توالت تفجيرات شديدة في محافظة الحديدة الساحلية غربي اليمن، الواقعة تحت سيطرة الحوثيين؛ جراء غارات شنتها الولايات المتحدة وبريطانيا ضد مواقع للجماعة المتحالفة مع إيران.
وتحاول هذه الغارات وقف هجمات يشنها الحوثيون ضد سفن شحن في البحر الأحمر مرتبطة بإسرائيل؛ ردا على حرب مدمرة تشنها الأخيرة على قطاع غزة منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
ومساء 19 يناير/ كانون الثاني الجاري، استهدفت أحدث الضربات الأمريكية- البريطانية منطقة الجبانة شمالي مدينة الحديدة (مركز المحافظة) بغارتين، وفق بيان للحوثيين.
وبتلك الضربات الغربية، عاد اهتمام الرأي العام اليمني والدولي بمحافظة الحديدة الاستراتيجية على البحر الأحمر، والتي يعتبرها مراقبون "رئة يتنفس منها الحوثيون" المسيطرون على معظم المناطق ذات الكثافة السكانية في شمالي وغربي اليمن.
وتبعد الحديدة عن العاصمة صنعاء حوالي 226 كيلو مترا، وتبلغ مساحتها نحو 18 ألف كيلو متر مربع، بما يوازي مساحة دولة الكويت، وتحتل المرتبة الثانية بين محافظات اليمن من حيث كثافة السكان بعد تعز.
السيطرة على الحديدة
في سبتمبر /أيلول 2014، نجح الحوثيون في السيطرة بقوة السلاح على العاصمة صنعاء بعد شهرين من بسط نفوذهم على محافظة عمران المجاورة.
لم يلق الحوثيون في صنعاء مواجهة عسكرية فعلية من قوات الحكومة المعترف بها دوليا، وظهر الوضع حينها وكأنه عملية تسليم لمعسكرات ومؤسسات الدولة في العاصمة التاريخية.
هذه السيطرة العسكرية اللافتة على صنعاء، فتحت شهية الحوثيين في توسيع نطاق نفوذهم، وسعوا إلى الحصول على منفذ بحري حيوي لهم.
وفي أكتوبر /تشرين الأول 2014، اجتاح الحوثيون مدينة الحديدة وسيطروا على موانئها، وبسطوا نفوذهم بقوة السلاح على معظم أرجاء المحافظة، من دون مواجهات مع القوات الحكومية.
أهمية عسكرية
ولمحافظة الحديدة أهمية عسكرية كبيرة، إذ تعد مركز انطلاق لهجمات الحوثيين في البحر الأحمر قرب مضيق باب المندب الاستراتيجي للشحن والتجارة وسلاسل الإمداد العالمية.
ومن الحديدة، تم تدشين أول هجمات الحوثيين ضد سفن مرتبطة بإسرائيل في البحر الأحمر، حينما استولت الجماعة على السفينة "جالاكسي ليدر" واحتجزت طاقمها قبالة سواحل المحافظة في 19 نوفمبر /تشرين الثاني الماضي، عبر هجوم أثار اهتمام الرأي العام عالميا.
ويواجه الحوثيون اتهامات متكررة من الحكومة باستخدام موانئ الحديدة لأغراض عسكرية، واتخاذها شريانا رئيسيا لتلقي أسلحة مهربة، بينها صواريخ باليستية وطائرات مسيّرة، وهو ما تنفيه الجماعة.
وفي مدينة الحديدة يوجد مقر المنطقة العسكرية الخامسة، وهي تضم 11 قوة قتالية، كما تواجد فيها معسكرات عدة، أبرزها قاعدة الحديدة الجوية، حيث يتمركز اللواء 67 طيران واللواء 68 طيران واللواء 130 دفاع جوي واللواء 65 دفاع جوي.
ويرى مراقبون أن الحديدة كانت تاريخيا بوابة دخول صنعاء خلال مراحل صراعات سابقة، ومَن يسيطر عليها يحقق مكاسب عسكرية وسياسية واقتصادية واسعة في اليمن.
كما تعد من أهم المحافظات الغنية بالجزر، حيث تحتوي على عشرات الجزر الحيوية، أبرزها حنيش الكبرى وحنيش الصغرى وكمران، التي تتمتع بميزات استراتيجية كونها تشرف على طرق الملاحة البحرية.
مكاسب اقتصادية
وهذه المحافظة الاستراتيجية غنية بالمنافذ البحرية، حيث تحتوي على ثلاثة موانئ، أبرزها ميناء الحديدة، وهو أنشط ميناء في اليمن.
وعبر ميناء الحديدة يدخل حوالي 70 في المائة من إجمالي الواردات إلى اليمن، بينها المساعدات الإغاثية الدولية للمتضررين من حرب أهلية بدأت قبل نحو 9 سنوات وتشهد تهدئة منذ 20 شهرا.
ويجني الحوثيون إيرادات مالية كبيرة من عوائد ميناء الحديدة، وهي تشمل ضرائب وجمارك، مما جعل هذه الفوائد موضع صراع مستمر بين الحكومة والجماعة.
وفي أكثر من بيان، سبق أن قالت الحكومة إن الإيرادات التي تجنيها جماعة الحوثي من المشتقات النفطية الواردة عبر ميناء الحديدة تكفي لتمويل رواتب موظفي الدولة والمتقاعدين بانتظام في المناطق الخاضعة لسيطرة الجماعة.
وتمتلك المحافظة شريطا ساحليا يبلغ 300 كم؛ مما جعلها من أهم محافظات اليمن في انتشار المصائد والموانئ والمنشآت السمكية، بالإضافة إلى مصانع مواد غذائية واستهلاكية للقطاع الخاص تدر إيرادات مهمة للحوثيين.
بؤرة صراع
على مدار السنوات الماضية، شهدت الحديدة محطات صراع عسكري شرس بين القوات الحكومية وجماعة الحوثي؛ مما أسفر عن تداعيات إنسانية كبيرة.
وشهد منتصف عام 2018 تحولا كبيرا في مسار المواجهات العسكرية بين الحوثيين وقوات الحكومة، المسنودة بتحالف عسكري عربي تقوده الجارة السعودية، إذ أطلقت القوات الحكومية عملية عسكرية واسعة في الحديدة.
واستطاعت هذه القوات السيطرة على مناطق حيوية، في يونيو /حزيران من العام ذاته، بينها مطار الحديدة وأحياء في مدينة الحديدة، واقتربت من بسط نفوذها على ميناء المحافظة الاستراتيجي.
ولكن حينها واجهت الحكومة ضغوط دولية وأممية كبيرة لوقف هجومها على الحديدة؛ خشية دمار مينائها الذي يعد منفذا أساسيا لتدفق معظم المساعدات على البلاد.
ونجحت هذه الضغوط في وقف الهجوم الواسع، ووافقت الحكومة على إجراء مشاورات مع الحوثيين برعاية الأمم المتحدة، لبحث ملف الحديدة والصراع في اليمن بشكل عام.
وفي ديسمبر /كانون الأول 2018، انعقدت مشاورات في السويد بين الحكومة والحوثيين، أسفرت عن اتفاق ستوكهولم، الذي نصّ على هدنة دائمة في الحديدة وإعادة انتشار جميع قوات الطرفين.
وبالإجماع، اعتمد مجلس الأمن الدولي، في يناير /كانون الثاني 2019، القرار 2452 الذي أعلن فيه إنشاء بعثة الأمم المتحدة لدعم اتـفاق الحديدة (أونمها).
وتشمل ولاية البعثة الأممية رصد امتثال الطرفين لوقف إطلاق النار في المحافظة، وإعادة انتشار القوات على أساس متبادل من مدينة الحديدة وموانئ الحديدة والصليف ورأس عيسى.
وأعقب ذلك، نشر مراقبين من لجنة إعادة الانتشار الثلاثية، المكونة من الأمم المتحدة والحكومة وجماعة الحوثي، لرصد ومراقبة أي خروقات لاتفاق وقف إطلاق النار.
وتبادلت الحكومة وجماعة الحوثي اتهامات متكررة بخرق اتفاق ستوكهولم وعرقلة تنفيذه.
وشهد نوفمبر /تشرين الثاني 2021 تحولا لافتا في مسار السيطرة الجغرافية بالمحافظة، تمثل بانسحاب مفاجئ للقوات الموالية للحكومة من مدينة الحديدة ومديريتي الدريهمي وبيت الفقيه وأجزاء من مديرية التحيتا، ثم سيطرة الحوثيين على تلك المناطق.
وهذا الانسحاب أثار حفيظة الرأي العام في اليمن، لاسيما وأن تحرير تلك المناطق سابقا من قبضة الحوثي كلف القوات الحكومية خسائر كبيرة في الأرواح والعتاد.
وبعد أيام من انتقادات وتكهنات حول أسباب الانسحاب، قال المتحدث باسم التحالف تركي المالكي، في بيان، إن "القوات المشتركة بالساحل الغربي نفذت إعادة انتشار وتموضع لقواتها العسكرية بتوجيهات من قيادة القوات المشتركة للتحالف".
وأضاف أن "العملية اتسمت بالانضباطية والمرونة بحسب ما هو مخطط لها، وبما يتماشى مع الخطط المستقبلية لقوات التحالف".
المالكي أوضح أنه "بعد أن أمضت القوات نحو 3 سنوات في مواقعها الدفاعية وتعطيل المليشيا لاتفاق ستوكهولم، رأت قيادة القوات المشتركة للتحالف أهمية إعادة الانتشار والتموضع لهذه القوات كي تصبح أكثر فاعلية ومرونة عملياتية".
واتهم المالكي حينها جماعة الحوثي "بارتكاب أكثر من 30 ألف انتهاك لاتفاق ستوكهولم منذ البدء بتنفيذه".
وبعد جمود في وضع الحديدة، دخلت توترات البحر الأحمر مرحلة تصعيد لافت منذ استهداف الحوثيين في 9 يناير الجاري سفينة أمريكية بشكل مباشر، بعد أن كانوا يستهدفون سفن شحن تملكها و/أو تشغلها شركات إسرائيلية و/أو تنقل بضائع من وإلى إسرائيل.
وأعلن البيت الأبيض، في بيان مشترك لـ10 دول بعد ثلاثة أيام، أنه "ردا على هجمات الحوثيين ضد السفن التجارية في البحر الأحمر، نفذت القوات الأمريكية والبريطانية هجمات مشتركة ضد أهداف في مناطق يسيطر عليها الحوثيون في اليمن".
وشملت هذه الهجمات المتتالية أهدافا للحوثيين في الحديدة؛ مما مثل تهديدا خطيرا للمحافظة التي تعد رئة اقتصادية وعسكرية وسياسية للجماعة اليمنية.