قد يواجه الاقتصاد الصيني فترة طويلة من النمو المنخفض، وهو احتمال قد تكون له تداعيات عالمية بعد 45 عاماً من التوسع السريع والعولمة.
واليوم تكثف الحكومة الصينية مجموعة من الإجراءات التي تهدف إلى تعزيز الاقتصاد، إذ تعهد القادة الإثنين الماضي بـ"تعديل وتحسين السياسات في الوقت المناسب" لقطاع العقارات المحاصر، مع دفع التوظيف المستقر نحو هدف استراتيجي، كما أعلن المكتب السياسي تعهدات بتعزيز الطلب على الاستهلاك المحلي وحل مخاطر الديون المحلية.
وكان قد نما الناتج المحلي الإجمالي الصيني بنسبة 6.3% على أساس سنوي في الربع الثاني، بحسب ما أعلنت بكين الإثنين الماضي، وهو نمو أقل من توقعات السوق لتوسع بنسبة 7.3%بعد خروج ثاني أكبر اقتصاد في العالم من إجراءات الإغلاق الصارمة لــ"كوفيد-19".
وعلى أساس ربع سنوي، نما الناتج الاقتصادي للبلاد بنسبة 0.8%، أي أبطأ من الزيادة الربع سنوية البالغة 2.2% المسجلة في الأشهر الثلاثة الأولى من العام.
وفي الوقت نفسه سجلت بطالة الشباب رقماً قياسياً مرتفعاً بلغ 21.3% في يونيو (حزيران) الماضي، بينما على الجانب الإيجابي تسارعت وتيرة نمو الإنتاج الصناعي من 3.5% على أساس سنوي في مايو (أيار) الماضي إلى 4.4% في يونيو الماضي، متجاوزة التوقعات بشكل مريح.
وكان الحزب الشيوعي الصيني الحاكم قد حدد هدف نمو بنسبة خمسة في المئة لعام 2023، وهو أقل من المعتاد ومتواضع بشكل ملحوظ لدولة بلغ متوسط نمو الناتج المحلي الإجمالي السنوي فيها تسعة في المئة منذ فتح اقتصادها في عام 1978.
تعهدات لطمأنه المستثمرين
وخلال الأسابيع القليلة الماضية، أعلنت السلطات الصينية سلسلة من التعهدات التي تستهدف قطاعات محددة أو تهدف إلى طمأنة المستثمرين من القطاع الخاص والأجانب ببيئة استثمارية أكثر ملاءمة في الأفق.
ومع ذلك، كانت هذه إجراءات واسعة إلى حد كبير تفتقر إلى بعض التفاصيل الرئيسة، وكانت القراءة الأخيرة للاجتماع الفصلي للمكتب السياسي في شأن الشؤون الاقتصادية تتسم بنبرة متشائمة، لكنها لم تصل إلى مستوى الإعلانات الجديدة الرئيسة.
من جانبه قال رئيس قسم الاقتصاد الصيني في "كابيتال إيكونوميكس"، جوليان إيفانز بريتشارد، في مذكرة له الإثنين الماضي إن "قيادة البلاد قلقة بشكل واضح"، واصفاً المسار الاقتصادي بأنه "متعرج" وسلط الضوء على التحديات العديدة التي تواجه الاقتصاد التي تشمل الطلب المحلي، والصعوبات المالية في القطاعات الرئيسة مثل العقارات، والبيئة الخارجية القاتمة.
وأشار بريتشارد إلى أن القراءة الأخيرة ذكرت المخاطر سبع مرات، مقابل ثلاث مرات في قراءات أبريل/نيسان الماضي، ويبدو أن أولوية القيادة هي توسيع الطلب المحلي، قائلاً "يشير هذا إلى أنه سيطرح مزيد من الدعم السياسي خلال الأشهر المقبلة".
لكن عدم وجود أي إعلانات رئيسة أو تفاصيل سياسية يشير إلى الافتقار إلى الإلحاح أو أن صانعي السياسة يكافحون من أجل التوصل إلى تدابير مناسبة لدعم النمو وفي كلتا الحالتين، فإن إيفانز بريتشارد ليس مطمئناً بشكل خاص للتوقعات على المدى القريب.
صدمة ثلاثية
من جهته قال رئيس أبحاث الصين وآسيا في الشركة الاستشارية للتنبؤ بالاقتصاد الكلي ومقرها لندن "تي أس لومبارد"، روري غرين، لشبكة "سي أن بي سي"، "لا يزال الاقتصاد الصيني يعاني الصدمة الثلاثية لـ كوفيد-19 وتدابير الإغلاق المطول، وقطاع العقارات المتعثر ومجموعة كبيرة من التحولات التنظيمية المرتبطة برؤية الرئيس شي جينبينغ للرخاء المشترك".
وأشار غرين إلى أنه نظراً إلى أن الصين لا تزال في غضون عام من إعادة الافتتاح بعد تدابير "صفر- كوفيد"، فلا يزال من الممكن أن يعزى كثير من الضعف الحالي إلى تلك الدورة، لكنه قال إن هذه الحالة يمكن أن تصبح راسخة دون استجابة سياسية مناسبة.
قائلاً "هناك فرصة أنه إذا لم تتدخل بكين، فإن الجزء الدوري من أضرار دورة كوفيد يمكن أن يتماشى مع بعض الرياح المعاكسة الهيكلية التي تعانيها الصين، خصوصاً فيما يتعلق بحجم قطاع العقارات، والانفصال عن الاقتصاد العالمي، والتركيبة السكانية ودفع الصين إلى معدل نمو أبطأ بكثير".
وتتمثل الحالة الأساسية لـرؤية "تي أس لومبارد" في استقرار الاقتصاد الصيني في أواخر عام 2023، لكن الاقتصاد يدخل في تباطؤ هيكلي طويل الأجل، وإن لم يكن سيناريو "التضخم المصحوب بالركود" على غرار اليابان، ومن المرجح أن يقترب متوسط نمو الناتج المحلي الإجمالي السنوي بنسبة أربعة في المئة بسبب هذه الرياح المعاكسة الهيكلية.
السلع والدورة الصناعية
وعلى رغم أن الحاجة إلى الانفتاح على الصين ستظل ضرورية للشركات الدولية لأنها لا تزال أكبر سوق استهلاكية في العالم، قال غرين إن "التباطؤ قد يجعلها أقل إغراء قليلاً كما سيسرع الانفصال عن الغرب من حيث تدفقات الاستثمار والتصنيع".
ومع ذلك، بالنسبة إلى الاقتصاد العالمي، من المرجح أن يأتي التداعيات الفورية للتباطؤ الصيني في السلع والدورة الصناعية، إذ تعيد الصين تشكيل اقتصادها لتقليل اعتمادها على قطاع العقارات الذي كان "يمتص ويدفع أسعار السلع الأساسية".
وتابع غرين "لقد مضت تلك الأيام"، ولكن الصين لا تزال تستثمر الكثير، لكنها تتجه اليوم للتصنيع الأكثر تقدماً، والأجهزة التقنية، مثل السيارات الكهربائية، والألواح الشمسية، والروبوتات، وأشباه الموصلات، وهذه الأنواع من المجالات.
مشيراً إلى أن قطاع العقارات كان يقود النمو في البلاد، إذ كان الحديد الخام يأتي من البرازيل أو أستراليا والآلات من ألمانيا أو الأجهزة من جميع أنحاء العالم"، مستدركاً "لكن كل هذا قد اختفى، بالتالي ستكون الصين عاملاً أقل أهمية في الدورة الصناعية العالمية".
تأثيرات من الدرجة الثانية
في غضون ذلك أصبحت إعادة تقويم الاقتصاد بعيداً من العقارات ونحو التصنيع الأكثر تقدماً واضحاً في اندفاع الصين الهائل نحو السيارات الكهربائية، ما أدى إلى تجاوز البلاد لليابان في وقت سابق من هذا العام كأكبر مصدر للسيارات في العالم.
وقال غرين "هذا التحول من الاقتصاد التكميلي، إذ تستفيد بكين وبرلين من بعضهما بعضاً، إلى كونهما الآن متنافسين، هو نتيجة كبيرة أخرى للتباطؤ الهيكلي".
وأشار إلى أنه "إضافة إلى الخسارة الفورية في الطلب على السلع، فإن رد فعل الصين على رمالها الاقتصادية المتغيرة سيكون له أيضاً تأثيرات من الدرجة الثانية في الاقتصاد العالمي".
وأضاف أنه "لا تزال الصين تصنع كثيراً من الأشياء، ولا يمكنهم استهلاكها كلها في الداخل"، موضحاً "كثير من الأشياء التي يصنعونها الآن ذات جودة أعلى بكثير وسيستمر ذلك النمط، بخاصة أن هناك أموالاً أقل تذهب إلى العقارات، وتذهب تريليونات الرنمينبي (اليوان الصيني) إلى قطاعات التكنولوجيا المتقدمة هذه".
وتابع غرين "بالتالي فإن تأثير الطلب الثاني، ليس فقط انخفاض الطلب على خام الحديد، بل إنه أيضاً منافسة عالمية أعلى بكثير عبر مجموعة من السلع المصنعة المتقدمة".
وعلى رغم أنه لم يتضح بعد كيف ستنتقل الأسر الصينية والقطاع الخاص والشركات المملوكة للدولة من نموذج يحركه العقار والاستثمار إلى نموذج مدعوم من التصنيع المتقدم، قال غرين إن البلاد حالياً في "نقطة محورية"، مضيفاً أن "الاقتصاد السياسي يتغير جزئياً من طريق التصميم، ولكن أيضاً جزئياً بسبب حقيقة أن قطاع العقارات ميت فعلياً إن لم يكن يحتضر، لذلك يتعين عليهم التغيير وظهور نموذج تنموي جديد".
وتابع غرين "لن تكون مجرد نسخة أبطأ من الصين التي كانت لدينا قبل كوفيد، ولكن ستكون نسخة جديدة من الاقتصاد الصيني، التي ستكون أيضاً أبطأ، لكنها ستكون نسخة ذات محركات جديدة وأنواع جديدة من الخصوصيات".