في أحد صباحات الصيف الباردة أخيراً (في بريطانيا كل أيامنا باردة)، كنت أشرب قهوتي وأنظر إلى زجاجة الحليب حين انتبهت إلى تاريخ انتهاء الصلاحية المدون عليها مما أثار تساؤلاتي: كم من عملية تحسين مرت بها زجاجة الحليب هذه للحفاظ على جودتها وضمان سلامتها لمدة تتجاوز 10 أيام؟ فعندما كنت طفلة كان الحليب الطازج لا يصمد في وجه البكتيريا أكثر من يومين.
لجأت إلى صديق الضيق المعتاد في يومنا هذا "غوغل" لأعرف أن وراء هذا التحسن في جودة الحليب قصة طويلة تسمى التكنولوجيا الحيوية التي تغير مجرى حياتنا بصورة يومية وملموسة لكنها غير مرئية.
والتكنولوجيا الحيوية ليست مجرد موضوع علمي معقد، بل هي جزء من الحياة اليومية التي تؤثر في كل شيء من الطعام الذي نأكله إلى العلاجات الطبية التي نحصل عليها.
ما التكنولوجيا الحيوية؟
هي مجال علمي حديث يتعامل مع استخدام الكائنات الحية أو أجزائها لتحسين نوعية حياة الإنسان وحماية البيئة. وتعود جذور هذا المجال إلى العصور القديمة، إذ كانت تقنيات التخمير مثل صنع الخبز والنبيذ من أوائل التطبيقات التي اعتمدت على الكائنات الحية.
لكن كتاب "البيولوجيا الجزيئية للخلية" يذكر أن الانطلاقة الحقيقية للتكنولوجيا الحيوية بدأت في القرن الـ20، عندما اكتشفت العالمة روزاليند فرانكلين البنية المزدوجة الحلزونية للحمض النووي من خلال تقنيات التصوير بالأشعة السينية، إذ التقطت صوراً عالية الدقة للألياف الحلزونية للحمض النووي.
استغل العالمان فرانسيس كريك وجيمس واتسون هذه البيانات المهمة لتطوير نموذجهما الخاص ونشرا اكتشافهما عام 1953. وشكل هذا الاكتشاف قفزة نوعية في علم الأحياء الجزيئي، وفتح أبواباً جديدة لفهم كيفية نقل المعلومات الوراثية وتعديلها مما ساعد على تطوير تقنيات الهندسة الوراثية الحديثة.
في هذا المجال أحدثت الثورة التقنية تغييرات جذرية في كيفية تشخيص الأمراض وتطوير العلاجات. وتعد تقنية التفاعل المتسلسل للبوليميراز (PCR) التي طورها كاري موليس عام 1983 واحدة من أبرز التطورات في هذا المجال. هذه التقنية التي نشرها موليس الحائز جائزة "نوبل" في الكيمياء في ورقة بحثية شهيرة تمكن الباحثين من تضخيم كميات صغيرة جداً من الحمض النووي، مما يسهل تشخيص الأمراض بصورة مبكرة ودقيقة.
على سبيل المثال، علاج الأنسولين المصنوع باستخدام البكتيريا المعدلة وراثياً هو من أبرز النجاحات في هذا المجال. قبل هذه التكنولوجيا كان الأنسولين يستخلص من البنكرياس الحيواني، مما كان يسبب مشكلات تتعلق بنقاء الدواء وتوافره. لكن الآن، كما يذكر كتاب "التكنولوجيا الحيوية الجزيئية: مبادئ وتطبيقات"، يتم إنتاج الأنسولين بكميات كبيرة وبجودة عالية باستخدام تقنية إعادة التركيب الجيني، وهو ما حسن بصورة كبيرة من إدارة مرض السكري.
من التقنيات الأخرى ذات الأهمية الكبيرة الطب الجيني. فعلى سبيل المثال يمثل العلاج الجيني لمرض التليف الكيسي خطوة مهمة في معالجة الأمراض الوراثية. في هذا العلاج يتم إدخال جينات سليمة إلى خلايا المرضى لتعويض الجينات المعطوبة، مما يساعد على تحسين وظائف الرئة وتقليل الأعراض.
هندسة الأنسجة وتطبيقات زراعية
تمثل هندسة الأنسجة والطب التجديدي ميداناً متقدماً في التكنولوجيا الحيوية. تمكن علماء باستخدام خلايا جذعية من تطوير أنسجة وأعضاء جديدة يمكن استخدامها في زراعة الأعضاء والعلاج من الأمراض التي تصيب الأنسجة. مثلاً تمكن الباحثون من زراعة خلايا قلبية في المختبر لاختبار الأدوية الجديدة ومعالجة أمراض القلب.
كذلك يعد علاج الأنسجة المزروعة مثالاً آخر على نجاحات الطب التجديدي. في عام 2014 نجح فريق من العلماء في زراعة جلد اصطناعي لاستخدامه في علاج الجروح العميقة والحروق، مما أحدث ثورة في علاج الإصابات الشديدة.
في التكنولوجيا الحيوية الزراعية تركت التطبيقات الحديثة تأثيراً كبيراً في الزراعة، لذا لعبت دوراً حاسماً في تحسين جودة المحاصيل الزراعية وزيادة إنتاجيتها، مما يساعد على تلبية الحاجات الغذائية المتزايدة في العالم. وبفضل تقنيات الهندسة الوراثية تمكن العلماء من إدخال تغييرات دقيقة على الحمض النووي للنباتات لتحسين خصائصها واستجابتها للبيئة.
على سبيل المثال، العنب الخالي من البذور هو نتيجة لتحسينات وراثية دقيقة تم تطبيقها لجعل العنب أكثر ملاءمة للاستهلاك اليومي ولزيادة جاذبيته للمستهلكين. وتشمل هذه التحسينات تعديل الجينات المسؤولة عن تكوين البذور، مما ينتج منه عنب يتميز بنكهة حلوة وقوام سلس خال من البذور المزعجة.
أما حبوب القمح الكبيرة الموجودة في يومنا هذا، فقد طورت عبر عمليات التهجين التقليدية والحديثة واستخدام تقنيات مثل تحرير الجينات. وتتميز هذه الحبوب بحجم أكبر ومحتوى غذائي أفضل، إضافة إلى ذلك تعمل هذه التحسينات على تعزيز مقاومة القمح للأمراض والآفات، مما يقلل من الحاجة إلى استخدام المبيدات الحشرية.
أما ثمار الأفوكادو التي تحظى بشعبية كبيرة في يومنا هذا، فيذكر كتاب "التكنولوجيا الحيوية الجزيئية: مبادئ وتطبيقات" أنها كانت تاريخياً ذات بذور ضخمة جداً وجزء صغير جداً صالح للأكل. وعبر التكنولوجيا الحيوية تم تطوير أنواع جديدة من الأفوكادو ذات بذور أصغر وثمرة أكبر ذات لب سميك صالح للأكل. ويتم تحقيق ذلك من خلال تقنيات مثل التهجين الانتقائي وتحليل الجينوم لتحديد الخصائص الوراثية المرغوبة.
كذلك تتم الاستعانة بذرات معدلة وراثياً تحوي أحد جينات بكتيريا معينة تصنع بروتيناً يقتل الحشرات الضارة من دون الحاجة إلى المبيدات الكيماوية.
أحد الأمثلة الأخرى هو ثمرة الطماطم المعدلة وراثياً لزيادة محتواها من المواد المضادة للأكسدة. ولا يسهم هذا النوع من الطماطم فقط في تحسين صحة الإنسان، بل يلعب دوراً أيضاً في تقليل الفاقد من المحاصيل بسبب الأمراض والآفات.
بفضل هذه التقنيات أصبحت النباتات المعدلة وراثياً أكثر قدرة على تحمل الظروف البيئية القاسية، مثل الجفاف والتربة المالحة، مما يسهم في تعزيز الإنتاجية الزراعية بطرق مستدامة. وتعمل التكنولوجيا الحيوية على تحسين نوعية المحاصيل بطرق كانت غير ممكنة في السابق مما يسهم في توفير غذاء أكثر وفرة وجودة لسكان العالم المتزايدين.
إنجازات صناعية لكوكب يعاني
في مجال التكنولوجيا الحيوية الصناعية شهد العالم تطورات هائلة تسهم في تعزيز الاستدامة البيئية وتحسين كفاءة العمليات الصناعية. مثال بارز على ذلك هو استخدام البكتيريا المنتجة للوقود الحيوي. فالبكتيريا المعدلة وراثياً لإنتاج الإيثانول من المواد الخام النباتية تمثل ابتكاراً مهماً يسهم في توفير بديل مستدام للوقود الأحفوري.
تستطيع هذه البكتيريا تحويل السكريات المستخلصة من النباتات، مثل الذرة وقصب السكر، إلى الإيثانول الذي يمكن استخدامه كمصدر نظيف للطاقة. ولا يقلل هذا التطور فقط من الاعتماد على الوقود الأحفوري ولكنه يسهم أيضاً في تقليل انبعاثات غازات الدفيئة.
إضافة إلى ذلك تم تحقيق تقدم كبير في معالجة النفايات باستخدام الميكروبات، إذ طور العلماء ميكروبات متخصصة قادرة على تحليل المواد السامة والنفايات الصناعية. على سبيل المثال هناك أنواع من البكتيريا قادرة على تفكيك الهيدروكربونات المعقدة الموجودة في النفط، مما يمكن استخدامه في تنظيف التسربات النفطية والتلوثات البيئية الأخرى. وتوفر هذه العمليات البيولوجية بديلاً أكثر أماناً وكفاءة مقارنة بالطرق الكيماوية التقليدية التي قد تترك بقايا سامة.
من الأمثلة الأخرى البارزة في هذا المجال، استخدام الخمائر المعدلة وراثياً في إنتاج المواد الكيماوية الصناعية. وتم تطوير خمائر قادرة على إنتاج حمض اللاكتيك، الذي يستخدم في تصنيع البلاستيك الحيوي الذي يمثل بديلاً صديقاً للبيئة عوضاً عن البلاستيك التقليدي المصنوع من النفط، ويتميز بقدرته على التحلل الحيوي، مما يقلل من تراكم النفايات البلاستيكية في البيئة.
التعدين البيولوجي هو مجال آخر واعد في التكنولوجيا الحيوية الصناعية، إذ تستخدم الكائنات الحية لاستخلاص المعادن من خاماتها. تمتلك بعض أنواع البكتيريا القدرة على أكسدة المعادن وتحريرها من الصخور. وتستخدم هذه التقنية في استخراج النحاس والذهب، وتعد أقل ضرراً للبيئة مقارنة بالطرق التقليدية التي تتضمن استخدام المواد الكيماوية السامة.
علاوة على ذلك، تم تطوير إنزيمات صناعية تستخدم في مجموعة متنوعة من التطبيقات، مثل الإنزيمات التي تعمل على تحسين عمليات التصنيع الغذائية مثل تصنيع الأجبان والخبز. وتستخدم إنزيمات مثل اللاكتاز لتحليل اللاكتوز في منتجات الألبان، مما يجعلها مناسبة للأشخاص الذين يعانون عدم تحمل اللاكتوز.
تحديات أخلاقية ومستقبل ثوري
مع كل هذه الفوائد تظل التحديات الأخلاقية والقانونية جزءاً مهماً من النقاش حول التكنولوجيا الحيوية. وتثير تقنيات التحرير الجيني مخاوف في شأن التلاعب الجيني المحتمل. فهناك قلق من أن هذه التقنيات قد تؤدي إلى تغيير غير متوقع في الجينات ربما يؤثر في الأجيال المقبلة أو يفتح المجال للاستخدام غير الأخلاقي.
كما أن مواضيع مثل الاستنساخ البشري والتجارب على الحيوانات تعد مواضيع حساسة، إذ تستدعي قضايا الأخلاق المتعلقة بحقوق الحيوانات في التجارب العلمية تقييماً دقيقاً للطرق المستخدمة في التجارب والتأكد من تحقيق أقصى قدر من الرفاهية الحيوانية.
دفعت هذه المخاوف عديداً من الدول إلى وضع أطر قانونية وتنظيمية لضمان الاستخدام المسؤول لهذه التقنيات. على سبيل المثال هناك قوانين تنظم استخدام الكائنات المعدلة وراثياً لضمان سلامتها قبل طرحها في الأسواق.
على رغم هذه المحاذير والقيود فإن التكنولوجيا الحيوية تتجه نحو مستقبل مليء بالإمكانات المثيرة، ومن المتوقع أن تستمر تقنيات مثل التحرير الجيني والذكاء الاصطناعي في إحداث ثورات في مجالات الطب والزراعة والصناعة. كذلك قد يسهم تطوير التقنيات النانوية في الطب بعلاج الأمراض على المستوى الجزيئي مما يعزز فعالية العلاجات ويقلل الآثار الجانبية.
كما أن الذكاء الاصطناعي سيعزز من تحليل البيانات البيولوجية الكبيرة، مما سيمكن الباحثين من اكتشاف أدوية جديدة بسرعة أكبر وتطوير حلول مبتكرة للتحديات البيئية.
وهكذا نرى أن التكنولوجيا الحيوية تمثل مجالاً حيوياً يسهم في تحسين نوعية الحياة وتعزيز الاستدامة البيئية. وأتمنى أن تتمكن في يوم من الأيام من تحسين الطقس حتى أستمتع بصباح صيفي دافئ وأنا أرتشف قهوتي الممزوجة بالحليب الطويل الأجل.