كتبت قراءة موسعة (2400) كلمة تحت عنوان "القضية الجنوبية من الجذور إلى بؤس الواقع الراهن".
بعد قراءة المادة سألت نفسي إن كان ما كتبته يستحق النشر، وجدت أن التعويل على النشر هو الوهم الأول وأن السؤال ليس عن "قيمة" الكلام، بل عن جدواه في عالم لا يعترف إلا بالقوة والمصالح. وبعيدا عن مجاملاتنا الفارغة لأنفسنا معظم تحليلاتنا لا قيمة حقيقية لها من حيث التأثير في الواقع.
رأيت التحليل الذي قدمته أشبه ما يكون بتمرين فكري لا بأس به يصف بدقة الأعراض لكنه لن يوقف التدهور، مثل طبيب يشخص الوباء ولا يملك الدواء. نتحدث عن "بناء دولة حديثة" وعن "الرشد السياسي" وعن "النموذج العادل"، بينما نوثق في كتاباتنا واقعًا مختلفًا تمامًا.
الواقع هو القوة العسكرية، وبشأن القضية الجنوبية فقد أصبح المجلس الانتقالي "قوة عسكرية" و"عبء إضافي"، ينظم "استعراضات عسكرية" لا توقف انهيار الخدمات. واستقلالية المجلس مكبلة بـ "الدعم الخارجي" و"التبعية"، ولم ينجح إلا في كونه وكيل أمني يركز على "إرضاء الخارج" على حساب الداخل.
توصلت من خلال المتابعة الدقيقة إلى أن قادة المجلس متهمون بـ "استغلال القضية الجنوبية بوصفها شماعة للحصول على مواقع" و"المتاجرة" بالقضية، وأنهم اليوم شركاء في "تقاسم الكراسي" ويوظفون القضية كـ"غطاء لتحقيق مكاسب شخصية".
أخطر ما أنتجه المجلس الانتقالي هو "الصراع المناطقي داخل الجنوب نفسه" بدليل الشكوى المريرة من "سيطرة فئة بعينها من منطقة بعينها" على المواقع القيادية، بجانب أن الحديث عن "قضية حضرموت" مجرد ثمرة من ثمار فشل المجلس في الحفاظ على وحدة وجدان الجنوبيين.
الواقع يكشف عن سيطرة لغة القمع، وعندما خرجت النساء في مظاهرات مدنية في عدن، هي "الأشرف والأنزه" في تاريخ اليمن، كان رد المجلس الانتقالي بالقمع. إنه يستنسخ نهج الشمال في الجنوب، وربما أكثر سوءًا، وبالتحديد في ما يتصل بقمع المخالفين.
إذن، ما قيمة تحليل مطول كالذي أحجمت عن نشره؟
قد لا يكون مضمونه عند البعض "لغواً فارغاً" من حيث دقة التحليل، لكنه "كلام فارغ" من حيث التأثير، لأنه مجرد وصف دقيق لنوع آخر من الفشل متعدد الوجوه في اليمن، لكنه لا يملك أي قدرة على إيقاف التداعيات، كما أن نشره لن يفعل شيئاً سوى منح الكاتب وبعض القراء شعوراً وهمياً بأنهم "يفهمون" المشكلة.
لكن الفهم وحده لا يغير شيئاً والتحليل لا يطعم جائعاً أو يوفر كهرباءً أو يوقف رصاصة.
اللاعبون الحقيقيون على الأرض لا يقرأون مثل هذه المقالات ويتلقون فقط وشايات وتقارير مفادها أن هناك من كتب وهناك من قال وهناك من يحسد، ومثل جداتهم يظنون أن الناس يحسدونهم على فشلهم، والإشكالية أنهم لو قرأوا التحليلات التي توصف المأزق الذي هم سببه لسخروا من التحليلات، لأنهم مشغولين بتقاسم النفوذ وإدارة شبكات المصالح والتحالف حتى مع الفصائل السلفية المتشددة لخدمة أغراضهم.
الخلاصة أننا نستهلك الوقت في كتابة مطولات ربما تكون لها قيمة نظرية، وفيها محتوى جيد للمحللين والمراقبين الذين يجلسون في غرف مكيفة بعيدًا عن رائحة الدم والبارود والفساد ومعاناة المواطنين، تماما كما نكتب ونحن نتعاطف من بعيد مع أهل غزة، أما على الأرض وفي الواقع فإن ما نكتبه مجرد حبر سيجف وينساه الجميع، ولا فرق بين نشره أو حرقه لأن الواقع لن يتغير بسبب مقالة.
اللاعبون سيستمرون في ألعابهم والقضايا "العادلة" التي نتحدث عنها تتحول إلى غطاء ووقود لمصالح أفراد "رضعوا تربيتهم السياسية من الظالم الذي كان سببًا في ولادة القضية".
استيقظوا من وهم أن الكلمات يمكن أن تغير العالم، القوة وحدها هي التي تحدث التغيير القابل للإدراك بالحواس، أما الكلمات فإنها مصممة للتأثير على المشاعر والدوران في حلقات مفرغة بداخلنا.
(من صفحة الكاتب في فيس بوك)