تصدر مثيرو الشغب من اليمين المتطرف المشهد الإعلامي في بريطانيا وأوروبا على مدى أسبوع، بدت فيه شوارع مدن بريطانية تحت سيادة العنف والكراهية. ورغم الهدوء الحذر الذي عاد تدريجياً، إلا أن الشرطة لا تستبعد حدوث مزيد من أعمال الشغب.
وفي رد فعل على هذا الوضع، بدأت حركة مناهضة للتطرف في التشكل، إذ تظاهر آلاف الأشخاص ضد التطرف اليميني في شوارع البلاد، رافعين شعارات ضد العنصرية والكراهية. وكانت قوات الأمن وُضعت في حالة تأهّب قصوى استعدادا لعشرات التظاهرات العنصرية والمعادية للإسلام ولاحتمال اندلاع أعمال عنف جديدة، غير أنّها بدلاً من ذلك أشرفت على تجمّعات سلمية لمتظاهرين مناهضين للعنصرية.
ويذكر أن مثيري الشغب ذهبوا في الأيام الماضية لحد مهاجمة قوات الأمن وأماكن إقامة طالبي اللجوء والمساجد، كما أضرمت النيران في السيارات والمباني.
واندلعت أعمال العنف عقب مقتل ثلاث فتيات صغيرات في هجوم طعناً بالسكين في 29 يوليو/ تموز في ساوثبورت شمال غرب إنجلترا، مما أثار موجة من المنشورات المضللة على الإنترنت أشارت بشكل خاطئ للقاتل المشتبه به على أنه مهاجر مسلم له ميول متشددة، فيما اتضح أن المشتبه به هو شاب عمره 17 عاماً من أصول رواندية. الجريمة استغلتها جماعات يمينية متطرفة معارضة للهجرة، فنظمت عشرات المسيرات في جميع أنحاء البلاد.
ولكن هل يمكن تفسير أعمال الشغب بفظاعة الجريمة فقط؟ في تعليقها على الأحداث كتبت صحيفة "تورنتو ستار" الكندية (الثامن من أغسطس / آب 2024)، معلقة: "كانت الجريمة فظيعة حقًا. لكن أعمال الشغب لا تتعلق بالجريمة. لقد كانت شيطنة الآخر سمة مؤسفة للمجتمعات التي تعتبر نفسها تقدمية، ولكن في عام 2024، ظهرت مسرعات خطيرة. (...) في بريطانيا، أدت الظروف الاقتصادية الصعبة وتكاليف السكن التي لا يمكن تحملها إلى تأجيج الاستياء تجاه القادمين الجدد (...) في المملكة المتحدة، كما هو الحال في قسم كبير من أوروبا والولايات المتحدة، اختار العديد من الساسة زرع بذور الانقسام والكراهية بدلاً من القيام بالعمل الشاق المتمثل في إنشاء نظام هجرة فعال وإنساني".
قوة التضليل.. دور منصات التواصل الاجتماعي
لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دوراً رئيسياً في أعمال الشغب هذه بنشر معلومات مضللة، ففي حالات كثيرة، تمت مشاركة تقارير كاذبة ومقاطع فيديو تم التلاعب بها وبيانات مضللة حول المهاجرين على منصات مثل تويتر وفيسبوك وتيك توك. وعزز هذا المحتوى الصور النمطية السلبية، كما أذكى المخاوف لدى السكان، مما ساهم في تصاعد العنف. وفي بعض الحالات، انتشرت شائعات عن جرائم مزعومة ارتكبها مهاجرون دون أي دليل. إن الانتشار السريع وغير المنقّح لمثل هذا المحتوى جعل من الصعب التمييز بين الحقيقة والخيال، مما أدى إلى زيادة التوترات الملتهبة.
وإضافة إلى ذلك، كانت هذه المنصات بمثابة مراكز لتنظيم وتعبئة المجموعات المشاركة في أعمال الشغب. وتم تنسيق الإجراءات الاحتجاجية والإعلان عن أماكن التجمعات عبر خدمات الرسائل المشفرة مثل واتساب وتليغرام، بالإضافة إلى المنصات العامة مثل فيسبوك. وبهذا الصدد كتبت صحيفة "إلباييس" الإسبانية (السابع من أغسطس / آب 2024): "إن اندلاع أعمال العنف نجم عن تقارير كاذبة تفيد بأن مسلما أجنبيا وكان طالب اللجوء هو المسؤول عن الهجوم. منصات التواصل الاجتماعي مثل مالك ’إكس’، إيلون موسك، صبت الزيت على النار من خلال إضافة تعليقات مثل "الحرب الأهلية لا مفر منها" (...) ليس الخطاب السام في الشبكات فقط هو الذي يساهم في انتشار الحريق، ولكن أيضًا تجريم المهاجرين، وهو ما كان ممارسة شائعة لدى حزب المحافظين (...) يجب على حكومة ستارمر مكافحة تطبيع الخطاب اليميني المتطرف بأقصى قوة ممكنة، بما في ذلك اتخاذ تدابير ضد الشبكات التي تنتشر فيها الأخبار الكاذبة (...) ما يحدث (...) يجب أن تتم مراقبته عن كثب من قبل جميع الحكومات الأوروبية. لا أحد في مأمن من المزيج المتفجر من كراهية الأجانب والمعلومات المضللة".
كيف يتغدى اليمين المتطرف من قضايا الهجرة؟
يرتبط التطرف اليميني بقضايا الهجرة واللجوء ارتباطا وثيقاً في بريطانيا، معضلة لها تأثير كبير على المناخ السياسي والاجتماعي. وفي العقود الأخيرة، زاد الجدل حدة بهذا الشأن، مما أدى في بعض الأحيان إلى إعطاء دفع كبير للتطرف اليميني. ولا ننسى أن موضوعات الهجرة والاندماج كانت من القضايا الرئيسية في النقاشات الساخنة خلال البركسيت، الذي أفضت بالبلاد إلى الخروج من الاتحاد الأوروبي.
وللتطرف اليميني في بريطانيا جذور تاريخية عميقة، تمتد إلى فترة ما بين الحربين العالميتين وما بعدهما. وفي العقود الأخيرة تجلت في أشكال مختلفة، من الجماعات المنظمة سياسيا مثل الحزب الوطني البريطاني (BNP)، إلى الشبكات الأقل تنظيماً مثل رابطة الدفاع الإنجليزية (EDL). وغالباً ما تستخدم هذه المجموعات الهجرة كقضية رئيسية لإثارة المخاوف بين السكان وكسب الدعم الشعبي لأيديولوجيتها.
صحيفة "أفتونبلاديت" السويدية، ذات التوجه الديمقراطي الاشتراكي (السابع من أغسطس / آب 2024) علقت وقالت: "سيُسجل يوم 29 يوليو (تموز) في التاريخ بسبب الجريمة المجنونة، ولكن أيضاً بسبب ارتداداته الزلزالية. أعمال العنف عمت جميع أنحاء بريطانيا، حيث احترقت السيارات ونهبت المتاجر واشتبك المتظاهرون مع الشرطة. ليس من المستغرب أن يشعر الناس بغضب هائل بعد القتل الوحشي لثلاثة أطفال.
لكن الاحتجاجات والاضطرابات سرعان ما اتخذت منحى غير سار. إنه كوكتيل مولوتوف من التضليل الروسي والتطرف اليميني وإيلون ماسك (..) تم حظر تومي روبنسون، أحد مؤسسي المنظمة اليمينية المتطرفة English Defense League، من منصة إكس (تويتر آنذاك) في عام 2018، لكن إيلون ماسك سمح له بالعودة في عام 2023 ومعه أتباعه البالغ عددهم حوالي 880 ألفاً، يعد روبنسون قوة دافعة في الفوضى السائدة حالياً في بريطانيا".
مسؤولية الشعبويين في المعسكر المحافظ
دعا رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر إلى تكثيف الجهود المبذولة لمكافحة عنف اليمين المتطرّف الذي هزّ البلاد. وقال ستارمر "من المهم ألا نتوقّف هنا". وأضاف بعد زيارة مسجد في سوليهال (وسط إنكلترا) "لو أن مساء الأربعاء كان هادئاً لن نتخلى عن جهودنا".
وتحرك ستارمر بسرعة بعد اندلاع الأحداث معربا عن دعمه الكامل لقوات الأمن. غير أن ستارمر لا يمكنه تجاهل الدور الذي لعبه الشعبويون في المعسكر المحافظ في تأجيج مشاعر الكراهية. فقد خلق خطابهم السياسي مناخاً يعتبر مناهضة المهاجرين مبرراً أو حتى ضرورياً لحماية بريطانيا "الأصيلة".
ومن المهم التأكيد على أن الشعبويين غالبا ما يعملون بتلميحات خفية ترسم فيها صورا للعدو، استراتيجية تمكنهم من أن ينأوا بأنفسهم رسمياً عن أعمال العنف، بينما يتحملون في الوقت نفسه مسؤولية تسخين المناخ الاجتماعي.
وبالتالي، فإن أعمال العنف هذه لا يمكن اختزالها فقط في الدوافع المناهضة للمهاجرين والمسلمين ولا في المعلومات المضللة عبر الإنترنت والغضب الذي أججته، بل هناك من يُحمل المسؤولية أيضا للشعبويين في المعسكر المحافظ خلال السنوات الماضية. صحيفة "زودويتشه تسايتونغ" الألمانية (الخامس من أغسطس / آب 2024) كتبت بهذا الشأن معلقة: "لم تكن أعمال الشغب ناجمة بأي حال من الأحوال عن مخاوف مشروعة، بل عن الرغبة في إحداث الفوضى وزعزعة الاستقرار المنهجي تحت ذريعة الغضب الشعبي الصحي.
ولا ينبغي للحكومة البريطانية تحت أي ظرف من الظروف أن تذعن لهذه الضغوط التي يمارسها الغوغائيون من خلال اتخاذ مسار متشدد في سياسة الهجرة، على سبيل المثال.
ومن خلال القيام بذلك، فإنها ببساطة ستواصل السياسة الشعبوية التي ينتهجها المحافظون، والتي انجرفت، تحت رعاية وزيري الداخلية بريتي باتيل وسويلا برافرمان على أبعد تقدير، إلى مجالات سخيفة ــ وباهظة الثمن إلى حد السخافة ــ مع ’حل رواندا’".