يحتفل الحوثيون بيوم الغدير منذ أن كانوا في صعدة. ومنذ استيلائهم على السلطة في صنعاء أصبح طقس الاحتفال فرضاً على كل المناطق التي يسيطرون عليها. وهو فرض يكلف في اليوم الواحد قرابة نصف مليار ريال، وهو رقم كبير قياساً إلى الوضع اليمني، وإلى سلطة لا تصرف مرتبات موظفيها، لكنّها تصرف ببذخ على احتفالات تهدف من ورائها استبدال الهوية الوطنية بهوية دينية.
اصطفاء بلا إنجاز ولا تبرير
في الثامن عشر من ذي الحجة من كل عام هجري يحتفل الشيعة بعيد الغدير. ويزعمون أنّ النبي، عليه السلام، في هذا اليوم عيَّن عليّاً بن أبي طالب، رضي الله عنه، مولًى/ خليفة للمسلمين من بعده، في مكان يُسمّى "غدير خم". وقد استدلّ الشيعة بتلك الخطبة على أحقية علي بالخلافة، بينما يرى أهل السنّة أنّ النبي "بيّن فقط فضائل عليّ للذين لم يعرفوا فضله، وحثّ على محبته لمّا ظهر بغض البعض له، ولم يقصد أن يوصيَ له ولا لغيره بالخلافة".
ويؤمن الحوثيون بفكرة حصر الإمامة في البطنين (ذرية الحسن والحسين) ويسعون لنشر فكرهم المذهبي من خلال الأعياد الشيعية: عيد الغدير وذكرى عاشوراء. وفي خطابهم يسعون لتثبيت مبدأ الولاية باعتبارها من مبادئ تحقق الإرادة الإلهية. وتُعرف الولاية في مصادر الشيعة بأنّها "إرادة المعصوم نبيّاً كان أو وصيّاً"، وتنقسم إلى ولاية تشريعية وتكوينية، وأُضيفَ إليها الولاية السياسية والاجتماعية... والأئمة وحدهم هم المعصومون والمخولون لإعمال ولايتهم، ولهم حق التصرف في الخلق بتخويل من الله!
بالنسبة إلى الحوثيين، لم تعد الشهادة الركن الأول للإسلام، وإنّما الاعتراف بولاية علي، ومن ثم ولاية عبد الملك بدر الدين الحوثي. ومن أجل تكريس هذا اليوم عيداً يحتفلون بإطلاق الرصاص والألعاب النارية، وترديد "الصرخة" المستوردة من إيران. وكردّ فعل لرفض هذه الهوية الدينية يعبّر أغلب اليمنيين بتأكيدهم الهوية الوطنية، كما فعل أبناء محافظة (إب) عندما قاموا برفع سارية كبيرة تحمل علم الجمهورية اليمنية، في أعلى منطقة في جبال الشّعِر وبعدان، وهم يهتفون "تحيا الجمهورية اليمنية".
من منظور سياسي صُنِّفت جماعة الحوثيين حركة إرهابية، لكنّ الأخطر اجتماعياً ودينياً هو أنّها جماعة تمارس الطائفية والعنصرية
الخرافات العنصرية التي يروّج لها الحوثيون وجدت من يتصدى لها بالفكر ويبين تهافتها بالعقل. من أهم تلك المشاريع ما ينشره الروائي الدكتور مروان الغفوري على صفحته في (فيسبوك). تلك الكتابات- التي جمعها في كتاب "على مقام الصِّبَا: طريق أبي الحسن من العزلة إلى النكسة" ونشره هذا العام- أحدثت تأثيراً كبيراً وردود فعل مؤيدة وبعضها غاضبة. كتب الغفوري، في سياق دحض خرافة الولاية والتشكيك في مسألة الاصطفاء: "كان لعلي بن أبي طالب (14) ابناً ذكراً و(17) ابنة. ومن أبنائه الـ (14) برز الحسن والحُسين، وهما ابنا فاطمة، وتراجع الآخرون من أولاد النساء الأخريات إلى الظل"! وفي صيغة حوار مع مؤيد للولاية تساءلَ: ما رأيك بدين يقول في النهار إنّ "الناس سواسية"، وفي الليل يبتهل نبيّه إلى معبوده منادياً: اللهم طهّر ابن عمي! ابن عمي وليس كلّ أتباعي؟! هل كان النبي يخدع أتباعه؟" ويردّ المؤيد: "حاشاه، ولكن هذا اصطفاء من الله"، ويردّ الغفوري بصوت العقل: "ولماذا اصطفى الله عليّاً؟ ما العمل الخارق الذي قام به؟ ما المهمّة التي حمّله إيّاها دوناً عن سائر البشر؟ أليس عيباً أن يبدو النبي وكأنّه يقول: يا رب، زوجت بناتي لعثمان وعلي، أرجوك طهّر لي عليّاً، واترك عثمان (بلا تطهير)، يا رب لأنّ عليّاً ابن عمّي، ما هذا الدين؟".
الإمامة في ثوب الولاية
لا ينكر الحوثيون هدفهم بإعادة إحياء الإمامة في اليمن، لكنّهم استبدلوا لفظة "الإمامة" بالولاية. ولأنّهم يعتمدون سياسة التغيير البطيء وانتظار محالفة الظروف ونضجها، لم يغيروا حتى اليوم مسمّى الجمهورية، لكنّ جهودهم في تغيير المناهج التعليمية وتغيير أسماء المدارس والكليّات والشوارع والمساجد...، إلى غيرها من الأنشطة الطائفية، تؤكد على أنّهم ماضون في طريق محو الهوية الوطنية اليمنية وتثبيت الهوية الدينية الطائفية.
على سبيل المثال، وجَّه الحوثيون في حزيران (يونيو) 2021، باستبدال اسم مدرسة نشوان الحِمْيَري، الواقعة في صنعاء القديمة، باسم أحد قتلاهم ويُدعى (هاني محسن طومر). وقد اختاروا هذه المدرسة بالذات لما يحمله اسم الحميري من معنى ومواقف. فنشوان بن سعيد الحميري، كان علامة باللغة والأدب، وكان معارضاً لمشروع الإمامة في اليمن، وقد اشتهر بفخره بيمنيّته وإنكاره حصر الإمامة في البطنين، أو في قريش، وله في ذلك الكثير من النقاشات مع الأئمة الزيدية في عهده. يقول نشوان الحميري: "إنّ الإِمامة تكون في الأفضل من خلق الله كائناً من كان..."، ومن هذا المنطلق عارض مبدأ الحصر السلالي، "لا في أبناء البطنين خاصة، بل ومبدأ حصرها في قريش عامة، وهو بهذه المعارضة، لا يخالف المذهب الزيدي الهادوي فحسب، بل يخالف أيضاً المذاهب الإِسلامية الـ (4) التي تحصر هذا الحق في قريش بكل بطونها أو فروعها..."؛ "فمن كان أتقى الناس للّه، وأكرمهم عند اللّه، وأعلمهم باللّه، وأعملهم بطاعته، كان أولاهم بالإِمامة، والقيام في خلقه، كائناً من كان منهم، عربياً كان أو عجمياً".
وكانت ميليشيات الحوثي قد عملت على تغيير أسماء مدارس عدة: غيَّرت اسم مدرسة عثمان بن عفان إلى "مدرسة مالك الأشتر"، وغيرت اسم مدرسة عمر المختار إلى "مدرسة علي بن الحسين"، واستبدلت اسم مدرسة "بابل" باسم "21 سبتمبر"، وهو اليوم الذي اجتاح فيه الحوثيون العاصمة صنعاء بقوة السلاح.
ويقبل الحوثيون أن يكون رئيس الدولة من غير الهاشميين، لكنّ الواقع يشير إلى أنّه منصب شكلي؛ فالإمام، أو الحاكم الفعلي هو عبد الملك بن بدر الدين، وهو هاشمي، من نسل أهل البيت، حسب معتقدهم، وهم بهذه الصيغة، في الحكم، يمهدون لنظام "ولاية الفقيه" الحاكم في إيران.
تفريغ الجمهورية من مضامينها
فُرِّغت المؤسسات الجمهورية من مضمونها وأُدلجت الوظيفة العامة باختراع الحوثيين لمدونة السلوك الوظيفي التي فُرضت قسراً على الموظفين في مؤسسات الدولة منذ تشرين الثاني (نوفمبر) 2022.
ومنذ استيلاء الحوثيين على السلطة عام 2014 عملوا على بسط نفوذهم، بشكل تدريجي، على كل الوظائف والمناصب الحكومية والمراكز المهمة في مؤسسات الدولة، وذلك بإزاحة الموظفين غير التابعين لهم، واستبدالهم بموظفين تابعين أو موالين، وسحب معظم صلاحيات الوزارات وإنشاء هيئات تابعة لقيادة الحوثيين مباشرة.
الهوية مهمة للغاية للحوثيين، وفي سبيل الوصول إلى هوية دينية طائفية كاملة بدؤوا بتغيير المناهج الدراسية وأسماء بعض المدارس، تغييراً تدريجياً، وستأتي المرحلة التي يغيرون فيها اسم الجمهورية بما يناسب هويتهم
تفريغ الجمهورية من مضامينها الثورية على يد الهاشميين ليس جديداً، كان هذا هدفهم منذ اتفاق الجمهوريين والملكيين عام 1970. في هذا السياق كتب الدكتور رياض الغيلي سلسلة مقالات عن الحزب الهاشمي السرّي في اليمن، والذي أُسس -وفقاً للغيلي- على يد أحمد محمد الشامي، الذي رأسَ الوفد الملكي وقاد المفاوضات مع الجمهوريين (8) أعوام، منذ انطلاق الثورة في 1962 حتى عام 1970.
وبعد اتفاق الجمهوريين والملكيين عام 1970م عُيِّن أحمد محمد محمد الشامي -مؤلف كتاب "رياح التغيير في اليمن" والشاعر والأديب المعروف- عضواً في المجلس الجمهوري. وقد "عمل الشامي بعد عودته إلى صنعاء على إعادة ترتيب البيت الهاشمي الطائفي، فشكّل ورأسَ (المجلس الأعلى لحكماء آل البيت) المكوّن في تشكيلته الأولى من (12) عضواً، يمثلون الأُسر الهاشمية الزيدية البارزة".
كتب الغيلي أنّ المجلس "عمل بشكل سرّي، وكان يعقد أغلب اجتماعاته في الخارج. وكان اللواء يحيى المتوكل مُقرراً للمجلس، ويقوم بمهام رئيس المجلس داخل اليمن". وقد "استطاع المجلس أن يحقق الكثير من الأهداف، مثل سيطرته على الجهاز القضائي، واختراق مؤسستي الأمن والجيش وحزب المؤتمر الشعبي العام، وصولاً إلى اختراق الرئاسة اليمنية بعد حرب 1994".
سياسياً، ومن أجل الظهور بمظهر غير طائفي، يتحالف الحوثيون مع قوى وشخصيات اجتماعية وسياسية مختلفة، لكنّها غير مؤثرة، ويظهرون كأتباع أكثر من كونهم حلفاء. ومن منظور سياسي صُنِّفت جماعة الحوثيين حركة إرهابية، لكنّ الأخطر اجتماعياً ودينياً هو أنّها جماعة تمارس الطائفية والعنصرية.
وهذا ما لا يلتفت إليه المجتمع الدولي الذي يتخذ من "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" مرجعية، لكنّه يصمت عن ممارسة ما يناقض هذه القوانين في اليمن وغيرها من الدول! بل يدعمها في كثير من المواقف!
الهوية مهمة للغاية للحوثيين، وفي سبيل الوصول إلى هوية دينية طائفية كاملة بدؤوا بتغيير المناهج الدراسية وأسماء بعض المدارس، تغييراً تدريجياً، وستأتي المرحلة التي يغيرون فيها اسم الجمهورية بما يناسب هويتهم، وأظنهم سيختارون "الجمهورية الإسلامية اليمنية"، على غرار "الجمهورية الإسلامية الإيرانية".
تغييراً كهذا يستدعي تغيير الدستور ليكون نظام الحكم في اليمن نسخة من نظام الحكم في إيران، وتغييراً جوهرياً مثل هذا سيعبر عن مرحلة استقرار بالنسبة إليهم، وسيعني أنّهم قد فرضوا سلطتهم بعد تفاهمات دولية يصعب معها استئصالهم. وأظن أنّ الاعتراف بسلطتهم الفعلية على الأرض، كسلطة أمر واقع، هو مقدمة للاعتراف بهويتهم الاسمية الجديدة. الحوثيون لا يتسولون مواقف المجتمع الدولي، بل يفرضونها على العالم بضغط من حليفتهم إيران.
وهم لا يفعلون ذلك إلّا وقد أحدثوا على الأرض اليمنية أو ما جاورها ما يساوي ثمن مطالبهم. وخلافاً لسياسة القوة التي يمارسها الحوثيون، تتوسل الشرعية تدخل المجتمع الدولي انطلاقاً من فكرة مثالية عن الحق والعدالة.
(موقع حفريات)