بين أصوات القصف وغياب الدولة ولد مئات الأطفال في السودان بلا وثائق تثبت وجودهم، لكن الأمر أن الأمهات في مناطق الصراع المحتدم بين الجيش وقوات "الدعم السريع" لأكثر من عامين وضعن في البيوت والملاجئ وحتى الطرقات من دون رعاية صحية كافية، مع ذلك فإن التحدي الأكبر لم يكن في لحظة الولادة، بل في ما تلاها، إذ لا شهادات ميلاد ولا أوراق رسمية ولا اعتراف قانوني.
هؤلاء أبناء الحرب الذين يواجهون مصيراً مجهولاً، فضلاً عن حرمانهم من التعليم والعلاج، والتهديد بفقدان حقهم في الجنسية، وهي واحدة من أخطر تبعات الحرب غير المباشرة.
واقع مرير
لم يكن أمام أم سلمى سوى غطاء قديم وقطعة صابون داخل مخيم عشوائي في أطراف المدينة. هناك وضعت طفلتها بمساعدة قابلة نازحة مثلها في غرفة من الزنك، بلا مياه نظيفة أو أدوات تعقيم. تقول وهي تحتضن صغيرتها "الطلق بدأ في نصف الليل، ولم يكن هناك وقت لنتوجه إلى أي مكان، القابلة أحضرت حقيبتها، وجاءت على ضوء الموبايل، حيث أنجبت ابنتي".
قصص كهذه تتكرر في عشرات المواقع داخل السودان، حيث غابت المستشفيات، وتحولت المنازل والملاجئ والمساجد إلى غرف ولادة اضطرارية.
في ظروف مشابهة، عملت القابلة القانونية آمنة عبدالله داخل مراكز إيواء موقتة بولاية الجزيرة بعد نزوحها من الخرطوم. تؤكد أن كثيراً من الولادات تمت بعيداً من أي إشراف طبي، وتضيف "نعمل بالإمكانات المتاحة، أحياناً نستخدم كيس نفايات معقماً كبديل للبس القفازات. لا توجد أجهزة ولا سجلات، همنا فقط أن هناك أرواحاً يجب أن نحافظ عليها".
وتابعت آمنة "أكثر ما يؤلمني ليس فقط الأخطار الصحية، بل غياب التوثيق الرسمي، في بعض الأحيان ندون بيانات الولادة في كراسة أو ورقة، لكن من دون توقيع طبيب أو ختم رسمي، وهذا أمر لا تعترف به أية جهة".
مصطفى الفاتح، طبيب ضمن فريق إغاثي يعمل في ولاية النيل الأبيض، يقول إن "غياب السجلات الرسمية يمثل أزمة مستقبلية خطرة، نستقبل أمهات وضعن في بيوت أو طرقات، ولا توجد أية أوراق تثبت ولادة الطفل. هذا يعني أنه لا يحق له التطعيم، ولن يدخل المدرسة لاحقاً، ولا يمكن إثبات جنسيته. نحن نتعامل مع جيل كامل مهدد بالضياع الإنساني والإداري".
يأتي ذلك في ظل توقف عمل مكاتب السجل المدني وانهيار مؤسسات الدولة في مناطق النزاع، إذ يولد الأطفال بلا شهادات ميلاد، مما يجعلهم قانوناً غير مرئيين. ومع استمرار الحرب، تتراكم أعدادهم في صمت، بينما تغلق أمامهم أبواب التطعيم والتعليم وحتى الاعتراف بالجنسية.
هوية مؤجلة
في معسكر النزوح بمنطقة ود مدني، تجلس نجلاء حاتم بجوار ابنها الذي تجاوز عامه الأول، لكنها حتى الآن لا تملك ما يثبت قانوناً أنه ابنها. تقول بصوت مليء بالقلق، "حتى الآن لم أستخرج له شهادة ميلاد. كل مرة أسمع أن مكتب سجلات المواليد مغلق، أو أن الملفات أحرقت، أخاف أن يأتي وقت يحرم فيه من المدرسة بسبب عدم وجود أوراق ثبوتية".
معلوم أن غياب شهادة الميلاد لا يعني فقط عدم الاعتراف بالطفل، بل يعني حرمانه من سلسلة كاملة من الحقوق، فمن دونها لا يمكن للأطفال الحصول على تطعيمات رسمية، أو دخول المدارس، أو حتى الحصول على علاج في بعض المستشفيات التي تتطلب أوراقاً رسمية.
هنا تحذر طبيبة الأطفال والناشطة في مجال حقوق الطفل تهاني الأمين، من اتساع هذه الظاهرة، قائلة "نستقبل يومياً أطفالاً من دون وثائق، مما يضعهم في خطر صحي وقانوني. فشهادة الميلاد ليست ورقة عادية، بل هي مدخل أساس لكل حقوق الطفل، من دونها يصبح وجوده محل تساؤل في النظام الإداري".
وأضافت "هناك حالات يرفض فيها تسجيل الطفل لاحقاً بسبب عدم توفر شهود أو مستندات من القابلة التي أشرفت على الولادة"، مؤكدة "إذا استمر هذا الوضع سنواجه أزمة وطنية في تصنيف جيل كامل من الأطفال كمجهولي هوية على رغم أنهم أبناء هذه الأرض، ففي ظل تهاوي مؤسسات الدولة يبدو أن الورقة التي توثق الميلاد باتت رفاهية لا يملكها كثر. ومع مرور الوقت يتحول الغياب الموقت للهوية إلى مشكلة دائمة تلاحق الطفل مدى الحياة".
تعليم مؤجل
في أول يوم دراسي بمخيم النازحين في سنار، تجمع الأطفال بأزيائهم البسيطة وحماسهم الطفولي، لكن آدم ذا الأعوام الخمسة بقي واقفاً على الهامش. والدته حاولت إلحاقه بالمدرسة الموقتة، لكن إدارة المدرسة طلبت منها شهادة الميلاد. تقول وهي تكتم دمعتها "قالوا لي إنه من دون وثائق لن يستطيعوا تسجيل اسمه، وأنا في الأصل لم أتمكن من استخراج شهادة له، فقد ولدته في منزلنا أثناء القصف".
أصبح غياب الأوراق الثبوتية عائقاً أمام أبسط الحقوق، كالدخول إلى صف دراسي، أو تسلم كتب مدرسية. ومعظم المدارس التي تعمل بدعم من منظمات إغاثية تعتمد على قاعدة بيانات لتفادي التكرار أو التلاعب، وهو ما يصعب تطبيقه في حالات الأطفال غير المسجلين.
توضح سمية محمد أحمد، مديرة مدرسة موقتة بأحد مراكز الإيواء "نحاول أن نكون مرنين، لكن المنظمات الممولة تشترط وجود بيانات رسمية. بعض الأطفال نحفظ أسماءهم في دفاتر خارجية، لكنه ليس حلاً دائماً، ولا يضمن استمرارهم في الدراسة".
وأردفت "الأمر الأصعب هو أن الطفل نفسه يتساءل: لماذا لا أملك اسماً في السجلات؟ ولماذا لم يوزع عليَّ كراس دراسي؟ هنا تبدأ التأثيرات النفسية التي لا يمكن تجاهلها".
ما بعد الحرب
بعد أن تتوقف الحرب أو تهدأ شرارتها في بعض المناطق، يبدأ التحدي الأكبر لإعادة تسجيل المواليد الذين ولدوا في ظروف استثنائية. في هذا السياق يوضح المستشار القانوني في مصلحة الأحوال المدنية محمد بابكر، أن "الأزمة ليست فقط في غياب شهادات الميلاد، بل في فقدان الوثائق الأصلية أو شهادات القابلات التي تثبت الولادة، فالتسجيل بأثر رجعي يتطلب شهادات طبية أو شهوداً، وفي كثير من الأحيان لا توجد هذه الأدلة".
ويشير بابكر إلى أن الإجراءات القانونية معقدة، وتتطلب التنسيق بين جهات حكومية عدة، كذلك فإن ضعف البنية التحتية والخدمات في المناطق المتأثرة بالحرب يزيد الأمر تعقيداً. مستطرداً "لدينا مبادرات لتبسيط الإجراءات وإصدار شهادات ميلاد بديلة، لكن الوصول إلى المناطق النائية أو التي تعرضت لدمار كبير ما زال عقبة رئيسة".
من جانبها، تقول منسقة برنامج توثيق الأطفال في إحدى المنظمات الإنسانية سامية عبدالرحمن "إن الحل يبدأ من الدعم الحكومي والتعاون مع المجتمع المدني، ولا بد من حملات توعية وتسهيل طرق التسجيل، إضافة إلى اعتماد سجلات بديلة مثل شهادات القابلات أو تسجيلات المراكز الطبية الميدانية، فلا يمكن ترك هذه القضية عالقة لأنها تمس مستقبل آلاف الأطفال".
وتضيف "الحرب قد تنتهي، لكن تبعاتها ستكون مستمرة، فكثير من أبناء هذا الوطن الجريح بلا هويات ويواجهون أخطار التهميش والحرمان من أبسط حقوقهم، لذا فإن استعادة الهوية لهم ليست فقط قضية قانونية، بل خطوة نحو استعادة كرامتهم ووجودهم في المجتمع".