الحلقة الأولى
لا أحد يعرفه ولم يخمنوا من أين جاء ولم ترشدهم لهجته وملامحه إلى أي من القرى والمناطق والأرياف المحيطة بهم ينتمي، لكنه كان مدهشاً بما ألقى على أسماعهم من حقيقة بدا جازماً أنها غير قابلة للشك.
انتشر الخبر اليقين الذي بشّر به الغريب أهل القرية كما تنتشر النار في الأحراش الجافة التي يزداد لهيبها مع هبوب الرياح في جحيم الصيف، وقد هب الجميع كأنهم عاصفة متحركة بأجساد خفيفة وألسنة سريعة ووشوشات سمعت ذبذباتها عند كل نافذة وزقاق: لدينا كنز مدفون، والغريب جاء للحفر والنبش لاستخراجه!
كان الغريب قد وصل فجأة دون أن يتبين أحد من أهل الضالع من أين جاء وكيف وصل، إذ لم يشهد أحد عبوره من طريق أو منحدر، كأنه ظهر أمامهم فجأة أو نبت من تراب الأرض التي يشير إلى أن الكنز مدفون تحتها.
رجل بوجه يبدو مألوفاً لكنه مجهول الهوية ولا ماضي له، رغم أنه سألهم عن أسماء بعض كبرائهم من العقال وشيوخ القرى سارداً أسماءهم الرباعية، بينما لم يتعرف عليه أحد منهم، وظل كل من وفد إلى موضع الكنز المزعوم يضيق عينيه وهو يتأمل وجه الغريب لعله يستدل من ملامحه على أصله وفصله وما إذا كانت فراستهم المعهودة ستوحي لهم بقبيلته ومنطقته دون أية جدوى.
كان يرتدي ثياباً بيضاء نظيفة كأنه فقيه يؤدي دوراً مؤقتاً في مسلسل تلفزيوني قبل أن يخلع إكسسواراته وملابسه ويعود إلى طبيعته وهيئته الأصلية، لم تكن قيافته تتناسب مع غبار القرية الضالعية وقتامة صخورها، وظل محتفظا بهدوء مخيف في عينيه وثبات انفعالي يوحي بالثقة بما يقوله.
لم يقل اسمه، لكن أهل القرية أطلقوا عليه اسم "صاحب الكنز"، فنهرهم الشيوخ والعقال الذين توافدوا من القرى المجاورة على عجل، ولم يقبلوا بنسبة الكنز إليه حتى لا يترسخ في ذهنه أنه بالفعل صاحبه ومالكه الحصري.
وقف الغريب في وسط القرية بعد أن اجتمع في البداية رجالها وكبارها، وانتظر حتى التف حوله الفضوليون، ثم تحدث بصوت واضح وبلهجة بيضاء لا تدل على انحداره من أي قرية أو منطقة مجاورة لقريتهم:
- في أرضكم هذه، تحت شجرة السدر الوحيدة خلف التلة الصخرية المغبرة، يوجد كنز يعود لجدكم العامري. رأيته في المنام بوضوح كوضوح الشمس فوق رؤوسكم.
في البداية خلط الحاضرون اندهاشهم بضحكات هستيرية وهمسات ساخرة ومشككة من البعض، لكن الشيخ صالح كبير القرية، أسكتهم بنظرة. ودعاه إلى مجلسه، وهناك، كرر الرجل قصته مضيفاً تفاصيل عن شكل الصناديق ونوع الحراسة التي كانت عليها في حلمه. فكان مقنعاً بشكل غريب.
قال له ابن الشيخ صالح وعيناه تلمعان بمزيج من السرور والطمع والرغبة في الفتك بجميع الحاضرين للاستئثار بالكنز:
- وماذا تريد منا مقابل حلمك الذي قد يكون مجرد كابوس ووهم أصابك؟
أجاب الرجل الغريب ببرود:
- الربع. ربع الكنز مقابل المفتاح الذي جئت به.
فتح الجميع أفواههم عند سماعهم أن لدى الغريب مفتاحاً لبوابة الكنز المزعوم. واستمر الجدال بينهم لساعات، بينما كان ديوان القرية يشهد توافد الآخرين من القرى المجاورة حتى أوصلهم الزحام إلى الجلوس على أرضية الديوان وفتحوا النوافذ ليستمع من بالخارج ممن لم يجدوا موطئ قدم واضطروا للإصغاء إلى حديث الغريب من خارج الديوان، ومع مرور الوقت كان الزحام قد اشتد إلى درجة أن من استطاعوا الاقتراب من نوافذ الديوان ينقلون للجموع التي ملأت ساحات القرية ماذا يدور من نقاش وجدال في الداخل.
كان الطمع والقلق على الكنز قد بدأ يساور أهل القرية، وشاركهم فيه أهالي القرى المجاورة، وبدأ بعضهم يدعون أن العامري هو الجد الكبير لأهالي القرى كلها التي تنتشر في الضالع في تبرير استباقي لحقهم في الحصول على نصيب من الكنز، وأحدهم وكان معروفاً بلقب المسمار أقسم لهم أن لقبه الأصلي هو العامري وأن المسمار لقب دخيل لا يعرف من الملعون الذي دقه في جدار عائلته.
ساد صمت رهيب أرجاء القرية وعاد الجميع فجأة بعد ضجيجهم الحاد يرهفون أسماعهم لعلهم يعرفون نتيجة المفاوضات بين الشيخ صالح والغريب حول الكنز ومفتاحه ونصيب كل واحد من "اللقية" المرتقبة.
الحلقة الثانية
بينما كان الجميع يرهفون أسماعهم لعلهم يعرفون نتيجة المفاوضات بين الشيخ صالح والغريب حول الكنز ومفتاحه ونصيب كل واحد من "اللقية" المرتقبة. تنحنح مثنى بن مثنى أخيراً وقرر أن يدلي بدلوه في موضوع الكنز، وعندما لمح جميع من في الديوان استعداده للحديث هدأت همهماتهم، حتى أن الضيف الغريب الذي جاء ليبشر أهل القرية بالكنز لاحظ اهتمامهم المسبق بما سيقوله مثنى بن مثنى، وترقب مثلهم صوت العلم والحكمة.
كان مثنى الذي لا يذكر اسمه إلا ويلحق باسم والده (مثنى أيضاً) من خريجي أوكرانيا في أيام عز الاتحاد السوفييتي عندما كانت أوكرانيا جمهورية تابعة للسوفييت، وكانت جامعة كييف تستقبل الطلاب القادمين من دول المعسكر الاشتراكي ومن بينها جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، وكان أحدهم مثنى بن مثنى الذي درس العلاقات الدولية في الثمانينيات، وعاد ليتولى مسؤولية مخازن مؤسسة حكومية لا تربطها أية صلة بتخصصه في العلاقات الدولية، إلا أن القيادة كانت تثق به وقررت تحميله مسؤولية إدارة مخازن تلك المؤسسة، قبل أن تندثر وتتفكك مع مؤسسات أخرى غيرها انتهت مع الهيكلية الجديدة التي جاءت بها الوحدة.
بعد أن لاحظ مثنى الهدوء يتزايد من حوله في الديوان وأن الجميع يرهفون السمع استعدادا لسماع رأيه بشأن قضية الكنز المزعوم، تنحنح للمرة الأخيرة ثم قال ونظرته تسرح في الأفق وكأنه يخاطب الجمهور من على منصة مرتفعة:
- يا رفاقي الأعزاء يا عويلة قد نحنا نفكر نختلف على كنز ما له أي أثر إلا في كلام صاحبنا.
تعرفون ما هو الكنز؟
قال جملته وسكت قليلاً والحضور يترقبون بشغف أن يكمل حديثه، فلطالما أمتعهم بوصف أجساد الأوكرانيات وشعرهن الأشقر المموج ودلالاهن الذي يسحر القادم إلى بلادهن من أرض الجفاف والصخور الحادة.
كان مثنى بن مثنى لا يمل الحديث عن فترة دراسته في أوكرانيا وعن الفتيات الاوكرانيات اللواتي كان يراقصهن ويسهر معهن، وكان كل مرة يصف لهم بالتفصيل قصته مع إحداهن، ولكثرة ما استمعوا إلى قصصه عن جمال النساء في أوكرانيا، كان ولعهم بالإصغاء إليه يزداد، وكان بدوره يبتكر كل مرة حكاية جديدة.
بعد فترة الصمت استأنف مثنى الحديث:
- يا جماعة الخير الكنز في النظر إلى عيون الجميلات، وفي ملامسة خصورهن أثناء الرقص.
في مشاركتهن شراب الفودكا. الكنز في سهرة حب تترجم فيها لحبيبتك أغنية لأم كلثوم إلى اللغة الروسية. الكنز هو الحب وهذه هي خلاصة الحياة وكنزها الحقيقي، فلا تصدقوا هذا الغريب.
بعد أن لاحظوا أن حديث مثنى يستهدف صرف اهتمامهم بالكنز والتخلي عن المشاركة في استخراجه، أشاحوا بأنظارهم عنه، وتجاهلوا حضوره وكأنه غير موجود بينهم. حتى أنه تنحنح مرة أخرى محاولا استئناف الحديث عن الجمال الأوكراني، فلم يلتفت إليه أحد هذه المرة.
كان القوم قد بدأوا حسم أمر الكنز، قرروا ذلك قبل أن يزداد عدد القرى المجاورة التي قد تطالب بالانضمام إلى المتقاسمين لصناديق الذهب المدفونة، أو التماثيل أو الجواهر على أي نحو كان شكلها، المهم أن يقل عدد عقال القرى المشرفين على استخراج الكنز وتقسيمه، وأن يتوقف العدد على من حضر.
حدث التفاهم بين وجهاء القرى والغريب يفرك يديه بسعادة والجميع يستعجلون بدء التنقيب عن الكنز ومعرفة سر المفتاح الذي ادعى الغريب أنه يملكه وأنه الوحيد الذي يمكن أن يقودهم إلى الكنز الموعود.
في اليوم التالي كانت القرية كلها أشبه ما تكون بخلية نحل، وأطفالها ونسائها في حالة استغراب من النشاط الذي دب في مفاصل الرجال منذ الأمس، بينما كانت دروب القرية قبل الأمس فارغة لا تتجول فيها إلا القطط ولا ترى أمام أبواب بيوتها إلا العجائز المسنات وهن يراقبن دجاجاتهن ويسقين شتلات الريحان ويتبادلن الأحاديث عن الماضي البعيد والحاضر الذي سيغدو ماضيا ستتذكره عجائز أخريات غيرهن، لأن الزمن بالنسبة لهن يكرر نفسه بلا كنوز وبلا مفاجآت.
لذلك عندما علمن بقصة الكنز كانت سخريتهن الصامتة تغيب مثل جدول ماء ضعيف بين حصى الوادي الجاف، ولم يعد أحد من أهل القرى المهووسين بالثروة المنتظرة يرون إلا المعاول في أيدي جيرانهم فيسارعون إلى التقاط معاولهم.
أخرج كل بيت ما لديه من معاول وفؤوس، وبينما كانوا يتبعون الرجل الغريب ليرشدهم إلى النقطة التي عليهم أن يحفروا فيها لاستخراج الكنز، سمعوا صوت جرافة حفر دوارة تتحرك ببطء على جنزير، أطلت مقدمتها وصوت حشرجة جنزيرها من الطريق الترابي في طرف القرية فتوقف الجميع، واستعدوا ببنادقهم ومعاولهم لوقف تقدم الجرافة ومعرفة من يقودها لحماية كنزهم من كثرة النهابين والمطالبين بالشراكة في الحفر وتقاسم الكنز.
وقبل أن تصل الجرافة أطلق الشاب المتهور قاسم صالح ابن عاقل القرية أول طلقة باتجاه جنازير الجرافة، بينما كانت تترك أثناء تحركها البطيء آثار الجنازير على الطريق الترابي للقرية، وعقب سماع صوت الطلقة تغير كل شيء ودخلت القرية وأهلها مرحلة جديدة، أسماها مثنى بن مثنى مرحلة حمى الكنز.
الحلقة الثالثة
عقب سماع صوت الطلقة، تغير كل شيء، ودخلت القرية وأهلها مرحلة جديدة أسماها مثنى بن مثنى مرحلة حمى الكنز.
تحلّق أهل القرية ومن حضر من أهالي القرى القريبة حول الجرافة، ونزل سائقها مستسلمًا رافعًا يديه فوق رأسه، وأخبرهم أنه سمع مثل غيره بقصة الكنز، فطمع في أن يستعينوا بجرافته للحفر. لكن الغريب الذي كان يقودهم إلى موضع الكنز نصحهم بعدم الاستعانة بالجرافة؛ لأن مغرفتها الحديدية الكبيرة ليست دقيقة وقد تتلف المشغولات الذهبية أو التماثيل المدفونة، كما أن صوت محركها قد يفزع حراس الكنز النورانيين فيأخذوا الكنز ويفرّوا من تحت الأرض، بسبب الجرافة المخيفة.
اقتنع الحاضرون بحديث الغريب وطردوا صاحب الجرافة، وبدأت المعاول والفؤوس تنهش الأرض الجافة بحماس، وكان الغريب يعيد توجيههم وينبّه من ابتعدوا بالحفر أمتارًا عن موضع الكنز إلى الاقتراب من البؤرة التي يقع تحتها الكنز مباشرة.
لم تشهد القرية مثل ذلك النشاط والمرح والاستبشار من قبل، ولا يشبه فرح أهلها بحلم اكتشاف الكنز وقرب التوصل إليه إلا فرحهم بعودة الشباب الغائبين المهاجرين في أصقاع الأرض، ما بين السعودية وأمريكا والبحرين وقطر والكويت وغيرها من بلدان الاغتراب.
فالعائدون كانوا يجلبون معهم الهدايا والمسجلات الـ"ناشيونال" الأصلية والعطور الفاخرة والكاميرات والنقود، وأحيانًا بعض السجاد والمفارش المنسوجة بعناية وبعضهم يمنح كل صديق له في القرية كشيدة ومسبحة هدية بمناسبة زيارته لأسرته بعد سنوات من الاغتراب. وها هو الحلم بالعثور على الكنز قد أصبح يداعب مخيلة بقية الشباب الذين لم يغتربوا أو لم يحالفهم الحظ بالسفر والهجرة وأصبحوا يحدثون أنفسهم أن ما سيحصلون عليه سيغنيهم في لمحة عين.
كان الرجال يحفرون ويغنون، وكانت النساء يزغردن من بعيد ويتهامسن وهن يتوقعن ماذا سيشتري لهن أزواجهن بعد استخراج الكنز. وحدهم الأطفال كانوا يراقبون ما يجري حولهم بفضول واستغراب، وظن الصغار أن الكبار قد أصابهم مس من الجنون وهم يشاهدونهم يحفرون الأرض حتى يتصبب العرق من جباههم دون أن يشعروا بالملل أو التعب.
كان الأمل معديًا، وكانت حمى الكنز تواصل سريانها الفيروسي في أرواحهم، وتحثهم على مواصلة الحفر تحت حرارة الشمس دون أن يتوقفوا أو يستريحوا. باستثناء الرجل الغريب الذي كان يجلس وحده في الظل يراقبهم بابتسامته الخبيثة والغامضة، كأنه يشاهد مسرحية يعرف وحده نهايتها.
استمر الحفر ثلاثة أيام وليالٍ متواصلة حتى بدأت الحفرة تتسع وكادت أن تشبه فوهة بركان عميقة. ومع اتساع الحفرة وزيادة عمقها، بدأت بذور الشك تنمو في نفوس أهل القرية ومن معهم من القرى القريبة. وفي الليلة الثالثة، جمع الشاب قاسم صالح ابن العاقل عددًا من الرجال والوجهاء في خلوة سرية، وقال لهم بصوت خفيض:
- هل نحن مجانين؟ نعطي ربع ثروتنا لرجل لم يلمس فأسًا؟ الأرض أرضنا، والتعب تعبنا، والعرق عرقنا، والكنز كنزنا!
علق عليه مصلح ابن القرية الطموح، الذي لم يكن أقل غضبًا منه:
- نعم يا قاسم، كلامك صحيح، وهذا الغريب لم يفعل شيئًا سوى أنه حلم بالكنز. والحلم أسهل ما يكون، لا تعب فيه ولا حفر ولا عرق. الحلم شغل الكسول، ينام ويحلم ويريد من الآخرين أن يحفروا نيابة عنه ليستخرجوا له الكنز. هذا إذا كان هناك كنز بالفعل، وما يدرينا؟
لقيت كلمات مصلح وقاسم صدى في نفوس من اجتمعوا في تلك الخلوة السرية. وفي صباح اليوم التالي، عندما توجهوا ليواصلوا الحفر، وبينما كان الرجل الغريب يتقدمهم ويسير أمامهم مبتسمًا ومطمئنًا، أحاطوا به بشكل مفاجئ، وتقدم العاقل الشيخ صالح وقال للغريب بحسم لا تراخي فيه:
- لقد قرر أهل القرية أن يعطوك مكافأة على حلمك، وعليك أن تغادر الآن.
توقع الجميع أن يثور الرجل أو يتوسل، لكنه فاجأهم عندما اتسعت ابتسامته الهادئة وقال:
- لا بأس، هذا حقكم، فالكنز كنزكم، والأرض أرضكم.
ثم أخذ المكافأة التي قرروها له دون أن يعدها، واستدار ليمشي مبتعدًا عن القرية دون أن ينظر إلى الخلف، واختفى بالطريقة نفسها التي ظهر بها، كأنه جاء من العدم وعاد إليه.
شعر أهل القرية بالنشوة، واشتعلت حمى الكنز من جديد في أوردتهم بعد أن عرفوا أن ربع الكنز الذي كان سيأخذه الغريب أصبح من نصيبهم، ففرحوا فرحًا عظيمًا، وعادوا للحفر وهم يسمنون خيالاتهم بالثروة، كما يسمن الراعي عجوله ليبيعها في السوق أو ليقدمها قربانًا للنسور من أجل نزول المطر. وعاد الجميع إلى الحفر بمعنويات عالية.
لكن الرجل الغريب لم يذهب بعيدًا، فقد سار حتى وصل إلى عاصمة المحافظة، وهناك طلب بشكل عاجل للغاية ولأمر هام لا يحتمل الانتظار مقابلة قائد المحور الأمني العقيد فضل ضلعان، وهو رجل أمن وقائد معروف بقسوته وطمعه، ولا يترك نصيبه من أي كعكة حتى لو كانت ضفعة بقرة في نقيل مهجور، سيأخذ نصيبه منها.
جلس الغريب في مكتب العقيد ضلعان ولم يتحدث على الإطلاق عن خيانة القرويين له ولا عن نقضهم العهد وتراجعهم عن منحه ربع الكنز، لكنه رسم صورة مختلفة تمامًا عن الواقعة، وقال للعقيد المتلهف لاقتناص الفرص:
- سيادة العقيد، لم أجد من هو أفضل وأحق منك بمعرفة هذا السر؛ لأنك رجل الدولة الأول والوحيد في المحافظة. لقد اكتشفت موقع كنز أثري لا يقدر بثمن يعود للدولة، ولكن عصابة من القرويين تحاول سرقته الآن، وإذا لم تتحركوا فورًا، ستضيع ثروة وطنية بيد اللصوص.
لمعت عينا العقيد فضل، وراح يكرر بصوت عالٍ هذه الكلمات: الكنز، الدولة، القرويين، اللصوص. ثم شكر الغريب وهو شارد الذهن يخطط لاستثمار الحدث قبل أي مسؤول في المحافظة. وفي أقل من ساعتين، كان غبار عشرة أطقم عسكرية يقودها قاسم ضلعان يملأ الأفق وهي تسير بأقصى سرعة باتجاه موقع قرية الكنز كما أسماها. وكانت السيارات التي تصادف الأطقم العسكرية المسرعة تخشى الاصطدام بها، ويقول السائقون:
- يعلم الله وحده ما مع هذه الأطقم العسكرية المسرعة، لا بد أن المشكلة خطيرة والقضية ليست سهلة.
كان القرويون على وشك إيقاف العمل للراحة من شمس الظهيرة الحارقة حين سمعوا هدير محركات الأطقم العسكرية التي يقودها العقيد فضل، فتجمدوا في أماكنهم وهم يرون الأطقم العسكرية تحاصرهم وتطوق الحفرة العميقة من كل جانب.
الحلقة الأخيرة
كان المصابون بحمى الكنز على وشك إيقاف الحفر للاستراحة من شمس الظهيرة الحارقة، حين فاجأهم هدير محركات الأطقم العسكرية التي يقودها العقيد فضل ضلعان. فتجمدوا في أماكنهم وهم يرون الأطقم تحاصرهم وتطوق الحفرة من كل جانب.
ترجّل العقيد فضل من سيارته وخلفه جنوده، وإلى جواره وقف الغريب الذي حلم بالكنز يراقب المشهد بهدوئه الشيطاني المعتاد.
صرخ العقيد فضل بصوتٍ عالٍ:
- بأمرٍ من سلطة الدولة، هذا الموقع يخضع الآن للحماية العسكرية! وأي محاولة للاقتراب ستقابَل بالقوة!
تراجع الأهالي وقبضاتهم تشتد على معاولهم، وارتسمت على وجوههم خيبة ممزوجة بغضبٍ لضياع جهدهم سدىً في الحفر. وبدأوا ينظرون بحقد إلى الغريب الذي غادر بخبثٍ مثل الثعلب ثم عاد وجلب معه الأطقم العسكرية. هكذا انقلب المشهد رأساً على عقب، وفي لحظة فارقة تحول أصحاب الأرض من أسياد الكنز المحتمل إلى سجناء في قريتهم، يشاهدون الجنود وهم يكملون الحفر، وآخرين يحرسون الحفرة بالرشاشات من فوق الأطقم.
لكن عدوى الكنز لم تتوقف عند العقيد فضل ضلعان، بل تسربت أخبارها لتشعل خيال أعضاء القيادة في عدن، فطمع كل واحد منهم في ثروة يضيفها إلى ما لديه من أموال وعقارات؛ فالنفس لا تقنع، ومن يملك الكثير يطمع دائماً في المزيد.
وبعد نقاشات محمومة داخل القيادة في الغرف المغلقة، بدأ النقاش بالسخرية من قصة الكنز الغريبة، ولكن سرعان ما بدأ الجشع ينمو ويكبر في رؤوس القادة حتى أصابهم جميعاً، فاتخذوا القرار الذي لا رجعة فيه. وبحسم بدى على ملامحه، قال القائد عطروش البريقي:
- لا يمكن الاعتماد على صاحبنا العقيد فضل، لأنه ينسى نفسه أحياناً ويعتقد أنه الكل في الكل ويحاول أن يتجاهل القيادة.
رفع عضو القيادة سلمان البيك يده طالباً الحديث وإبداء الرأي، وقال وهو يدعم حديث القائد عطروش:
- افترضوا يا رفاق أن هذا الكنز الضخم وقع في أيدٍ غير أمينة!
عاد القائد واختتم الحديث بالقول الفصل، موجهاً أمره النهائي الحاسم:
- يجب علينا تأمين الموقع بقوة مركزية وإشراك الجهات المختصة في الآثار.
في اليوم التالي، اهتزت الأرض من جديد تحت عجلات الأطقم العسكرية، وهذه المرة، لم تكن عشرة أطقم، بل ثلاثين طقماً من قوات النخبة المدربة تدريباً عالياً، وصلت بعتادها المتطور من عدن، ترافقها سيارة الخبراء من هيئة الآثار.
دخلت القوة الجديدة القرية وفرضت طوقاً أمنياً أوسع، ونشأت حالة من التوتر الشديد بينها وبين قوات العقيد فضل الذي عرف أن التوجيهات صدرت بانسحابه، فغادر غاضباً. وفور وصوله إلى مقر قيادة المحور الأمني أمر بإنزال علم القيادة المركزية ورفع علم الدولة الاتحادية، نكايةً في القيادة التي لم تثق به وساورتها المخاوف والشكوك بشأن تهوره وطمعه في الاستئثار بالكنز وحده.
تحولت القرية التي قيل إن الكنز فيها إلى قلعة شبه عسكرية، وتكاثرت أنواع القوات التي توافدت إليها حتى اضطرت إلى إنشاء مطبخ كبير لإطعام الجنود. ونال فقراء القرية وما جاورها نصيباً من الوجبات، حتى إنهم تمنوا أن تستمر حمى الكنز في قريتهم إلى الأبد، ليحظوا بالطعام الذي كانوا يحصلون عليه من مطبخ التموين العسكري المرافق للقوة المرابطة حول حفرة الكنز.
كان الجنود يحفرون في نوباتٍ نهارية وأخرى ليلية، وكان أولئك الذين يحفرون ليلاً أسعد حظاً من الذين يحفرون نهاراً ويتحملون مشقة نزع الصخور والرمال من الحفرة إلى محيطها تحت لهيب الشمس.
وخلال الحفر، كان قادة وضباط من مختلف الرتب يراقبون كل خطوة وكل ضربة معول على أمل رؤية تباشير الكنز، لعل لمعة ضوء ذهبية تشرق من تحتهم في الحفرة العميقة لتعلن عن طرف الكنز أو صناديقه المدفونة تحت التراب.
لم يتبقَّ لأهل القرية من جنون البحث عن الكنز إلا الحمى التي لم تغادر جماجمهم، فأجبرتهم على متابعة الحفر بحزن وذهول، بعد أن تحول الحفر إلى عملية عسكرية ضخمة، أطلقت عليها القيادة اسم "الفيد الحلال"، نكايةً في أعمال الفيد المحرم التي قادها في فترة سابقة خصوم القيادة الحالية، التي بالرغم من أنها درست في مدارس خصومها وتعلمت منهم الكثير وراحت تقلدهم في كل صغيرة وكبيرة، إلا أنها اختلفت عنهم وتميزت بإضافة كلمة "الحلال" أو "المشروعية" لكل خطوة تقوم بها مهما كانت فاسدة.
مرت الأسابيع والحفرة تتسع وتزداد عمقاً بفعل استخدام أحدث آلات الحفر ونقل المخلفات، حتى أصبحت مثل فوهة بركان هائلة. ولم يظهر من الكنز أو علاماته أي شيء. وحده الإرهاق والملل والشك، مشاعر متزاحمة ظلت تتسرب إلى الجميع، بدءاً بالذين كان العطش يصيبهم بفعل ما كانوا ينزفونه من عرق أثناء الحفر، وحتى أولئك الذين كانوا يتفرجون على الملهاة، فقد تعبوا وغزاهم الملل وبدأت حمى الكنز تخف وتنسحب ببطء من خيالاتهم.
وما أن وصل الشعور باليأس واللاجدوى إلى صفوف القيادة في عدن، حتى حدث ما لم يكن في الحسبان. إذ تشاجر جندي من قوات النخبة مع آخر من قوات الحراسة الخاصة لأحد القادة على أفضلية استخدام منظار مكبر يتيح رؤية أوضح لقاع الحفرة وسير عملية الحفر ومراقبة من بالأسفل، لعل بشارة الكنز تظهر في ذروة اليأس.
تطورت الشتائم بين الجنديين إلى اشتباك بالأيدي، وفي ثوانٍ كان الجنود من الطرفين يصوبون أسلحتهم إلى بعضهم البعض حتى كاد حمام الدم أن يبدأ.
السبب الوحيد الذي أجّل انفجار الموقف بين الجنود المسلحين كان ذلك الصوت الذي ارتفع من قاع الحفرة، فأنقذهم من حتمية وقوع الاشتباك، وفي الوقت نفسه كان هو الصوت الذي انتظره الجميع، عندما هتف أحدهم من أسفل الحفرة بأعلى صوته:
- وجدته! أقسم أنني وجدته!
هدأ الجميع وأرخوا قبضاتهم عن أسلحتهم وركضوا بشكل هستيري نحو الحفرة؛ القادة والجنود وبعض أهل القرية. قفز عدد من القادة وكبار الضباط المرافقين لهم إلى قاع الحفرة وتكوموا حول الجندي الذي كان يصرخ وهو يمسك بشيء نصف مدفون.
وبأيدٍ مرتعشة أزاحوا التراب عن ذلك الشيء، لم يكن صندوقاً، بل جرة فخارية كبيرة، حملوها بحذر ووضعوها على الأرض.
ساد صمت مطبق لم تكن تكسره سوى أصوات الأنفاس اللاهثة لمن هبطوا إلى قعر الحفرة. مد أحد القادة يده ببطء إلى داخل الجرة المكسورة... ثم سحبها. أخرج القائد يده من الجرة وكانت تحمل بضع عظام بشرية وخنجراً قديماً غطاه الصدأ بالكامل. نظر الجميع إلى العظام، ثم إلى الحفرة الهائلة، ثم إلى وجوه بعضهم البعض. لا أثر للكنز، بل مجرد قبر منسيّ لقتيل مدفون في جرة مع الخنجر الذي أودى بحياته.
أقام المعسكر آخر وليمة ليتخلص من بعض المؤن التي يمكن أن تفسد في طريق العودة، فأكل أهل القرية واستمتع الفقراء والمهمشون بآخر وجبة من وجبات معسكر الحفر. وفي اليوم التالي، بدأ الانسحاب الكبير والصامت، وحزمت القوات العسكرية خيامها ومعداتها وغادرت في جو من الخزي المكتوم، وكل طرف يلقي باللوم على الآخر.
أما الرجل الغريب الذي حلم بالكنز وكان صاحب كل هذه الفوضى، فقد اختفى تماماً ولم يره أحد يغادر. تبخر ببساطة كما ظهر، تاركاً خلفه السؤال معلقاً في الهواء: من هو؟ ومن أين جاء؟ وأين سيلقي كذبته القادمة عن الكنز المدفون؟
لم يبقَ في القرية سوى أهلها وتلك الحفرة العظيمة التي صارت معلماً بارزاً في أرضهم وندبة مظلمة تذكرهم بالغريب الذي زرع حمى الذهب في نفوسهم، ولم يربحوا منه سوى الفراغ العميق الذي حفرته معاولهم.
قال مثنى بن مثنى ساخراً ومبتهجاً بعودة الأوضاع إلى ما كانت عليه في القرية:
- لا تحزنوا يا رفاق، صدقوني يمكن أن تصبح الحفرة نفسها هي الكنز، وعندما تعود الدولة والاستقرار سنحولها إلى مزار سياحي، ربما تزورنا الجميلات الأوكرانيات لمشاهدة الحفرة العجيبة، وقد نكون اكتشفنا اليورانيوم والمعادن النادرة في أسفلها دون أن ندري.
ضحك أهل القرية أخيراً وتشاركوا في ثمن سياج من الشبك لتسوير الحفرة الدائرية الهائلة حتى لا يقع فيها الأطفال أو المواشي، وظلت الحفرة شاهدة على أسطورة الكنز.
عادت ضحكات العجائز وهمساتهن تسمع بوضوح في القرية بعد أن غطى عليها لأسابيع ضجيج معسكر الحفر. بينما كان رجال القرية يتجولون في أزقتها مطأطئي رؤوسهم خجلاً، لا يريدون تذكر ما حدث.
*فكرة القصة مبنية على منشور كتبه فتحي بن لزرق عن واقعة حقيقية شهدتها محافظة الضالع، لكن الأسماء والوقائع والتفاصيل في القصة المكتوبة من وحي خيال الكاتب.
(من صفحة أحمد السلامي في فيس بوك)