بدأت الموجة الثانية من الغارات الجوية الإسرائيلية على طهران مع غروب أمس الجمعة الموافق للـ13 من يونيو/ حزيران الجاري، واستمرت حتى ساعات فجر اليوم السبت على فترات متقطعة، فمنذ الساعة الـ11 ليلاً تقريباً وحتى الرابعة فجراً، شهدت العاصمة الإيرانية استنفاراً واسعاً في أنظمة الدفاع الجوي، إذ تحولت سماء طهران من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها إلى مسرح لعمليات دفاعية مكثفة.
في هذه الأثناء، دوى صوت محركات الطائرات المسيرة الحربية المهاجمة بصورة مستمرة في أرجاء العاصمة طهران، مما زاد من حال التوتر والقلق في أنحاء المدينة، ووفقاً لمصادر محلية، فإن هذه المسيرات تعود لإسرائيل، وهو ما يشير إلى تحول واضح في التكتيك الإسرائيلي خلال الجولة الثانية من الهجمات، حيث ركز الجيش الإسرائيلي على استخدام الطائرات دون طيار بصورة واسعة وغير مسبوقة في الهجوم على إيران.
وأفادت مصادر محلية والكثير من مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي، بوقوع انفجارات عدة في مناطق مختلفة من العاصمة الإيرانية، من بينها مطار "مهرآباد" الدولي وحي "یافت آباد" وحي "حکیمیة" و"شارع معلم" وسط العاصمة طهران، وتشير التقارير أيضاً إلى أن المقاتلات الإسرائيلية اخترقت الأجواء الإيرانية فجر اليوم، في تصعيد نوعي للهجمات الجوية المستمرة منذ فجر أمس.
وأما شارع باستور في طهران إضافة إلى كونه المقر الرئيس للمرشد علي خامنئي، فيضم أيضاً عدداً من المؤسسات السيادية في البلاد، بما في ذلك مبنى الرئاسة، وفي وقت سابق، عقب مقتل إسماعيل هنية في طهران، كُشف عن وجود مقر إقامة فائق السرية وشديد الحراسة للمرشد خامنئي يقع خارج نطاق منطقة باستور، يُستخدم كملاذ احتياطي في حالات الطوارئ.
وفي الوقت نفسه، ذكرت بعض المصادر الإسرائيلية أن تل أبيب تعتزم، رداً على الهجمات الصاروخية الإيرانية التي استهدفت مناطق مدنية في العمق الإسرائيلي، توجيه ضربات مباشرة إلى قادة النظام وقصف البنى التحتية لقطاعَي النفط والغاز في إيران، وزادت هذه التهديدات من احتمالات شن هجوم مباشر على المناطق المحصنة التي تؤوي كبار المسؤولين السياسيين في إيران.
وفي وسط طهران، إضافة إلى شارعي "انقلاب" و"پاستور"، شهدت مناطق مثل "منیریة" و"ولي عصر" و"كيشا" و"شريعتي" و"یافت آباد" و"أمير آباد"، تحليق طائرات مسيرة حربية إسرائيلية ونشاطاً لأنظمة الدفاع الجوي الإيرانية. وأفاد مستخدمو شبكات التواصل الاجتماعي بدوي صفارات الإنذار باستمرار وسماع إطلاق نار من المضادات الأرضية في هذه الأحياء.
ويبدو أن الجولة الأولى من الهجمات الإسرائيلية كانت قد ركزت على تصفية القادة العسكريين الكبار والخبراء النوويين، في حين أن الموجة الثانية استهدفت طيفاً أوسع من الأهداف، إذ شملت مراكز الرادار والدفاع الجوي والمعسكرات والمناطق الصناعية ومستودعات الأسلحة ومراكز الأبحاث العسكرية والنووية، مما يشير إلى توسيع نطاق العمليات بصورة منهجية ومدروسة من قبل الجيش الإسرائيلي.
ويرجَّح أن يكون أحد الانفجارات التي تم الإبلاغ عنها في شارع "معلم"، قرب شارع "شريعتي" وسط طهران، مرتبطاً بالهجوم على قاعدة "ولي عصر" العسكرية أو مبنى هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية، وأشير أيضاً في عدد من التقارير إلى أن المجمع العسكري الواقع في ميدان "سباه"، الذي يضم مقار إدارية تابعة للحرس الثوري، كان من بين الأهداف التي طاولتها الهجمات الإسرائيلية.
أهداف الجولة الثانية من الهجمات الإسرائيلية
يعود تركيز نشاط أنظمة الدفاع الجوي في وسط طهران إلى وجود مراكز الأبحاث ومنظومة الدفاع الجوي المعروفة بمنظومة "عباس آباد" للدفاعات الجوية في هذه المنطقة، كما تضم منطقة وسط طهران عدداً من المباني الرئيسة التابعة لمنظمة الطاقة الذرية ووزارة الدفاع والمؤسسات العسكرية الإيرانية، التي تنتشر في جميع أنحاء مركز المدينة.
وفي غرب طهران، عززت سلسلة انفجارات وقعت قرب مطار "مهر آباد" الدولي الشكوك حول استهداف حظائر الطائرات العسكرية، ووصف سكان مدينة "أكباتان" شدة الانفجارات بأنها عنيفة للغاية، كما أن طبيعة التفجيرات وتعددها يشيران إلى أن مستودعات الأسلحة التابعة لمطار "مهر آباد" الدولي كانت من أبرز أهداف الهجمات الإسرائيلية.
وفي هذا الخصوص، أثيرت احتمالات حول استهداف محتمل لقاعدة "محمد رسول الله" العسكرية في طهران، حيث أفاد عدد من السكان القاطنين قرب الموقع برؤية سحب كثيفة من الدخان تتصاعد في سماء المنطقة، كما أظهرت مقاطع مصورة نُشرت على مواقع التواصل الاجتماعي انفجاراً عنيفاً آخر في منطقة "يافت آباد" جنوب غربي العاصمة، وهي منطقة تضم مجمعات صناعية ومصانع لتصنيع القطع العسكرية، تابعة للحرس الثوري.
وفي شرق طهران، عكست كثافة الهجمات طبيعة الاستهداف المنظم لمنظومات الرادار والقواعد الدفاعية والثكنات العسكرية، إذ شهدت مناطق مثل شارعَي "نيروي هوايي" و"بيروزي"، تعرضت لهجمات متكررة منذ مساء أمس حتى فجر اليوم، ضربات يُعتقد أنها استهدفت مقرات سكن عدد من قادة "الحرس الثوري" والجيش الإيراني، وأفاد سكان حي "بيروزي" بسماع دوي انفجارات قرب أحد المباني التابعة لقيادة "الحرس".
وتعتبر قاعدة "دوشان تبه" العسكرية، وهي من أقدم القواعد العسكرية في إيران وتضم منظومات دفاع جوي ومعدات رادارية وحظائر تدريب ولوجستيات، من أبرز الأهداف خلال فجر اليوم، وكانت القاعدة قد شهدت في وقت سابق من مساء أمس نشاطاً دفاعياً متكرراً، ومع ذلك، لا يزال من غير الواضح ما إذا كان الدخان المتصاعد من محيطها ناجماً عن أضرار مباشرة أم لا.
وفي منطقة "حكيمية" شرق طهران، أفاد شهود بسماع دوي انفجارات يُعتقد أنها استهدفت مراكز لإنتاج الطائرات المسيرة ومعاهد أبحاث تابعة للصناعات الدفاعية، ومنشآت عسكرية أخرى تابعة لوزارة الدفاع الإيرانية، ونظراً إلى قرب منطقة "حكيمية" من منطقة "خجير" التي تضم مواقع عسكرية حساسة، لا يزال من غير المؤكد حتى الآن أي من هذه الأهداف تعرض للهجوم بصورة مباشرة.
وبحسب السكان المحليين، كان الدخان المتصاعد من محيط منشآت الصناعات الدفاعية، وتحديداً مجمع "سبهر" التابع لوزارة الدفاع الإيرانية، واضحاً للعيان، مما يرجح أن هذا المجمع كان أحد الأهداف المباشرة للهجمات الإسرائيلية.
ونظراً إلى تنوع المراكز العسكرية في منطقة شرق طهران واحتوائها على مستودعات أسلحة تحت الأرض، شكلت في الماضي هدفاً لهجمات إسرائيلية، ويعد الانفجار الذي وقع في أنفاق "خجير" تحت الأرض من أبرز تلك الحوادث، واتُهمت إسرائيل بالضلوع فيها.
وفي غرب طهران، شهدت منطقة "چيتكر" سلسلة انفجارات منذ عصر أمس وحتى فجر اليوم، وبحسب مصادر محلية فإن الهجمات في هذه المنطقة لا تزال مستمرة، حيث سُمع دوي انفجارات جديدة في الساعات الأولى من صباح اليوم، وأفادت تقارير بوقوع انفجار وانبعاث دخان كثيف قرب برج الاتصالات في منطقة "ورد آورد"، مما يرجح أن يكون هذا البرج من بين الأهداف المحتملة في الموجة الثانية من الهجمات الإسرائيلية على غرب طهران.
استهداف المناطق السكنية ذات الطابع العسكري
وتعد المدينة الصناعية "چهاردانگه" الواقعة في منطقة "إسلام شهر" من المناطق الأخرى التي نُشرت منها صور تظهر تصاعد الدخان من مجمعات المخازن التابعة للحرس الثوري الإيراني.
مع ذلك، لم يؤكد أي من المسؤولين الحكوميين الإيرانيين حتى الآن وقوع هجوم على هذه المدينة الصناعية، وفي الوقت نفسه، تداولت شبكات التواصل الاجتماعي الليلة الماضية تقارير تفيد باحتمال تنفيذ هجمات إسرائيلية جديدة على المناطق الشمالية من طهران، وهي هجمات يرجَح أنها جاءت على غرار الهجمات التي نُفذت فجر أمس، بهدف استهداف دقيق لمواقع إقامة قادة ومسؤولين عسكريين رفيعي المستوى في النظام الإيراني.
وظهرت ادعاءات على وسائل التواصل الاجتماعي في شأن استهداف مكاتب تابعة لـ"فيلق القدس" في المناطق الشمالية من طهران، بما في ذلك مناطق "فرمانية" و"اقدسية" و"دار آباد". ومع ذلك، وحتى لحظة إعداد هذا التقرير، لم تتوفر أي أدلة رسمية تؤكد هذه الادعاءات، إذ أفاد سكان بسماع دوي انفجارات عدة في تلك المناطق، لكن لم يتضح بعد ما إذا كانت هذه الانفجارات قد استهدفت أهدافاً محددة، أو ما هو حجم الأضرار التي أحدثتها هذه الهجمات الإسرائيلية.
ووفقاً لآراء المختصين والخبراء، ما يميز موجة الهجمات التي نفذت صباح اليوم عن الموجة الأولى ليس توسع الرقعة الجغرافية وحسب، بل أيضاً تنوع الأهداف التي يبدو أنها أُدرجت في قاعدة بيانات الهجمات الإسرائيلية.
هذه الأهداف تجاوزت التصفية الجسدية للقادة والخبراء النوويين لتشمل البنى التحتية العسكرية ومحطات الطاقة ومستودعات الأسلحة.
على رغم أن الجولة الأولى كانت قد ركزت بصورة رئيسة على تصفية شخصيات عسكرية محددة، فإن اتساع الهجمات الأخيرة في مختلف أنحاء طهران يدل على أن نطاق الأهداف كان أوسع وأكثر انتشاراً في التخطيط والتنفيذ.
وفي هذا السياق، شهدت مناطق سكنية، تُعرف بأنها مساكن لكبار الضباط والخبراء الذين يعملون في مجالات الدفاع والطاقة النووية، أوضاعاً شبيهة بالحرب، فقد كانت الأحياء السكنية العسكرية مثل "شهيد چمران" في "نو بنياد" و"نارمك" ومدينة "شهيد محالي" وحي الأساتذة في ميدان "كتاب" في منطقة "سعادت آباد" وبرج "کوه نور" في منطقة "فرمانية" والأبراج السكنية التابعة للحرس الثوري في مدينة "خرازي جيتكر"، وكذلك مبانٍ في شارع "ستارخان" ومحيط ميدان "ونك"، من بين المواقع التي تعرضت للهجمات الإسرائيلية أو كانت عرضةً لأن تكون أهدافاً محتملة.
ومن بين القضايا الأكثر إثارةً للجدل، انفجار برج "جهان كودك" في طهران، وهو مبنى تُنسب ملكيته إلى بابك زنجاني، رجل الأعمال المعتقل المحسوب على الحرس الثوري، وتشير بعض التكهنات إلى أن وجود أحد قادة الحرس الثوري الذي قُتل في الطوابق العليا من هذا البرج قد يكون السبب وراء الهجوم الصاروخي.
ووفقاً للإحصاءات الأولية التي نشرتها وسائل الإعلام الرسمية، قُتل حتى الآن ما لا يقل عن 78 شخصاً وأصيب أكثر من 329 آخرين جراء الهجمات الإسرائيلية، إذ أعلنت هيئة الإذاعة والتلفزيون أن هجوماً استهدف أحد المباني السكنية في مجمع "شهيد تشمران" بمنطقة "نو بنياد"، مما أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 60 شخصاً، من بينهم 20 طفلاً، إلا أنه لم تؤكد مصادر مستقلة هذا الخبر بعد.
وفي الساعات الأولى من فجر اليوم، تحولت سماء طهران إلى ساحة حرب حقيقية بفعل النشاط المكثف والمتواصل لأنظمة الدفاع الجوي في المدينة، وأعاد دوي إطلاق النار المستمر وتحليق الطائرات المسيرة ودوي صفارات الإنذار وتداول صور الانفجارات في مختلف أرجاء العاصمة، إلى الأذهان ذكريات ثمانينيات القرن الماضي، إذ قُصفت طهران بالصواريخ خلال الحرب الإيرانية-العراقية، في ليلة تحولت إلى واحدة من أكثر الليالي رعباً في العقود الماضية بالنسبة إلى آلاف السكان في العاصمة طهران.