الكتّاب الساخرون في العالم بوجهٍ عام قليلون؛ نظرًا لصعوبة هذا النوع من الكتابة، إلى جانب تفشي الكتابة الجادّة في حياة القرّاء؛ لكونها الأكثر التصاقًا بمعيشهم اليومي، وهي من تعاين أحوالهم عمومًا.
فالكتابة الساخرة هي مزيج شفاف بين المرارة والدعابة، كما اختصرها المتنبي بقوله: "ولكنه ضحك كالبكاء"، في قصيدته الشهيرة التي يقول فيها: "ضحكت فصرتُ مع القوم أبكي وتبكي علينا عيون السماء، وكم ذا بمصر من المضحكات ولكنه ضحك كالبكاء"، وتُعدّ السخرية، بحسب الكاتب والروائي دوستويفسكي، "الملاذ الأخير لشعب متواضع وبسيط".
ومنذ اندلاع الحرب في اليمن، أصبح التهكم والسخرية ملاذَ اليمنيين الأخير، وصارت مواقع التواصل الاجتماعي المساحة التي يخلطون فيها المرارة بالدعابة لمواجهة الظلم وقسوة الأيام ونكد العيش، لكن الحرب مثلما شوّهت أشياء كثيرة في حياتنا، لم تنجُ منها الكتابة الساخرة، وصناعة المحتوى الساخر، فتحوّلت السخرية عند كثيرين إلى "مسخرة" حسب الاختزال الشعبي المصري الرائج لتبدل الحال، لهذا هناك فرق بين الملفوظَين.
فالسخرية هي نكتة ذكية لتوصيل حالة من الوعي للناس البسطاء، وتقوم على مفارقات اللغة والموقف والحس الإنساني، كما أنها أقدم سلاح للإنسان عندما كان يهرب إلى الكهف ليرسم نفسه على جدران الكهف وهو يطعنها بغصن شجرة.
هكذا سخر وضحك من نفسه، وعلى العكس من المسخرة التي تحيل الأشياء إلى كتلة الخشونة البلهاء وتزييف الوعي.
مع ظهور اليوتيوب وظهور تطبيقات ومنصات مرئية مثل إنستغرام وتيك توك، تكاثر صنّاع المحتوى الذي يعتقدون أنّهم يقدّمون محتوى ساخرًا بلا أدنى حسّ إبداعي، وفي المقابل، يتعرض بعض صنّاع المحتوى الساخر في مواقع التواصل الاجتماعي لهجوم ونقد متواصل من قبل أناس يظنون أنهم يتسمون بالوعي والثقافة الجادّة والرصينة (عميقون)، غير أنّ هذا الأمر يتكشف حينما يقوم هؤلاء بتوزيع اللايكات (الضحكات والإعجابات) لكتّاب يعتقدون أنهم متهكمون ساخرون يعبرون عنهم، وهم في الحقيقة، يمارسون التهكم والسخرية على خصومهم فقط، ومن ثَمّ يهاجمونهم من واقع كونهم ينتمون إلى الطرف الآخر في حالة الصراع، التي أنتجت هذا الانقسام التناحري المريع، الذي مكَّن كل طرف من توظيف الأدوات الممكنة في معركته ضد الآخر، ومنها الكتابة التي يظنها ساخرة، وهي لا تمت بأدنى صلة لقيمة الكتابة هذه وروحها، حتى وهي تحاول انتزاع الضحك البلاستيكي من المتلقي.
الكتابة الساخرة هي ردّ الفعل البشري الجوهري على الخوف من الموت، بحسب المفكر الإيطالي أمبرتو إيكو، وهي أعظم في أبعادها الإنسانية، خصوصًا في أيام كهذه، وليست مسيّسة ومشوّهة ومدفوعة لصالح قناة أو حزب أو فئة أو جماعات وأفراد، ولا هي تصفية حسابات، والأهم من ذلك، أنّ الكتابة الساخرة ليست شيئًا تافهًا، يلجأ الناس إليها هربًا من القضايا الهامّة، فالسخرية هي معجزة الحزين لتوصيل حالة من الوعي على شكل ابتسامة.
يتمثّل الإشكال الآخر في اعتقاد الكثير من الأفراد أنّ الكتابة الساخرة أو فنّ "القفشة" بلا حقوق، حيث يتم السطو على نماذجها القليلة في مواقع التواصل، ومِن ثَمّ نشرها من دون ذكر صاحبها، وعندما تواجه أمثال هؤلاء يردّون وبتبجح: "يا رجل، إنها مجرد نكتة"، وكأن منتِجها الحقيقي لم يقطِّرها من خبرته مع الحزن والمرارة.
توصف الكتابة التهكمية الساخرة بأنها هجومية ونقدية لاذعة، لكنها في الوقت ذاته ترسم مفارقات ومشاهد طريفة بطريقة سلِسة بلا رتوش وفذلكات تصويرية جافة.
لقد أرّخ الجاحظ والتوحيدي بالحكايات الساخرة والمفارقات المضحكة، للحياة اليومية في زمنهم الماضي، وبهذا لا يعلم الكثير أنّ الكتابة الساخرة هي ابنة زمنها وثقافة مجتمعها، ولها حقوقها الفكرية بعوائد معنوية ومادية أيضًا، لأنّها تعدّ مرجعًا حيويًّا ومهمًّا في قراءة أحوال البيئات التي أنتجتها وطرائق تفكيرها، وزيادة على ذلك، وعلى عكس ما يظنه المتلقون، ليس من السهولة على الكاتب، وأيضًا الفنّان الساخر، انتزاع الابتسامة بلغة تهكمية شديدة الوصول؛ لأنه في الأساس يكتب ويخاطب كل الناس، لا فئة محدودة ولا نخبًا بعينها.
ومن المهم أيضًا أن يتحلى الكتّاب الساخرون والفنّانون المتهكِّمون بقدر عالٍ من الذكاء والنباهة، وخصوصًا أولئك الذين يعيشون في ظل سلطات وأنظمة قمعية شديدة التسلط، مثل السلطات الدينية التي تعمل على تبليد عقول الناس وتحويلها إلى كتلة من الأسمنت الصلب، فبذكائه ونباهته يتمكّن الكاتب الساخر من نقد هذه السلطة بجبروتها وأدواتها القامعة، وتفكيك خطابها من دون أن تنفجر وتتشظى على رأسه.
على مرّ التاريخ السياسي العربي والصراع على السلطة والحكم، تخفَّى مشهورون خلف الكتابة الساخرة لنقد الاستبدادين الزمني والروحي اللذَين كرّسهما الحكّام لإدامة منظومة الحكم التي يتحكم بها، ففي العهدَين الأموي والعباسي وما لحقهما، احتفظت لنا المرويات بتفاصيل متعددة من نتاجات أسماء مؤثرة، مثل: الجاحظ، وابن المقفع، وابن الرومي، والأخطل، والفرزدق، وأبي نواس، الذين تهكموا على النمط السائد في الحكم، وبعضهم سخر من سلوك أهل البادية وتقاليدهم وممارساتهم، باعتباره سلوكًا فجًّا قياسًا بسلوك أهل المدن العامرة والمتنوعة ثقافيًّا.
في المراحل المتقدمة، والحديثة على وجه الخصوص، صار تأثير الكتابة الساخرة فعّالًا وسريع الانتشار بالتداول والمرويات، وهو عند كثيرين أهم وأبلغ وأقوى تأثيرًا من الكتابة التقليدية. ولكن مع نمو الوعي واستيعابه لرسالة الكتابة الساخرة بوصفها فنًّا ناقدًا، فإنّ هذا النوع من الكتابة صار يربك بعض القراء لعدم تمييزهم بين ما هو جدّ وما هو هزل، ولاعتماد منتوجها بدرجة رئيسية على مشاهد لحظية تختزل الفكرة وتكثّفها لتخلق منها قصة للتأمل والتفكير، لا تمَّحي من ذاكرة المتلقي. توصَف الكتابة التهكمية الساخرة بأنها هجومية ونقدية لاذعة، لكنها في الوقت ذاته، ترسم مفارقات ومشاهد طريفة بطريقة سلِسة بلا رتوش وفذلكات تصويرية جافة.
وختامًا، أستدعي مقولة الأديب والكاتب الإنجليزي جورج برنارد شو، التي قال فيها:
"إنّ أسلوبي في المزاح هو أن أقول الحقيقة".
( من صفحة الكاتب في فيس بوك)