في ظل التصعيد غير المسبوق للحرب الدائرة بين إيران وإسرائيل، بات من الضروري على العرب اليوم التوقف الجاد أمام الذات، وإعادة النظر في موقعهم ومصيرهم في هذه المنطقة المتشابكة.
فالمعادلة أصبحت أكثر خطورة من ذي قبل، والمشهد الإقليمي ينذر بتحولات كبرى سيكون العرب الخاسر الأكبر، إن انتصر أحد أطراف الصراع انتصارا حاسما وناجزا.
لم يعد السؤال الأهم: ما أثر هذه الحرب؟ أو إلى أي طرف يجب أن ننحاز؟ فالحقيقة المؤلمة أن العرب في معظمهم ضحايا بالفعل، لا أطرافا فاعلة، وأن الأثر سيطالهم بقوة، مهما كانت نتيجة المواجهة ، ما يجب أن يشغلنا اليوم هو سؤال النجاة: كيف نحمي أنفسنا؟
في ظل واقع هش يتسم بالتهشيم السياسي والانقسامات الداخلية، لا تكفي الإدانة ولا الحياد السلبي، بل المطلوب إجراءات عربية سريعة واستثنائية تعيد ترميم الجبهة الداخلية، وتفعل أدوات السيادة والقدرة.
هذا التهديد المباشر يتطلب تحركا عربيا شجاعا على مستويين رئيسيين:
أولا: التصالح مع الشعوب: لا يمكن الحديث عن أي مشروع نهضوي أو تحصين داخلي دون استعادة الثقة بين الدولة والمجتمع. لا بد من بناء فضاء مدني حر، قادر على استيعاب الطاقات وتفعيلها، ودعم الاستقرار من الداخل. إنَّ الشعوب هي خط الدفاع الأول، وأي قطيعة معها تعني هشاشة استراتيجية في مواجهة المتغيرات الإقليمية.
ثانيا: بناء تحالفات سياسية وعسكرية واقعية: في لحظة "تكوّن أو لا تكون"، لا يمكن للدول العربية أن تبقى رهينة الحسابات الضيقة أو الأحقاد القديمة. ثمة حاجة ماسة لتحالفات مرنة تقوم على الحد الأدنى من التفاهمات والمصالح المشتركة، بدلا من الانقسامات المدمّرة.
ما نشهده اليوم من تفاوت صارخ بين دول مستقرة وأخرى غارقة في الفوضى لن يدوم طويلا ، إذ أن استمرار هذا التفاوت سيصبح أمرًا من الماضي إن لم نبادر إلى تدارك اللحظة، ونتعاضد وفق مشروع سياسي عربي جامع. فالغرب لا ينظر إلى المنطقة بعين الشفقة أو المصلحة المشتركة، بل يسيل لعابه للعب دور الراعي الجديد لإعادة الإعمار، لا لوجه الله، بل للاستثمار في الخراب الذي ساهم في صنعه.
إن لم تُبادر دول الإقليم إلى بناء رؤية تكاملية تقوم على المصالح المشتركة والسيادة المتوازنة، فستفرض عليها مشاريع إعادة هندسة من الخارج، لا تراعي إلا ما يخدم مصالح القوى الكبرى.
إن إعادة بناء المجتمع العربي تبدأ من إعادة تأسيسه مدنيًا وتعليميًا وديمقراطيًا. فالتفوق لا يكون بالقوة وحدها، ولا بالشعارات الكبرى، بل يبدأ من احترام الإنسان وتسليحه بالمعرفة والعقل النقدي.
ما نشاهده اليوم في إيران – من تغول الاستبداد، وهيمنة الخرافة، واستسهال إصدار أحكام الإعدام، والاستعلاء الديني باسم الطائفة أو الولاية – يجب أن يكون عظةً لا يُغفلها العقل العربي، لا تقليدًا يُغري بعض النخب المتصدرة.
الذات العربية تملك من العراقة الحضارية، والتجربة التاريخية، ما يؤهلها لبناء مشروع نهضة حقيقي يقوم على قيم الحرية، والكرامة، والمعرفة، لا على الهويات المغلقة أو الاستبداد المقنّع بشعارات دينية.
لقد مرت دول كثيرة عبر التاريخ بظروف مماثلة من الانقسام، والتفاوت بين الاستقرار والانهيار، لكن بعضها استطاع أن يتحول من ساحة صراع إلى مركز نفوذ، بفضل قرارات سيادية جريئة ومشاريع سياسية وطنية جامعة:
ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية كانت نموذجا للدمار الكامل، لكنها بفضل مشروع وطني لإعادة البناء، ودعم مدروس من الحلفاء الغربيين، تحولت إلى قوة اقتصادية وسياسية في أوروبا.
تركيا بعد انهيار الخلافة العثمانية واجهت حربا أهلية، واحتلالا اجنبيا ، لكنها اختارت طريق السيادة عبر بناء دولة قومية قوية بقيادة كمال أتاتورك.
رواندا بعد الإبادة الجماعية عام 1994 مثال حي على قدرة المجتمعات على تجاوز جراحها، إذ اختارت التصالح الوطني، والعدالة الانتقالية، وبنت نموذجا استقرارا في قلب إفريقيا.
في المقابل، دول مثل لبنان وليبيا، ورغم تشابه التحديات، لم تنجح حتى الآن في بناء عقد اجتماعي جامع، فظلت مرهونة بالتدخلات الخارجية والتفكك الداخلي.
منذ نهاية عصر التنظيمات العثمانية وبداية الاستعمار الأوروبي، والعالم العربي يعيش تحت سياط الخارج، ويعاني من جلد الداخل، الاستقطاب الإقليمي والتدمير الممنهج لم يتوقفا، بل تفاقما مع غياب مشروع ذاتي جامع.
لقد آن الأوان للنظر بعين المسؤولية، لا بعين المكابرة أو الاصطفاف. يجب ترتيب الأولويات وفق مبدأ البقاء لا السيادة، فالمرحلة تجاوزت التنافس على النفوذ، لتصل إلى لحظة مصيرية: من ينجو ومن يُستبعد.
(من صفحة الكاتب في فيس بوك)