30 يونيو 2025
29 يونيو 2025
يمن فريدم-أحمد الأغبري


ما أن تُذكر يافع في اليمن إلا ويذكر معها الشعر والغناء بالتوازي مع سيرة الفن؛ وهذه الأخيرة، على ما فيها من تنوع وتفرد، تبرز العمارة عنوانًا عريضًا لمتنها الفني الجمالي والحضاري؛ بل إن العمارة الحجرية تتجلى كفصٍ في تاج الفنون اليافعية، وفصلًا خاصًا في سِفر العمارة اليمنيّة.

ويافع هو اسم قبيلة قحطانية من حِميَر، وتتموضع في جنوب اليمن، وتتميز المنطقة بتنوع تضاريسها شديدة الوعورة، وتمثل تقريبًا وفق عبداللاه الضباعي في كتابه "الحياة الاجتماعية ومظاهر الحضارة في سرو حمير- يافع"، نموذجًا مصغرًا لسطح اليمن العام.

تعتبر يافع من المناطق التاريخية في اليمن، ومن أهم وجهات ثقافته وتراثه، وتنقسم إدارياً إلى ثمان مديريات؛ أربع مديريات في محافظة لحج هي: لبعوس، المفلحي، يهر، الحد. وأربع مديريات في محافظة أبين هي: جعار، رصد، سرار، سَبَاح، أما حدودها الجغرافية فتجاورها شمالاً محافظة البيضاء بامتداد مديرية الحد يافع، وتحدها من الشرق بلاد العواذل، وجنوباً بلاد الفضلي، ومن الغرب الشُعيب وحالمين، وأجزاء من بلاد ردفان.

علي صالح الخلاقي، أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية، وهو باحث مهتم بالتاريخ والتراث، وله عديد من المؤلفات، منها كتاب “فنون العمارة الحجرية في يافع"، يقول عن الاسم: "يافع اسم ذو دلالتين: فهو يدل على يافع المنطقة ويافع القبيلة، وتُنسب إلى يافع بن قاول بن زيد بن ناعتة بن شراحيل بن الحارث بن زيد بن يريم ذي رُعين الأكبر. ورغم اختلاف تسلسل وترتيب بعض الأسماء لدى النسابين، زيادة أو نقصاناً؛ إلاَّ أنهم يتفقون في نسب يافع إلى رُعين، وصولاً إلى حِمْيَر بن سبأ".

يمثل التاريخ مسارًا يضيء خصوصية المكان، هنا يتحدث الخلاقي عن أهم المحطات في تاريخ يافع، ويقول لـ"القدس العربي": "عُرفت يافع في التاريخ القديم باسم دهس أو دهسم، كما جاء في نقش النصر، الذي سجله الملك اليمني كرب آل وتر في القرن السابع ق.م. وذكر فيه جبل العر وهجر علت، وجبل ثمر ضمن المناطق التي احتلها في دهس يافع، وهي مواضع ما تزال تحتفظ بنفس الأسماء إلى اليوم. وتدل الآثار التي تم العثور عليها في يافع على أنها عُرفت النشاط الإنساني والحضاري في وقت مبكر من تاريخ اليمن القديم".

وأضاف: "ويستفاد من الهَمَدَاني في كتابيه (الإكليل) و(صفة جزيرة العرب) أن أرض حِمير الأصل هي سَرْو حِمْيَرْ، وقلب سَرْو حِمْيَر هي بلاد يافع. ويرى جواد علي المختص في تاريخ العرب قبل الإسلام أن يافع تشكل المسكن القديم للحِميريين، وذلك قبل نزوحهم منها إلى مواطنهم الجديدة قبل القرن الأول قبل الميلاد. وحينما بدأت الدعوة الإسلامية سارع اليمنيون إلى اعتناقها ونصرة الرسول ودعوته الخالدة، وكان زُرعة بن سيف بن ذي يزن أول ملوك حِمْيَر إسلاماً، وهو نجل الملك سيف بن ذي يزن، وكان معه لما بَشَّرَ سيفُ عبد المطلبَ بن هاشم بالنبي محمد، ثم صار زُرعة ملكاً لمخاليف ومناطق أبين والصعيد ويافع وغيرها من مناطق سرو حِمْيَر".

وأردف:"وكانت قبيلة يافع من أهم القبائل الحِمْيَريّة اليمنية التي هبت لنداء الإسلام، وقد أنضم اليافعيون إلى جيوش الفتح في عهد عمر بن الخطاب، بعد أن تشربوا مبادئ الإسلام مع إخوانهم اليمنيين، وكانوا في طليعة الجيوش الإسلامية الفاتحة للشام ومصر. في ظل الدولة الإسلامية الموحدة قُسمت اليمن إلى ثلاثة أقسام إدارية (مخاليف)، وكانت يافع تنتمي إلى أكبر تلك المخاليف، وهو مخلاف الجند الذي يضم تهامة وعدن وأبين أيضاً. وفي الفترة التي ضعفت فيها دولة الخلافة الإسلامية، وشهد فيها اليمن ظهور عدد من الدول المستقلة، لعبت يافع دوراً سياسياً مهماً في معظم تلك الدول، ومنها دولة علي بن الفضل والدولة الرسولية والدولة الطاهرية. ومع تفكك ونهاية آخر تلك الدول الطاهرية ظهر نظام السلطنة، كقمة هرم للنظام القبلي التقليدي في يافع، ويبدو أنها كانت استمراراً لتاريخ محلي اتَّسَم بالنزوع إلى الاستقلال وعدم الخضوع لأي سلطة مركزية".

المعالم الحضارية

ماذا عن خصائص يافع الحضارية التي تميزها عن سائر مناطق الحضارة اليمنية، وهنا يقول الباحث الخلاقي: "تتميز يافع بالعديد من المعالم الحضارية التي ما زالت شواهدها باقية، ومن أهم المواقع الأثرية المكتشفة خربة هديم وديم في قطنان بمديرية الحد-يافع، التي اكتشفت بالصدفة مطلع الثمانينيات من القرن الماضي أثناء حفر ونبش المواطنين لأحجارها بغرض الاستفادة منها في البناء. أخذ أبناء القرى المجاورة لهذه الخرائب، وبدون وعي منهم، أحجاراً كثيرة منها، لبناء منازلهم. وفي مسجد بني بكر القديم يوجد حجر عليه نقوش حِمْيَرية فوق مدخل بابه المشرف على فناء المسجد، والمؤدي إلى قاعة الصلاة الداخلية، التي تستند إلى دعامات حجرية، يقال إنها أخُذت، أيضاً، من مواقع أثرية قديمة. وكذلك حال النقش الحجري الموجود في مسجد قرية الديوان – لبعوس، وهناك العشرات من الخرائب التي تنتشر في مناطق يافع، وفي الكثير منها نقوش حِميَرية محفورة في الصخور".

العمارة الحجرية

تتجلى العمارة أحد أبرز معالم الحضارة في يافع؛ وتمثل العمارة الحجرية واجهة مشرقة تُعيد الاعتبار لعلاقة سكان يافع بتراثهم وثقافتهم، على الرغم مما صار يتهدد هذا النمط المعماري هناك.

يقول الباحث الخلاقي: "مما لا شك فيه أن العمارة اليافعية الفريدة تضرب بجذورها في أعماق التاريخ، ولها امتدادها المرتبط بالحضارة الحِمْيَرية المزدهرة، خاصة إذا ما عرفنا أن يافع هي قلب المنطقة المعروفة تاريخيًا بسرو حِمْيَر، وهي منطقة جبلية توجد فيها مختلف أنواع الأحجار الصالحة للبناء وللنحت، ولهذا شيّد اليافعيون بفضل مهاراتهم الكثير من الدور والقصور والسدود وغيرها من المباني العامة، وما زالت آثارها باقية حتى يومنا هذا كشاهد على حضارة عريقة. وما زالوا حتى اليوم يبنون بيوتهم وقصورهم الحجرية المرتفعة السامقة، كما كان يفعل أسلافهم منذ غابر الزمن، وما كان بوسعهم ذلك لولا وجود المواد الصالحة للبناء، التي تستطيع البقاء ومقاومة الطبيعة أمدًا طويلاً. وقد ساعدت طبيعة المنطقة الجبلية في نحت الحجر وقطعه وصقله وتكييفه بالشكل المطلوب".

التراكم والمزج بين القديم والحديث

يمثل التراكم الفني والإبداعي في نُظم العمارة اليافعية محطة هامة نستكشف من خلالها كيف تطورت. يقول علي الخلاقي: "إن فرادة العمارة اليافعية وروعة أسلوب البناء وارتفاع البنايات الحجرية الضخمة، بما فيها من زخارف ونقوش خارجية وداخلية ثرية، وطراز معماري خاص لا مثيل له، هي دون شك محصلة تراكمية لحضارة حِمْيَر العريقة التي ما زالت شواهدها باقية في الكثير من الخرائب التي تعود إلى قرون طويلة، وقد حافظ اليافعيون على تقاليدهم المعمارية حتى اليوم في طراز أبنيتهم الرائعة. واليافعيون بفطرتهم وحسّهم المرهف للجمال أبدعوا العديد من الزخارف المكملة للبناء، والناظر إلى حصونهم الشاهقة من الوهلة الأولى، تأسره وتخلب لُبّه تلك اللمسات الإبداعية الأخّاذة في فنون العمارة اليافعية، التي تستشف ببساطة من مقاييسها الدقيقة، وتناسقها العجيب في الزوايا والمقاطع المختلفة في مكونات البناء، إضافة إلى ذلك الاستعراض الممتع لشتى فنون الزخرفة والنقوش، الذي تزدان به واجهات بيوتهم من الداخل والخارج والتي حوّلتها إلى تحف فنية رائعة وجذابة، غاية في الروعة والإتقان".

وعما وصلت إليه العمارة الحجرية اليافعية يوضح: "يمكننا الحديث عن تلك القصور الحديثة التي تجمع بين الأصالة والمعاصرة، والتي تزداد أعدادها في مختلف مناطق يافع، وهي تلك المباني الحجرية الحديثة المتميزة بضخامتها وسعتها وارتفاعها وبنمطها المعماري اليافعي، بما تحمله من تطورات وتحسينات عديدة في الشكل والمضمون، منها ما هو في الجانب الوظيفي أو في تقسيم الفراغات الداخلية، مع المحافظة على أسس البناء والنمط الخارجي للمبنى، ومثلت بذلك امتداداً متطورًا للعمارة التقليدية الأصيلة، وهذا مؤشر مثير للإطمئنان، حيث نجد أن تلك العمارة الحجرية الحديثة استخدمت مواد البناء التقليدية (الحجر والأخشاب) إلى جانب مواد البناء الحديثة (الأسمنت والحديد)، وهذا النوع بدأ يحتل مكانة ملفتة للنظر، وميزته أنه زَاوَج بين الأصالة والتجديد، حيث احتفظ في هيئته الخارجية بالطراز المعماري اليافعي الأصيل، فيما أخد بمتطلبات التطور من حيث سعة المساحات المستخدمة للبناء وتقسيم الفراغات المعمارية، لتكون امتداداً لسابقاتها في العمارة التقليدية، مع اختلاف من حيث المساحة وزيادة عدد الغرف، التي تتراوح بين أربع وست وربما أكثر في كل طابق حسب إمكانية وقدرات أصحابها، وإدخال الخدمات الأخرى إسوة بالمدينة كالمياه والصرف الصحي والكهرباء، بما في ذلك المصعد الكهربائي".

يافع والعمارة اليمنيّة

من الطبيعي أن تتميز العمارة اليافعية عن غيرها من أنماط العمارة في بقية مناطق اليمن، وفي ذات الوقت لا يمكن تجاهل التداخل الذي تفرضه البيئة اليمنية الواحدة. يقول الخلاقي: "تعتبر التجمعات السكنية والقرى اليافعية بشكل عام متحفًا حياً لنمط من العمارة الحجرية الفريدة الغنية بعناصرها الجمالية والفنية، ونشير هنا إلى أن الدكتورة المهندسة سلمى سمر الدملوجي، الأستاذة المتخصصة بالعمارة الإسلامية بجامعة لندن، قد أدركت ذلك، وخلصت من خلال تخصصها في فن العمارة العربية والإسلامية إلى أن البناء في يافع يكاد يكون الأكثر تطوراً في الجزيرة العربية، كما إنه سبق غيره من حيث الهندسة المعمارية، وأصبح للهندسة البنائية بيافع محترفوها، فلهم خبرة متوارثة امتازت بجودة عالية لا تضاهى".

وأضاف:"وقد لفتت عمارة يافع الحجرية بهندستها العجيبة وبارتفاعاتها الشاهقة التي تصل إلى ستة وسبعة طوابق وبنمطها الفريد، لفتت اهتمام المتخصصين بفنون العمارة اليمنية، حيث يضعونها إلى جانب عمارة الياجور الصنعائية وعمارة الطين الحضرمية، كأنماط معمارية متميزة تزين لوحة الفن المعماري اليمني، وشواهد أثرية على حضارة الأجداد العظيمة. وتقول المهندسة المعمارية الدملوجي أن أشكال العمارة وأنماط البيوت في يافع تتميز بالثراء مثلها مثل تلك التي في مدن حضرموت، فكلا المنطقتين تتباهيان بالأبراج الحصينة أو المساكن المرتفعة المتعددة الطوابق التي ترتفع إلى سبعة أدوار، ومع ذلك فإن مواد البناء المحلية ومبادئ التصميم تختلف كليًا، بل إن تخطيط المدن في يافع أكثر صعوبة؛ لأن تجمعات البيوت مقيدة بالتضاريس الجبلية التي تفصل القرى ومجموعات البيوت والحقول والمدرجات الزراعي".

لا يبقى أي مكون انساني بعيدًا عن التأثر وامتلاك القدرة على تلقي الإضافات التي تعزز من حضوره وتكيفه من الاحتياجات الراهنة. "وقد ظلت عمارة يافع ـ والحديث للخلاقي- كياناً عضوياً مترابط الأجزاء، ينبع من وحدتها الفنية المتسقة والمتناغمة، وخلال العقدين الأخيرين ظهر خطر داهم، يتهدد هذه الوحدة العضوية بخصائها الجمالية، يتمثل بدخول المباني الإسمنتية بأشكالها المشوهة والغريبة، والتي يعتقد أصحابها – للأسف الشديد- أنها تحسينات وتحديثات، دون إدراك منهم إنهم بذلك ينفصلون عن هُويتهم التي عُرفوا بها منذ أزمنة قديمة".

تتميز العمارة اليافعية التقليدية في يافع بالبناء البرجي "المتناعم مع طبيعة المنطقة وتضاريسها الجبلية، ويرجع ذلك – في الأساس- حسب علي صالح الخلاقي – إلى تموضع القرى على الجبال والآكام القادرة على تحمل ثقل البناء المرتفع، على عكس الأماكن السهلية أو ذات التربة، فاتجهوا للبناء الرأسي لتقليص المساحة التي تحتلها البيوت، وبجانب مساكنهم جمعوا التربة الصالحة للزراعة في مدرجات جبلية أحاطوها بجدران واقية من انجراف التربة، إضافة إلى طبيعة الحياة الاجتماعية والارتباطات الأسرية، التي كانت تقوم على تجمع أفراد الأسرة الأبوية الكبيرة في بيت واحد، وتجمع في بعض الأحيان عدة أجيال: الجد والأب والأحفاد وأحفاد الأب..الخ. وربما سكن الدار الواحدة عشرات الناس. ويطلق اليافعيون على قراهم وبيوتهم الشاهقة الشوامخ، أو المصانع أو الحصون، ويتباهون بمصانعهم وحصونهم الشامخة".

ماذا عن الحجارة؟

"يستخدم اليافعيون في تشييد بيوتهم الأحجار الغرانيتية المنحوتة بألوانها المختلفة وهي تتوفر في بيئتهم المحلية بكثرة وكذا الخشب والطين. والحجر هو أهم مواد البناء، وهو يستخدم في جميع أنواع المباني السكنية وغير السكنية في يافع، بما في ذلك السقوف الحجرية المَدّ المكونة من ألواح وصفائح حجرية رفيعة تُسمى الصَّلا، تُرص متلاصقة ومتقاربة من أطرافها فوق الأخشاب. ويتم غالبا اختيار لون موحد لأحجار الواجهات، ففي البيوت الحديثة نجد أن لون الحجارة الشائع هو الرمادي المائل إلى الأزرق. أما في البيوت القديمة فتتباين ألوان الحجارة ويغلب عليها اللون الترابي الداكن الذي يحاكي لون البيئة المحيطة ويكوِّن معها وحدة متكاملة. وإلى جانب ذلك توجد بدرجة أقل واجهات تُبنى بلونين من الحجارة، الرمادية والبيضاء أو القريبة من اللون الأبيض، وتُبنى على شكل صفوف متناسقة بعضها فوق بعض".

ويضيف الخلاقي متحدثًا عن الامتداد التاريخي لهذه العمارة: "العمارة اليافعية ضاربة في القدم تعود إلى زمن استيطان الإنسان اليافعي لهذه المنطقة، بدليل وجود خرائب، وهي أطلال تجمعات سكنية قديمة انتقل منها الإنسان اليافعي إلى مناطق مجاورة مراعاة للتوسع والتطور، وتجد القرى القديمة منتشرة في قمم الجبال، وهناك الكثير من القصور القديمة التي يعود عمرها إلى ما قبل ستمئة سنة وأكثر ما زالت قائمة، ونشيد بمبادرة أهالي ذي صرأ، لترميم البيوت القديمة التي تشهد على حضارة قديمة".

ويتابع: "يمكن حصر المباني التقليدية غالبًا في يافع بثلاثة أنواع أساسية، تتخذ تصميماً تقليدياً وشكلاً موحداً، وتختلف من حيث السعة والعُرض. وهي: المبنى العادي (مربع المسقط): من أقدم أنواع عمارة يافع الحجرية، وهو النمط التقليدي الأكثر انتشاراً حتى الآن، ويتألف كل طابق فيه من غرفتين (مفرش وعِلِّيه) ومغسال وسُلَّم (دَرَج) ذو ثلاث قلبات تكون فيه الحركة شبه دائرية على رُبَّان السُّلَّم، ويتكون المبنى من عدة طوابق قد تصل إلى الخمسة أو الستة أو أكثر، وهذا يتناسب وتكاثر أفراد الأسرة الذي قد يصل عددهم إلى ثلاثين فرداً. ويُبنى هذا النوع كغيره من الأنواع الأخرى، إما في فترة زمنية واحدة، وإما في فترات زمنية مختلفة حسب مقتضيات الظروف والأحوال، ويتم التوسع المستقبلي رأسياً؛ فالأساسات تُبنى بطريقة واحدة على الجبل، سواء كان المبنى مكونا من طابق واحد أو طابقين أو ستة طوابق. فيما يشغل السلّم (الدّرج) ربع المساحة الاجمالية للطابق. ومن مآخذ هذا النوع الغالب قصوره على غرفتين (مفرش ومربعة) على الرغم من ارتفاعه الرأسي الشاهق وتعدد أدواره.

أما المبنى المُربَّع مع التطليعة فهو نفس المبنى العادي (المُرَبَّع)، وتُضاف إليه (تَطلِيعِة) تكون ملتصقة به من إحدى جهتي بوابة البيت وبطول أكبر من المفرش العادي بزيادة بضعة أمتار، وقد تستغل هذه الزيادة لعمل نافذة للتهوية والإضاءة في كل طابق. ومن الجلي أن التطليعة عبارة عن توسع إضافي تفرضه حاجة الأسرة الكبيرة لغرف إضافية تكون لصيقة بالبيت لمواجهة كثرة عدد أفراد الأسرة، وقد يقسَّم البعض (مَفرَش) التطليعة إلى غرفتين صغيرتين (مربعتين) وبينهما حمام مشترك. وتعلو طوابق التطليعة بعدد طوابق البيت، وقد لا يكون لبعضها باب خاص بها. فيما يتعلق بالمبنى العَدَيْل (مستطيل المسقط)، فهذا النوع من المباني مستطيل المسقط واسع المساحة، وجاءت تسمية هذا النوع من المباني من تصميمها المتناظر والمتماثل في (المفرشين)، فقد جمع في هندسته النمطين السابقين (المربع، والمربع مع التطليعة)، وبعدد غرف مماثلة لهما حيث يتكون من مفرشين ومربعة (عليّة). ويشمل نفس الأحواز التقليدية من مرافق ومنافع وتقسميات داخلية، وهو شكل متطور في تصميم المباني السكنية، ويمتاز بكبر مساحته نسبيًا، وارتفاع طوابقه، وقد يكون له مدخلين جانبيين إلى جانب البوابة الرئيسية، كما أنه اقتصادي من حيث تكلفة البناء، إذ يحتاج بناء المفرش الزائد فيه عن المبنى العادي إلى ثلاثة حيطان فقط، لاشتراكه مع المربعة والدرجة في حائط واحد".

تشكيلات زخرفية وتشاريف

نقف هنا عند أبرز أشكال العمارة اليافعية وأهم ملامحها. يقول الباحث علي الخلاقي: "تتشابه أشكال المباني في يافع من حيث الشكل وتختلف فقط من حيث تفاوت أحجامها وسعتها، وقد ارتبط تقسيمها الوظيفي في ضوء احتياجات الأسرة وعدد أفرادها الذين كانوا يسكنون بصورة عامة في مسكن كبير واحد يضمهم جميعا. وقد أثرت هجرة أعداد واسعة من اليافعيين إيجابًا على التوسع العمراني، الذي ازداد بشكل ملحوظ خلال العقود الماضية، حيث تعطي عائدات الهجرة زخما وقوة لاستمرار النمو والتوسع العمراني، والتنافس في بناء القصور الحديثة الضخمة والجميلة، رغم انتقال الكثيرين للإقامة والسكن في بلاد المهجر أو في المدن داخل البلاد، إلا أنهم يشيدون مساكن فخمة، لا يأتون إليها إلا نادرا في إجازاتهم فقط".

وأردف: "تتميز المباني اليافعية بتشابهها من حيث طرازها وهيئتها المعمارية، وتختلف فقط من حيث تفاوت أحجامها وسعتها، ولا شك أن من يزور يافع للمرة الأولى يصاب بالدهشة والانبهار، ويقف متعجباً حين تفاجئه لوحة معمارية فريدة بتجانسها وتماهيها من حيث لونها وشموخها مع البيئة المحلية ورواسي الجبال الشامخات. ولا شك أن مَن شاهد وعرف العمارة اليافعية، ستلصق صورتها المميزة والفريدة في ذهنه، وذلك أنها تتماثل في هيئتها المعمارية وفي ارتفاعها السامق الذي يصل إلى الخمسة والستة والسبعة طوابق، ووجود الحزام الناصع البياض الذي يلتف حول خاصرة البيت اليافعي ويفصل بين الطابق والآخر، ويعتبر علامة مميزة تبين وتميز عدد طوابق كل بيت، فضلاً عما يضفيه من طابع جمالي على هيئة ومظهر البيت اليافعي. ويتم وضع هذا الإطار الجميل عند استكمال سقف كل دور جديد، وفي الماضي، كما في البيوت الأكثر قدماً، كان هذا الحزام يوضع من تشكيلات حجرية زخرفية متنوعة الأشكال والأحجام أو من أحجار المرو البيضاء أو من خلال طلاء الحزام الفاصل بالنورة البيضاء، وكان يطلق عليه (صَفّة النُّورة)، أما الآن فيتربع الحزام الأسمنتي المطلي بالطلاء الأبيض، وقد احتل مكانته منذ أن دخل الأسمنت والطلاء إلى المنطقة في منتصف القرن الفارط. ثم تتوج البيوت الشاهقة بأكاليل تزدان بها في أعلى السطح، تُسمى (تَشَاريف- مفردها تشريفة) وهي علامة على اكتمال بنيان طوابق البيت، ولا توجد هذه التشاريف فوق البيوت التي تقل عن ثلاثة أدوار؛ لأنها تنتظر البناء فوقها في فترات لاحقة. وتتوافق العمارة اليافعية مع البيئة المحلية التي تعد الرافد والأصل الأساسي لهذا الفن المعماري، بل يجوز القول إن هذا الفن المعماري حصيلة تفاعل ذكاء الإنسان مع البيئة الطبيعية وتطويعه لها من أجل استيفاء حاجاته الجسمانية والروحية".

وأكمل:"ومما يميز العمارة اليافعية القديمة، هو النظام الدفاعي شديد الدقة، فقد اتسمت منذ القِدَم ببناء القلاع والحصون في الأماكن المرتفعة، لمراعاة الأمان؛ لأن طبيعة الحياة وقساوتها في الماضي، وأخطار الغزوات الخارجية والحروب والفتن وأخطار السيول الجارفة، جعلتهم حذرين دائماً، ومن يكون بيته في الأعلى يشعر بأمان كبير، ويمتلك أفضلية تجاه جاره الأسفل فيما إذا نشأ بينهما خلاف أو نزاع".

العمارة كملهم فني

ألهمت العمارة اليافعية التشكيلي زكي يافعي، ابن المنطقة؛ فأستنطق بعض جماليات هذه العمارة في عدد من لوحاته. يقول عن تجربته وعلاقته الإبداعية بتجسيد العمارة اليافعية: فن العمارة هو أحد أهم الفنون السبعة. ولولا هذا الفن لكان الإنسان يعيش في كهوف. وهو مرتبط بتساؤلات شغلت بال الإنسان وفكره، ثم بدأ يبحث لها عن إجابات، وكانت التجارب هي من طورت هذا الفن كأحد معالم التطور الحضاري للشعوب؛ وهذه العبقرية التي أنتجت هذا الفن هي نفسها التي ألهمت الفنان التشكيلي لإعادة تجسيد عظمتها وخصوصيتها وفرادتها، وتقديمها للمشاهد كعمل فني مواٍز لفن العمارة.

وعن الإلهام الذي يستمد منه زكي روائع لوحاته ذات العلاقة بهذه العمارة يقول: الفن الذي يسند هذه العمارة هو الذي يلهمني لإعادة تجسيده وتقديمه في أعمال فنية تحاكي الأصالة، وتبرز أهم معالم وخصائص هذه العمارة، من خلال الخطوط والألوان، التي لا تتجاهل العلاقة الوثيقة للفن بالتاريخ الحضاري للمكان.

(القدس العربي)

 

الفيس بوك
تويتر

جميع الحقوق محفوظة YemenFreedom ---- تصميم وبرمجة ALRAJIHI