9 يونيو 2025
17 مايو 2025
يمن فريدم-اندبندنت عربية-منى عبدالفتاح


نشط الاقتصاد الموازي في السودان خلال الحرب التي اندلعت منذ أبريل/ نيسان 2023 نتيجة لانهيار مؤسسات الدولة وتفكك النظام المصرفي وتعطل سلاسل الإمداد الرسمية. وهذه الأزمة التي تتغذى على التهريب والتهرب الضريبي والتجارة غير المشروعة في ظل غياب فعلي لمؤسسات الدولة كانت بلغت ذروتها في سنوات ما قبل الانتفاضة التي أطاحت حكم الرئيس السابق عمر البشير عام 2019.

وكانت الاحتجاجات قد اندلعت نتيجة للفساد الاقتصادي واحتكار الموارد، خصوصاً عائدات النفط والذهب، غير أن الآمال في الإصلاح اصطدمت بواقع اقتصادي مأزوم، ظل ينحدر من سيئ إلى أسوأ، إلى أن اندلعت الحرب لتقضي على ما تبقى من بنى الإنتاج، وتعمق الركود، وتكشف عن العطب البنيوي الذي أحدثه الاقتصاد الأسود في جسد الاقتصاد الوطني.

توقفت معظم مؤسسات الدولة عن العمل في الخرطوم ومناطق النزاع، بما في ذلك البنك المركزي ووزارات المالية والتجارة، مما خلق فراغاً تنظيمياً ورقابياً، مما أدى كذلك إلى غياب الرقابة على السوق، وارتفاع معدلات التهريب، وظهور أسواق موازية تتحكم في أسعار السلع والعملات. وظهرت أسواق بديلة للعملات الصعبة، وتوسعت تجارة السلع الاستهلاكية والأساسية في الأسواق الموازية، خصوصاً في مناطق النزوح والحدود.

وفي ظل تعطل البنوك والنظام المصرفي، نشطت شبكات التحويلات المالية غير الرسمية بين السودانيين في الخارج وذويهم في الداخل. واستفاد المهربون من هشاشة الوضع الأمني في تهريب الذهب والماشية والسلع الأساسية والبشر عبر الحدود، إلى تشاد وليبيا ومصر ما مكنهم من إدارة اقتصاد مواز خاص بهم.

واستغلت هذه الجماعات وجودها في بعض المناطق الحدودية لفرض جبايات وإتاوات على الحركة التجارية. وانتشرت المبادرات الذاتية والمبادلات العينية في المناطق الريفية والمعزولة.

ولجأ السكان إلى تكوين شبكات محلية لتبادل السلع والخدمات خارج إطار الدولة والسوق النظامية، كما أن ضعف الرقابة على الحدود أسهم في شرعنة جزء من الاقتصاد الموازي الذي لم يقتصر على أنه نتيجة للحرب فحسب، بل أصبح إحدى أدواتها. ومع غياب الدولة وتفتت مؤسساتها تحولت السوق السودانية إلى منظومة اقتصادية متعددة المراكز تتحكم فيها شبكات التهريب وتجار الأزمات.

دوافع متباينة

في خضم الفوضى الاقتصادية والأمنية التي يعيشها السودان تبرز ملامح اقتصاد مُوازٍ متعدد الرؤوس تديره وتغذيه جهات مختلفة تتباين في دوافعها وأدواتها، لكنها تلتقي جميعاً في تقويض النظام الاقتصادي الرسمي، واحتكار الموارد خارج سلطة الدولة. على رأس هذه الجهات، تأتي القوات المسلحة السودانية، التي ورثت شبكات اقتصادية من عهد النظام السابق، ووسعتها تحت مظلة هيئة التصنيع الحربي وجهاز الأمن والاستخبارات السابق.

وتسيطر القوات على قطاعات حيوية كالموانئ وخطوط الوقود وبعض المعابر، وتدير شبكات توزيع غير رسمية تسوق باعتبارها إجراءات "استثنائية" لحماية الموارد من النهب والتهريب. يبرر الجيش ذلك بأن البلاد في حال حرب، وأن الانهيار المؤسسي يفرض الاعتماد على الموارد الذاتية. كما تقدم الأنشطة الاقتصادية غير الرسمية باعتبارها وسيلة مباشرة لتمويل القتال، في ظل انسداد الأفق المالي وانهيار الموازنة العامة.

في المقابل تعد قوات "الدعم السريع" أكثر الأطراف تغلغلاً في الاقتصاد الموازي، إذ تسيطر على مناجم الذهب في دارفور وكردفان، وتدير شبكات تهريب نشطة تمتد إلى ليبيا وتشاد وأفريقيا الوسطى. وتستند تبريراتها إلى خطاب "إعادة توزيع الثروة"، معتبرة أن الذهب ثروة تاريخياً مهمشة، وأن استغلاله جزء من "تمكين الهامش". كما ترى نفسها كياناً مستقلاً، يحق له التمويل الذاتي، وتحمل الدولة المركزية مسؤولية الفوضى، مسوغة بذلك تعاملها مع السوق السوداء والتحويلات غير الرسمية.

أما شبكات التهريب والتجارة عبر الحدود، فهي الطرف الأكثر مرونة وخفاءً، وغالباً ما تعمل بتنسيق خفي مع جماعات مسلحة، مقابل حماية أو حصص من الأرباح. وتتداخل معها شريحة من المسوقين المرتبطين بالأطراف المتحاربة، يعملون عبر واجهات تدير منظومات اقتصادية موازية تعتمد على السوق السوداء، وتمويل الصراع مقابل امتيازات.

في ظل انهيار الدولة تشكلت أيضاً شبكات أهلية قاعدية تدير أسواقاً محلية بالمقايضة وإنتاجاً ذاتياً للسلع وتحويلات المغتربين. وعلى رغم محدوديتها تعد هذه المبادرات آخر خطوط الصمود المجتمعي، وإن كانت تعمل خارج القانون. أما تبريرات الفاعلين كافة في هذا المشهد، فتراوح ما بين "الضرورة الاقتصادية"، و"الواقعية الأمنية"، و"غياب الدولة"، وكلها تعكس وجهاً مأسوياً لاقتصاد ولد من رحم الانهيار، ويصعب تفكيكه من دون تسوية شاملة.

معضلة تنموية

قال الأستاذ المشارك بـ"الجامعات السودانية" محمد الناير، "الاقتصاد الموازي أو السري أو اقتصاد الظل يستخدم للإشارة إلى قطاع اقتصادي غير مرخص يعمل خارج القنوات الرسمية ولا يظهر ضمن المؤشرات الاقتصادية الرسمية مثل الناتج المحلي الإجمال أو الدخل القومي "، وأشار إلى أن الظاهرة تمثل معضلة تنموية تواجه عديداً من الدول، لا سيما النامية، ومنها السودان، "فكلما تطورت الدول في أنظمتها التقنية والرقابية، أحكمت السيطرة على المنافذ التجارية والحراك الموازي. وفي السودان، بوصفه دولة مترامية الأطراف ومفتوحة الحدود مع دول تعاني، بدورها، من الظاهرة ذاتها، تقدر نسبة الاقتصاد الموازي فيه بين 40 و50% بحسب التقديرات غير الرسمية، نتيجة غياب آليات الحصر الشاملة وضعف البيانات".

أضاف الأستاذ المشارك "الفئات المنتظمة في هذا الاقتصاد تشمل الحرفيين الهامشيين والمقاولين الصغار والباعة المتجولين، الذين لا يمتلكون سجلات ضريبية، ولا تخضع أنشطتهم للرقابة، وصولاً إلى المهربين الذين ينقلون السلع والموارد مثل الذهب والصمغ العربي والوقود، والسلع الاستراتيجية إلى الخارج من دون علم الدولة أو دفع رسوم جمركية، مما يعزز التهرب الضريبي ويفاقم الفاقد الاقتصادي".

ونوه إلى أنه في ظل الحرب، "يتزايد نشاط هذه القطاعات، ويجري استغلال المواطنين في خدمات مثل الإيجارات بالمناطق المستقبلة للنازحين، وهي أنشطة لا تخضع لأي إطار ضريبي أو رقابي". وحذر الناير من أن استمرار التعامل الواسع خارج النظام المصرفي الرسمي، والتوسع في السوق السوداء، سيؤدي إلى تآكل قيمة الجنيه السوداني، وزيادة الاعتماد على العملات الأجنبية، ما يهدد أي خطة مستقبلية للتعافي الاقتصادي.

أما عن السيناريوهات المتوقعة، فرأى الناير أنه "بعد توقف الحرب، يجب أن تضع الدولة على رأس أولوياتها خطة لإدماج الاقتصاد الموازي ضمن الاقتصاد الرسمي، مما قد يفضي إلى تحسين جوهري في تلك المؤشرات.

ويتطلب ذلك حزمة سياسات تشمل مكافحة التهريب، وتشجيع صغار المنتجين والحرفيين ورجال الأعمال على فتح سجلات ضريبية، مع توفير نظام محاسبي منطقي وعادل. إذا نجحت الدولة في هذه الخطوة، فإن النشاط الموازي سيسهم فعلياً في الناتج المحلي الإجمال"، كما أكد "ضرورة تفعيل الأجهزة الرقابية، وتطوير القوانين واللوائح، لضبط المنافذ والأسواق، وتقليص نسبة الاقتصاد الموازي وتضمينه في الاقتصاد الكلي، بما ينعكس إيجاباً على الأداء العام ومؤشرات التنمية".

دور مزدوج

من جهته رأى الصحافي محمد مصطفى أن الاقتصاد الموازي في السودان في ظل الحرب يؤدي دوراً مزدوجاً تتقاطع فيه آثار كارثية على الدولة مع فوائد ظرفية لضرورة البقاء. وأضاف "في المستوى السلبي يعمق الاقتصاد الموازي من هشاشة الدولة وغياب سيادتها الاقتصادية، إذ تفقد الحكومة السيطرة على أدواتها السيادية من الضرائب إلى تنظيم السوق، ومن السياسة النقدية إلى ضبط الحدود".

وتابع "تنتقل الموارد إلى أيدي فاعلين غير رسميين من جماعات مسلحة ومحتكرين وشبكات تهريب عابرة للحدود، في ظل غياب القانون، فتنتشر الجريمة المنظمة، وغسل الأموال، وتتداخل المصالح في بيئة رخوة تؤسس لاقتصاد حرب دائم. كما يتسبب هذا النظام الموازي في اضطراب شامل للأسعار، إذ يتحكم به المنطق الربحي اللحظي، مما يؤدي إلى تضخم مفرط، وتدهور قيمة العملة المحلية نتيجة المضاربات بالعملات الأجنبية، ويقوض الثقة في المؤسسات المالية الرسمية، ويعمق اعتماد الناس على القنوات غير النظامية للتحويلات والدفع، ويقلص أي أفق لإعادة الإعمار الاقتصادي بعد الحرب".

وأكد مصطفى أنه "على المستوى الاجتماعي، يعيد الاقتصاد الموازي توزيع الموارد بصورة غير عادل، إذ تراكم النخب المرتبطة به الثروات، بينما يواجه الفقراء مزيداً من الحرمان من الخدمات والفرص، مما يوسع الفجوات الطبقية ويغذي الانقسامات المناطقية والإثنية".

ونوه إلى أنه لا يمكن إغفال أن الاقتصاد الموازي يؤدي أدواراً إيجابية محدودة خلال الأزمة، موضحاً أيضاً أنه "في ظل تعطل السوق الرسمية، وغياب الدولة، وفقدان البنية التحتية، أتاح هذا الاقتصاد موارد محدودة من غذاء وأدوية ووقود، ما مكن المتضررين من الحرب من البقاء".

وتابع "شكلت شبكات التحويل غير الرسمي، شريان الحياة الوحيد للأسر السودانية من تحويلات المغتربين، في وقت انهارت فيه البنوك. وفي بعض المناطق الريفية أو المحاصرة، نشأت بدائل محلية قائمة على المقايضة والأسواق الشعبية، مكنت فئات ضعيفة، خصوصاً النساء والتجار الصغار، من المشاركة في النشاط الاقتصادي. كذلك وفر الاقتصاد الموازي درجة من المرونة في التنقل والتجارة، بعيداً من البيروقراطية المنهارة، مما حافظ جزئياً على دوران العجلة الاقتصادية في بلد مثخن بالحرب والفوضى. غير أن هذه المكاسب تظل موقتة، ومرتبطة باستمرار الأزمة، لا بحلول مستدامة".

ضمانات قانونية

في الأثناء رأت المحامية وصال عبدالله أن الاقتصاد الموازي يتعمق ويتوسع مع الانهيار المؤسسي في ظل الحرب، ما يعقد جهود استعادة الدولة ويهدد وحدة الاقتصاد الوطني، وأضافت "غياب الأجهزة الرقابية وتعطل النظام القضائي والجمركي، يمنح الفاعلين في السوق غير الرسمية مساحات أوسع للتحرك، ويسهل تمويل الجماعات المسلحة وتبييض الأموال عبر قنوات غير قانونية، ليصبح استمرار الاقتصاد الموازي في زمن الحرب ليس فقط مسألة اقتصادية، بل تهديداً مباشراً لبنية الدولة القانونية والسيادية".

وتابعت عبدالله أن هذا الوضع يحتم على الدولة، حتى وهي في خضم الصراع، وضع أسس قانونية طارئة تمهد لمستقبل ما بعد الحرب، بحيث لا يعاد إنتاج الهياكل الموازية ذاتها التي كرست العنف الاقتصادي.

وذكرت أن "القوانين لا تصاغ فقط لتطبق في أوقات السلم، بل يجب أن تكون أداة مرنة للاستجابة للأزمات، وإطاراً يتيح جذب الفاعلين الاقتصاديين نحو مسار شرعي يضمن لهم الحماية القانونية ويفتح لهم آفاق التعامل الرسمي"، ولهذا دعت إلى "البدء بحزمة إصلاحات قانونية انتقالية تشمل تعديل تشريعات المعادن والتجارة عبر الحدود، وتوسيع قدرة النظام المصرفي للتعامل مع الاقتصاد الأهلي والمجتمعات المتضررة من الحرب"، وقالت أيضاً "إعادة دمج الاقتصاد الموازي في إطار الدولة ينبغي أن يبدأ منذ الآن، ولو جزئياً، عبر تقديم ضمانات قانونية للتجار والفاعلين المحليين الذين يسعون إلى الخروج من السوق السوداء"، وشددت على أهمية وجود قضاء اقتصادي مرن حتى في حالات الطوارئ، وتفعيل أدوات الرقابة القانونية الرقمية لتقليص نفوذ شبكات التهريب.

وأكدت أن "تجاهل هذه المسائل، خلال الحرب، سيفضي إلى تعميق الاعتماد على الاقتصاد غير الرسمي حتى بعد توقف القتال، مما يجعل عملية إعادة البناء أكثر صعوبة، فالقوانين والتشريعات ليست فقط أداة لضبط السلوك، بل وسيلة لإعادة هندسة العلاقة بين الدولة والمجتمع، وهو ما يحتاج إليه السودان الآن أكثر من أي وقت مضى".

مقاربة مستقبلية

واعتبرت "مجموعة الأزمات الدولية" أن "المعركة الحقيقية المقبلة في السودان لن تكون فقط بين الجيش و'الدعم السريع'، بل بين من يريد بناء دولة مؤسسية، ومن يفضل بقاء اقتصاد الحرب كمصدر للسلطة والثروة".

وأوصت المجموعة "بضرورة إدراج ملف الاقتصاد الموازي ضمن أي مفاوضات سياسية مستقبلية، لا بوصفه ملفاً تقنياً، بل كأحد جذور الأزمة الوطنية"، وذهبت "مجموعة الأزمات الدولية" في تقاريرها الأخيرة إلى أن أحد أبرز تحديات الانتقال السياسي في السودان لن يكون سياسياً فحسب، بل اقتصادياً - أمنياً، يتمثل في تفكيك بنية الاقتصاد الموازي المسلح.

واعتبرت أن استمرار السيطرة على الموارد من قبل جماعات مسلحة، وغياب الرقابة على شركات "الجيش" وهذه الجماعات، يعقدان من أي محاولة لبناء دولة مدنية. وأوصت بأن تدرج ملفات الشفافية الاقتصادية، وضبط الموارد، ودمج الاقتصاد غير الرسمي ضمن ترتيبات السلام، وأن تربط المساعدات الدولية بمدى التقدم في إعادة هيكلة النظام الاقتصادي، مشيرة إلى أن عدم التعامل الجاد مع هذه الملفات سيجعل أي اتفاق سياسي هشاً، وقابلاً للانهيار.

ويتفق مراقبون مع هذه الرؤية بأن أي مقاربة مستقبلية لإعادة بناء الدولة في السودان يجب أن تعطي أولوية قصوى لتفكيك بنية الاقتصاد الموازي، عبر ضبط الحدود، ومكافحة الجريمة العابرة، وتوفير موارد كافية لملاحقة شبكات التهريب، والعمل على استعادة احتكار الدولة للعنف المشروع والموارد العامة، ويؤكدون أن ذلك وحده كفيل بإعادة الاعتبار للدولة السودانية ككيان سيادي جامع، يلبي تطلعات مواطنيه، ويقطع الطريق على إعادة إنتاج اقتصاد الحرب.

وعليه، فإن مستقبل السلام ليس رهن وقف إطلاق النار فحسب، بل يتطلب مشروعاً استثنائياً لبناء دولة جديدة لا يشكل فيها الاقتصاد الموازي دعامة الحياة، بل يتأسس على عقد سياسي شفاف، وعدالة اجتماعية حقيقية، وإرادة مدنية واعية تعي أن ما يبنى على أنقاض الحرب لا بد من أن يكون نقيضها، لا مرآتها.

الفيس بوك
تويتر

جميع الحقوق محفوظة YemenFreedom ---- تصميم وبرمجة ALRAJIHI