وجهت الولايات المتحدة ضربات عسكرية مكثفة ضد منشآت استراتيجية للحوثيين في اليمن، في خطوة تأتي لوضع حد للتهديدات المستمرة من المتمردين المدعومين من إيران، للملاحة في ممر مائي حيوي يمر عبره نحو 15% من التجارة العالمية.
وأسفرت الضربات التي شنتها القوات الأمريكية، السبت، عن مقتل 31 شخصاً على الأقل، مع إشارة مسؤول أمريكي إلى أن العمليات "قد تستمر لأسابيع"، في وقت تكثّف فيه الإدارة الأمريكية ضغوط العقوبات على إيران، الداعم الرئيسي للحوثيين.
وفي بيان رسمي، أكد البيت الأبيض أن "أكثر من عام قد مر منذ أن أبحرت آخر سفينة تجارية أميركية بأمان عبر قناة السويس أو البحر الأحمر أو خليج عدن".
وأضاف أنه "لن تتمكن أي قوة إرهابية من إيقاف السفن التجارية والبحرية الأمريكية من الإبحار بحرية في ممرات العالم المائية".
وشدد البيان على أن "الأمن الاقتصادي والقومي الأمريكي تعرض لهجمات من قبل الحوثيين لفترة طويلة جداً"، مؤكداً أن "إجراءات وقيادة الرئيس ترامب تعمل اليوم على إنهاء هذا الوضع".
من اختطاف "غالاكسي" إلى تهديد الملاحة
ومنذ اندلاع الحرب بين إسرائيل وحركة حماس في السابع من أكتوبر 2024، يهاجم الحوثيون، الذين يسيطرون على مساحات واسعة من اليمن، السفن التجارية في البحر الأحمر.
وتركزت عملياتهم قرب مضيق باب المندب الاستراتيجي في جنوب البحر الأحمر، حيث يستهدفون السفن التي يقولون إنها مرتبطة بإسرائيل أو تلك المتجهة إلى الموانئ الإسرائيلية، مبررين تحركاتهم بـ"التضامن مع الفلسطينيين في قطاع غزة".
لكن في الواقع، فإن الكثير من السفن التي حاول الحوثيون استهدافها، لا علاقة لها بإسرائيل.
ويعود أول هجوم شنه الحوثيون في البحر الأحمر إلى تاريخ 19 أكتوبر 2023، عندما اعترضت المدمرة الأمريكية "يو إس إس كارني" عدة صواريخ أُطلقت من مناطق يسيطرون عليها في اليمن، وفقا للبيت الأبيض.
وفي 19 نوفمبر 2023، استولت ميليشيات الحوثي على سفينة نقل السيارات "غالاكسي ليدر"، واحتجزت طاقمها المكون من 25 بحاراً كرهائن لمدة تجاوزت العام.
ورغم إطلاق سراح طاقم السفينة في 22 يناير الماضي، عقب إعلان هدنة في غزة، فقد استمرت التهديدات الحوثية بشن هجمات على السفن التجارية.
ووفقاً لشركة الأمن "أمبري"، فقد تم تسجيل أكثر من 300 هجوم على السفن في البحر الأحمر، خلال العام الماضي.
وتشير بيانات البيت الأبيض، إلى أن الحوثيين "هاجموا السفن الحربية الأمريكية 174 مرة، والسفن التجارية 145 مرة، منذ بداية الأزمة".
ومن أبرز الهجمات التي أثارت إدانات دولية واسعة، إصابة سفينة "True Confidence" التي ترفع علم باربادوس بثلاثة صواريخ، مما أدى إلى مقتل 3 من طاقمها.
إضافة إلى حادثتي إغراق سفينتي "روبيمار" التي تحمل علم بليز بعد إصابتها بصاروخين في فبراير 2024، و"تيوتور" التي تحمل علم ليبيريا والتي غرقت في 19 يونيو 2024.
كما تعرضت ناقلة النفط الخام "سونيون" لحادث، عندما أصيبت بصاروخ في 23 أغسطس 2024 ثم أضرم الحوثيون النار فيها بعد يومين، مما هدد بكارثة بيئية كانت ستمثل أسوأ تسرب نفطي بحري في القرن، قبل أن تنجح عمليات الإنقاذ البحري في سحبها وتفريغ حمولتها.
الآثار الاقتصادية
وخلفت أعمال "قطع الطريق" بالبحر الأحمر خسائر مالية كبيرة، إذ أدت إلى انخفاض حاد في حركة الشحن البحري عبر البحر الأحمر، من 25 ألف سفينة سنوياً قبل الأزمة إلى نحو 10 آلاف سفينة فقط، بانخفاض قدره 60%، حسب البيت الأبيض.
وأجبرت الهجمات "حوالي 75% من السفن المرتبطة بالولايات المتحدة والمملكة المتحدة، على إعادة توجيه مساراتها" حول قارة أفريقيا بدلاً من عبور البحر الأحمر.
وأدى ذلك إلى إضافة نحو 10 أيام لكل رحلة، وتكاليف وقود إضافية تقدر بنحو مليون دولار لكل رحلة.
ووفقاً لبيان البيت الأبيض، تسببت هذه الهجمات، التي أدت إلى ارتفاع أسعار الشحن، في زيادة معدلات التضخم العالمي للسلع الاستهلاكية بنسبة تتراوح بين 0.6 و0.7% عام 2024.
كما تضررت التجارة بين أوروبا وآسيا بشكل خاص من هذه الأزمة، حيث كان نحو 95% من السفن المتجهة بين القارتين تمر عبر البحر الأحمر في الظروف الطبيعية.
ومن بين أكبر 10 دول مستوردة من حيث القيمة للتجارة عبر البحر الأحمر، 5 دول من الاتحاد الأوروبي.
وحسب البيانات، فقد اضطرت نحو 60% من السفن المرتبطة بالاتحاد الأوروبي إلى إعادة توجيه مساراتها حول أفريقيا، مما أثر بشكل كبير على التكلفة والوقت اللازمين لنقل البضائع بين أوروبا وآسيا.
وتأثرت موانئ في المنطقة بشكل متفاوت جراء إعادة توجيه مسارات السفن؛ فقد شهدت الموانئ السعودية مثل جدة وميناء الملك عبدالله انخفاضاً حادا في حركة الشحن.
وتراجعت السفن المتجهة إلى ميناء الملك عبدالله بنسبة 88% في النصف الأول من 2024 مقارنة بنفس الفترة من 2023، بينما انخفضت في ميناء جدة بنسبة 70%، حسب الموقع المتخصص في شؤون الشحن البحري العالمي Lloyd's List.
وفي البحر المتوسط، انقسمت الآثار، حيث عانت الموانئ الشرقية مثل بيرايوس (اليونان) وبورسعيد (مصر) من تداعيات تراجع الملاحة في قناة السويس المصرية، في حين استفادت موانئ غرب المتوسط مثل فالنسيا وبرشلونة (إسبانيا) من إعادة توجيه السفن حول رأس الرجاء الصالح.
من "حارس الازدهار" إلى "القوة الفتاكة"
ودفعت الهجمات المتزايدة للحوثيين على السفن التجارية، الولايات المتحدة في ديسمبر 2023، إلى تشكيل تحالف بحري دولي تحت قيادتها، أُطلق عليه اسم "عملية حارس الازدهار".
وسعى هذا التحالف إلى تسيير دوريات في البحر الأحمر وخليج عدن، لحماية حركة الملاحة البحرية من هجمات الحوثيين.
وضم التحالف عدة دول، بينها بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا وهولندا واليونان وكندا وأستراليا والبحرين، إضافة إلى دول أخرى ساهمت بشكل مباشر أو غير مباشر في العمليات.
ونفذت سفن هذا التحالف عمليات اعتراض لصواريخ وطائرات مسيرة أطلقها الحوثيون باتجاه السفن التجارية، مما أسهم في تقليل الخسائر البشرية والمادية.
ورغم نجاح التحالف في اعتراض العديد من الهجمات، فقد استمر الحوثيون في استهداف السفن، مما دفع الولايات المتحدة وبريطانيا في يناير 2024، إلى شن ضربات جوية مباشرة على مواقع عسكرية للحوثيين في اليمن، تبعتها هجمات متتالية استهدفت منصات إطلاق الصواريخ والطائرات المسيرة، قبل أن تصل الأمور إلى الهجمات الواسعة التي أمر بها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في مارس 2025.
وقالت القيادة المركزية الأمريكية التي تشرف على القوات في الشرق الأوسط، إن ضربات السبت، هي "بداية لعملية واسعة النطاق" في أنحاء اليمن.
وقال مسؤولون، إن ضربات السبت "نفذت جزئيا بواسطة طائرات انطلقت من حاملة الطائرات (هاري إس. ترومان) الموجودة في البحر الأحمر"، وفق رويترز.
وكتب وزير الدفاع الأميركي، بيت هيجسيث، على موقع "إكس": "لن نتهاون مع هجمات الحوثيين على السفن والطائرات الأمريكية (وقواتنا)، ونحذر إيران، راعيتهم. سنستعيد حرية الملاحة".
وأشار ترامب إلى احتمال القيام بعمل عسكري أكثر تدميرا ضد الحوثيين، قائلا: "لن نتهاون مع هجوم الحوثيين على السفن الأمريكية. سنستخدم القوة الفتاكة الساحقة حتى نحقق هدفنا".
"بداية لحملة طويلة"
يرى أليكس بليتساس، الزميل البارز غير المقيم في مبادرة سكوكروفت لأمن الشرق الأوسط، رئيس مشروع مكافحة الإرهاب في المجلس الأطلسي، أن الضربات الجوية الأخيرة "قد تكون مجرد بداية لسلسلة عمليات عسكرية مطولة".
وقال بليتساس، الذي شغل سابقاً منصب رئيس الأنشطة الحساسة للعمليات الخاصة ومكافحة الإرهاب في مكتب وزير الدفاع الأمريكي، إن الولايات المتحدة نفذت منذ أواخر عام 2023 ضربات متكررة مع شركائها في التحالف على أهداف حوثية في اليمن، "سعياً للحد من تصاعد عدوان الجماعة المدعومة من إيران".
وشدد في تحليلات نشرها المجلس الأطلسي لعدد من الخبراء، على أن هجمات الحوثيين على الشحن في البحر الأحمر "ألحقت أضراراً اقتصادية كبيرة، حيث عطلت طرق التجارة الدولية وقلصت بشكل حاد حركة المرور في قناة السويس، الشريان الحيوي للتجارة العالمية".
وأضاف أن حملة الحوثيين، "أجبرت شركات الشحن على تغيير مساراتها، مما أدى إلى ارتفاع التكاليف والتأخير".
وأوضح بليتساس أن الحوثيين "تجاوزوا استهداف السفن التجارية إلى شن هجمات غير مسبوقة بالطائرات المسيرة والصواريخ على السفن البحرية الأمريكية، إلى جانب ضربات بالصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة استهدفت إسرائيل".
ويرى الخبير الأمني أنه رغم مرور أكثر من عام على الضربات الجوية الأمريكية، فإن الجهود لم تنجح حتى الآن في ردع الحوثيين، "الذين استغلوا الصراع لتعزيز شرعيتهم المحلية والإقليمية".
وأشار إلى أن "تهديدهم باستئناف هجمات السفن في البحر الأحمر، مطلع عام 2025، يؤكد قدرتهم على الصمود"، لافتا إلى أن هذه القدرة "تنبع من توزيعهم للأسلحة عبر التضاريس الوعرة في اليمن، مما يعقد جهود الاستهداف".
وأضاف أن "نقص المعلومات الاستخباراتية القابلة للتنفيذ، أعاق كذلك ضربات التحالف، رغم جهود جمع المعلومات المكثفة التي امتدت لأشهر".
ويرى المحلل أن "قدرة الجماعة على التكيف، من خلال إخفاء أصولها والاستفادة من دعم إيران ، جعلت من الصعب وقف نشاطها العسكري".
وخلص بليتساس إلى أن الضربات الجوية الأمريكية الواسعة التي نُفذت السبت، "كانت على الأرجح مدفوعة بأشهر من العمل الاستخباراتي الدقيق".
واعتبر أنه "من المرجح أن تكون الأولى من بين العديد من العمليات، إذا كان المراد تحقيق هدف وقف الهجمات على الشحن الدولي والمصالح الأمريكية في المنطقة".