يتضمن هذا السؤال متغيرين أساسين غير قابلين للمقارنة هما الفأر صغير الحجم محدود القوة، والنهر المتدفق عاتي القوة ناحت الأرض وراسم التعرجات والنافخ لروح الحياة والتنوع فيها أينما جرت مياهه.
للإجابة على السؤال أعلاه ينبغي طرح سؤال آخر وهو لماذا مجرى النهر متعرج كالثعبان حتى في الأرض المبسوطة؟
باختصار، ووفق وثائقي شاهدته مؤخرا مزود بالصورة المتحركة التوضيحية لسببين:
أولا أن الماء لا يجري جريا ناعما بل جارفا بقوة مهولة يضاعف صنعها مع الزمن.
والثاني: لارتباط حركة المياه بحركة الأرض الدوارة لذا تميل المياه المتحركة إلى تشكيل حركة إعصارية فاتحة فتنحت الأرض من جانب أكثر من الآخر وترسم خطا متعرجا سرعان ما يتحول الانعراج إلى الجهة الأخرى لذات القوة.
ومع الوقت يتسع النحت في منعرجين متقابلين إلى أن يجتمعا ويفتحا قناة مشتركة حتى يتوقف الجريان في الالتواء الكبير ويكتفي بالوصلة الجديدة المباشرة لتتكون بحيرة مغلقة بفعل الطمي المحمول.
بمعنى آخر، ديناميكية الماء وتدفقه والتموجات التي يرسمها النهر.
لكن قوى النهر الجاري تتركز في نقطة حرجة من الالتواء تتضاعف فيها قوة الجريان وتتركز بفضل المجروفات وتكون قوة مقاومة التربة للماء مساوية لقوة تدفقه.
وهنا لو حفر خلد او فأر حفرة صغيرة في هذه النقطة تتغير المعادلة ويتغير المسار كلياً.
هذه الظاهر الفيزيائية لا تنفصل في تصورها عن أثر خفقان جناحي الفراشة في المفاهيم الفيزيائية.
سأكتفي هنا لاني لا أريد الخوض في مجال عصي على الفهم ولست أألفه، إنما أفعل ما أسلفت رغبة في جر القارئ إلى عالمين اثنين مختلفين.
أولاهما عالم التاريخ وما يكتنزه من أسطورة حول تهدم سد مأرب على يد (أو أسنان) فأر ازهقت بعدها روح حضارة سبأ وكتب على أبناء سبأ التشرد والضياع.
فهل يمكن قراءة تلك الأسطورة قراءة فيزيائية عالمة؟
إلا يستطيع الفأر تغيير مجرى النهر وطمر سد عظيم؟
والعالم الآخر هو عالم السياسية. واسعى، مستعيناً بالصورة المرسومة سابقا بين النهر والفأر، إلى لفت الانتباه إلى ما يجرى في البحر الأحمر حيث مجرى تدفق التجارة العالمية ومياه القوة الأمريكية العاتية وحيث "الفأر" الحوثي التي يقضم بأفعال صغيرة رمزية من جدار هذه القوة.
حكاية النهر والفأر تعلمنا أنه لا ينبغي الاستهانة بالفأر الذي إنما يفعل ما يفعل بناء على حاجته الصغيرة هو دون إدراك لعواقب أعماله التي تصدر في تظافر ظروف اكبر منه وأكبر من توقعه.
لا اظن أن أمريكا مستعدة لخوض حرب برية جديدة، وليست بصدد إعلاء الحوثي من متمرد مجهول له صورة غبراء في خيال الدبلوماسيين والباحثين إلى عدو يتحمس لقتاله الشعب الأمريكي.
وقبل الخوض امريكا في حرب بعيدة برية هناك معارك داخلية أمريكية تستنفد اي طاقة للتفكير بالحوثي. ثم ان السعودية قد قنعت من بؤر التوتر حولها. وتريد كسب رد طهران كيفما اتفق.
وبريطانيا تصحو من غفلة فقدانها القدرة الإمبريالية العالمية الي تتلاعب بمصاير الشعوب كطين الفخار.
روسيا تريد الثأر وتوريط أمريكا في حروب صغيرة، والصين فرحة بتعطيل ما يعطل مشاريعها. هل سيجد الجميع أفضل من الحوثي ؟
مع هذا يقتنص الحوثيون أحداث عالمية وأمريكية داخلية ويعطونها تفسيرات لاهوتيه تضع الله في صفهم وليس مشغولا إلا بنصرهم.
عمليا وليس رمزيا تغيرت وجهة السفن واتخذت الطريق البحري الطويل ملاذا وتراجعت عن الطريق المختصر المار بقناة السويس والذي كان حلما يراود العقول منذ آلاف السنين ولم يتحقق إلا بموت عشرات الاف العمال المصريين.
وواقعيا تتظافر ظروف أكبر من إرادة ورغبة وحلم الحوثي وتربط أفعاله الصغيرة بغايات كبيرة.
فهو غير معني إلا بتوسيع جحره الصغيرة ليلج إلى عالم إيران الكبير، لكن رياح السياسة وهشاشة اقتصاد العالم تهب لتجعله أقوى من أن يستهتر به الإنجليز والأمريكان.
فاذا تغير مجرى النهر عم الطمي وأعمى البصيرة وفاضت المياه بما لا نشتهي.
(من حساب الكاتب عبر منصة إكس)