذر الجيش الإسرائيلي من الأنشطة البحرية، قائلا إنها قد تكون مستهدفة.
وجلس الصياد خليل علي (59 عاما) على رصيف ويلقي صنارته بلا أمل في البحر.
وقال “إحنا قلقانين… الوضع ممكن يكون زي غزة والإسرائليين يصدروا (أوامر) لإخلائنا جديدة ويطلعونا من بيوتنا. هي الحرب مش متل (مثل) 2006، كتير صعب، ما خربوا متل هلق (الآن)”
وقالت السلطات اللبنانية إن أكثر من 2500 شخص لاقوا حتفهم في الهجوم الإسرائيلي على لبنان، واضطر أكثر من 1.2 مليون نسمة على النزوح من منازلهم.
وقال حسن دبوق رئيس بلدية صور لرويترز إنه لم يبق في المدينة إلا ربع السكان وإن كثيرين يخشون أن يطالهم الدمار الذي لحق بقطاع غزة الفلسطيني أيضا.
وأضاف “نفس الأشخاص ونفس الحرب ونفس العقلية إللي عم بتفكر ونفس المسؤولين الإسرائيليين مع نفس الدعم الأمريكي ونفس الدعم الأوروبي. العناصر هي نفسها، ليش بدنا نتخالف (يكون الأمر مختلفا) في لبنان”.
وفي ميناء صور، كانت عشرات السفن راسية صباح يوم الأربعاء. وعادة ما تعج هذه المنطقة بالنشاط حيث يأتي الصيادون بصيدهم لبيعه للتجار، لكن المكان يعمه الآن هدوء مشوب بالحذر. وجاء عدد قليل من الصيادين، ليس للصيد، لكن للاطمئنان على قواربهم.
وأُغلقت المحلات التجارية والمطاعم، كما أٌغلقت الثلاجات التي كانت تحتوي على الأسماك الطازجة، وخلت من المنتجات.
"حرب شرسة"
لم يبق في المدينة إلا الذين لم يعد لديهم مكان آخر يذهبون إليه والذين شعروا بواجب البقاء. وقالت امرأة من سكان صور إنها تفضل البقاء في مسقط رأسها على الموت كلاجئة.
واختار وائل مروة (49 عاما) وهو مدير مستشفى جبل عامل المكوث في المدينة أيضا. وهذا المستشفى هو واحد من ثلاثة مستشفيات لا تزال تقدم خدماتها في جنوب لبنان.
ويتذكر مروة الذي عاش حروبا كثيرة، طفولته التي كانت مليئة بالقصف والانفجارات والدمار.
وقرر ألا يعرض أطفاله الثلاثة وذويه لنفس الأهوال، فأرسلهم إلى مكان آمن في الشمال بينما بقي هو في صور.
وقال لرويترز في المستشفى “قرار صعب، قرار فراق.. يمكن ما رح نرجع نشوف بعض. ما بنعرف كيف رح تسير الأمور بهذه الحرب الشرسة اللي عم تسير علينا”.
وفي ممرات المستشفى، تناثرت حشيات وغيرها من الأمتعة الشخصية. فلإقناع بعض موظفيه بالبقاء، سمح لهم مروة بالعيش هناك مع عائلاتهم.
وكما هو الحال في المدينة ذاتها، لم يبق في المستشفى سوى ربع الأطباء، كما بقي أكثر بقليل من ثلث الممرضات.
وتجول مروة في وحدة العناية المركزة ووحدة غسيل الكلى للاطمئنان على نحو 30 مريضا أصيبوا في الحرب، كثيرون منهم مصابون بجروح خطيرة وفاقدون للوعي.
ويرسل مروة المرضى أصحاب الحالات المستقرة إلى بيروت كل يوم، لكن مع استمرار الصراع، فإنه يستعد ويجهز المستشفى للأسوأ.
وقال إن هناك أنماطا مثيرة للقلق في تصرفات إسرائيل في لبنان تشبه ما حدث في غزة، وخاصة فيما يتعلق باستهداف عمال الإغاثة والمساعدات الطبية والمستشفيات.
ويقول لبنان إن 13 من مستشفياته وأكثر من 100 منشأة صحية أخرى خرجت من الخدمة بسبب الضربات الإسرائيلية. وتقول منظمة الصحة العالمية إن أكثر من 100 طبيب وعامل إنقاذ قتلوا العام الماضي في لبنان.
ويرى مروة أن هذه الضربات الإسرائيلية محاولة لإضعاف الروح المعنوية، لكنه يقول إنها لم تؤثر على إحساسه بالمسؤولية.
وأضاف “إذا كل واحد رح يفل (يغادر) من وطنه ما رح يبقى حدا… وجودنا هنا كأطباء وكالمستشفى هو جزء من صمودنا في المنطقة”.