تعد مدينة صنعاء واحدة من أقدم المدن في العالم، ومثلت قيمة مادية بارزة في التاريخ اليمني بوصفها شاهداً حياً على الحضارة الإنسانية اليمنية التي حافظت على طابعها الخاص، وباعتبارها نموذجاً لارتباط التاريخ العريق بالواقع الذي يحمل مخاطر محدقة. فالمدينة التاريخية تواجه خطراً وجودياً يتعلق بعزم ميليشيات الحوثي هدم ما يقارب أربعة أسواق شعبية تحمل مدلولاً تاريخياً توارثته الأجيال شاهدة على ما بقي من الهوية اليمنية ذات الطابع الهندسي الفريد، وإقامة مزارات وأضرحة دينية مكانها، بحسب تأكيدات رسمية وشعبية واسعة.
مزارات إيرانية
واتهمت الحكومة اليمنية جماعة الحوثي بالسعي إلى هدم أسواق عتيقة في مدينة صنعاء القديمة الأثرية لإقامة مزار ديني، داعية الشركاء الدوليين ومنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "اليونيسكو" إلى الإسهام في منع ذلك.
وقال السفير اليمني لدى "اليونيسكو" محمد جميح إن الحوثيين الذين يزعمون أن الإمام علي بن أبي طالب جاء إلى صنعاء وزاره الناس في المكان ذاته الذي ينوون هدمه، إنما هدفهم السطو على المدينة القديمة الواقعة على قائمة التراث العالمي والمشمولة بالحماية الدولية بحسب المعاهدات الدولية الموقع عليها اليمن.
ويحذر جميح خلال حديثه لـ"اندبندنت عربية" من أن أي مساس بهذه المحال أو الأسواق القديمة "يؤثر بشكل كبير في مكانة صنعاء بقائمه التراث العالمي".
ويستدرك بأن الحوثيين يريدون بناء مزار طائفي لأغراض اقتصادية ستدر عليهم مزيداً من الأموال التي ستوهب لهذه المزارات، إضافة إلى سعيهم إلى "بناء رمزية معينة يغيرون بها وجه صنعاء الثقافي والتراثي لتكتسي هوية جديدة، وبالطبع سيكون البناء على الطراز الإيراني كما هو موجود في المزارات الإيرانية المعروفة، وهي مظاهر دخيلة على تراث صنعاء القديمة، وعلى التراث المعماري اليمني بشكل عام".
وكانت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة قد أدرجت مدينة صنعاء القديمة عام 1986 ضمن قائمة التراث العالمي.
على طاولة "اليونيسكو"
عن الإجراء الرسمي إزاء الخطوات الحوثية أوضح جميح أن بلاده "تواصلت منذ اليوم الأول مع الأطراف الدولية لـ(اليونيسكو) وخارج (اليونيسكو)، وشرحنا لهم خطورة ما ينوي الحوثيون الاقدام عليه، وأرسلنا إليهم الأدلة على ذلك، كما أرسلنا رسالة رمزية للمدير العام للمنظمة، وشرحنا لها الأمر وخطورة ما يقوم به الحوثي على مكانة صنعاء، ووضعنا (اليونيسكو) أمام مسؤولياتها الأخلاقية والمعنوية في حماية ما هو مشمول ضمن التراث العالمي".
ويعود تاريخ تلك المدينة إلى أكثر من 2500 عام، وكانت مسورة بالكامل بالأسوار التاريخية، إلا أنه لم يتبق اليوم سوى سور واحد.
إقرار حوثي
ولم يصدر أي توضيح أو بيان من قبل جماعة الحوثي حول الاتهامات الحكومية والشعبية، كما لم يتسن الحصول على تعليق منهم، لكن سلطان السامعي القيادي في المجلس السياسي الأعلى للجماعة طالب في تغريدة له على "تويتر" بحبس من وصفهم بالمتشنجين الذين "يريدون تخريب مدينة صنعاء التاريخية فهي تراث إنساني وليست بملكية للشوافع والزيود"، وهي الأطراف الثقافية التي تقف ضد الأيدولوجيا الدينية للحوثي، الآخذة في التقارب يوماً بعد آخر مع الإيرانيين.
وأمام السيطرة الحوثية على صنعاء بقوة السلاح تبدو حيل الشرعية اليمنية محدودة وغير ملموسة على الأرض، عدا اتخاذ بعض الإجراءات الدولية التي تسعى إلى إحداث ضغط دبلوماسي قد يخفق في إقناع الجماعة المتشددة بوقف مساعيها في تجريف أحياء وأسواق شعبية قديمة ذات طراز حضاري ضارب في التاريخ.
ويشير جميح إلى إشعاره مكتب "اليونيسكو" الإقليمي في الدوحة باعتباره المشرف على المشاريع الثقافية والتراثية في حماية التراث في اليمن وعدد من المؤسسات الدولية، والمؤمل أن يبدي ضغطاً دولياً، كما يؤمل أن تجدي الحملة الشعبية الواسعة ونشر الوعي المجتمعي في الضغط على الحوثيين لإقناعهم عن الكف عن هذه المخططات".
وسبق لـ"اليونيسكو" أن حذرت، بحسب جميح، من إقامة ما كان الحوثيون ينوون قيامه من بناء بوابة شعوب، وهو بناء جديد لا علاقة له بالبوابة التاريخية التي كانت موجودة لأنه لم يعد لها أثر.
وذكر السفير اليمني بقيام الجماعة المدعومة من إيران بهدم جامع النهرين وأنشأوا استحداثات بمواد حديثة مثل الأسمنت بداخل صنعاء القديمة، وهو أمر مخالف وسيضر بمكانة صنعاء على قائمة التراث العالمي.
ويختتم بمسعى الحكومية الشرعية إلى مواصلة الجهود والتواصل مع المؤسسات الدولية المختلفة ذات العلاقة للضغط لثني هذه الجماعة المجرمة عن هذه الخطوة. وتضم صنعاء القديمة أكثر من 6500 منزل تاريخية تعود إلى ما قبل القرن الـ 11، فضلاً عن 106 مساجد و21 حماماً تاريخياً في حين تتميز بيوتها ومبانيها بطابع معماري فريد.
مذبحة أسواق صنعاء
وكان وزير الإعلام والثقافة اليمني معمر الإرياني قد حذر في تغريدة له عبر "تويتر" مما وصفه بـ"إقدام الحوثيين على هدم أسواق المحدادة والحلقة والمنقالة (أسواق مهن شعبية قديمة)، والتي تضم مئات المحلات الأثرية في مدينة صنعاء القديمة، وتحويلها إلى مزار على الطريقة الإيرانية".
وفي فبراير (شباط) من العام الماضي هدمت ميليشيات الحوثي مسجد النهرين التاريخي الواقع في مدينة صنعاء القديمة الذي بني في القرن الأول الهجري.
واتهم الإرياني الحوثيين بـ"استهداف وتدمير المواقع الأثرية والتراثية ضمن مخططها لتجريف الهوية والموروث الثقافي والحضاري والتاريخي لليمن، واستبدال هوية دخيلة مستوردة من إيران بها"، على حد قوله. وأضاف أن "المجتمع الدولي والأمم المتحدة والمنظمات الدولية، وعلى رأسها منظمتا (اليونيسكو) و(الألكسو)، مطالبون بإدانة هذه الجريمة، والتدخل لوقف المذبحة التي ينوي الحوثيون ارتكابها بحق أحد مواقع التراث العالمي الخاضعة للحماية الدولية، باعتبارها ملكاً للإنسانية جمعاء، وجزءاً من تاريخ وهوية البشرية".
ويتهم نشطاء ومثقفون يمنيون سلطة الحوثيين بانتهاجها سلوكاً عدائياً إزاء المعالم التاريخية وكل ما يمثل رمزية ثقافية حضارية لليمنيين. ولطالما اتهمت الحكومة اليمنية لجوء الحوثيين إلى تمكين جهات غير قانونية وغير رسمية من المدن القديمة ودار المخطوطات، والذين قاموا بالعبث بها ومحاولة الاستيلاء عليها، مؤكدين تهريب قيادات حوثية آلاف القطع والمخطوطات الأثرية إلى خارج اليمن بعد سرقتها من متاحف ومواقع أثرية.
"اندبندنت عربية"