تجلس أسيل على أرض خيمتها في جنوب غزة، تمد قدميها وتضع فوقهما قميصاً لابنها به فتق وممزق من ناحية اليد، على جانبها الأيسر أحضرت السيدة إبرة وخيطاً لونه أسود وأخذت تصلح الثياب التالفة في محاولة لإطالة عمر الملابس التي تلفت بسبب الحرب.
تقول أسيل "لم تعد أمامي أي حلول سوى إعادة خياطة الثياب القديمة الممزقة، أصلحها مرات عدة لتبقى مناسبة لصغاري، تحولت الإبرة والخيط إلى سلاح يساعدنا على تغطية أجسادنا بملابس لا تصلح لشيء".
إصلاح الممزق
لا تهتم أسيل لمظهر الملابس، فكل ما تريده قطعة قماش تستر بها أجساد صغارها، ولا تفعل ذلك لأنها فقيرة وحسب، بل لأن الملابس الجديدة باتت كالعملة النادرة في غزة، من الصعب العثور عليها ومن الصعب أيضاً شراؤها.
تغرز السيدة الإبرة في بنطال قديم مهترئ للغاية لا ترفع نظرها عن قطع الملابس أمامها، وتواصل حديثها مضيفة "شراء الملابس الجديدة أصبح من المستحيلات، نادراً ما تجد قطعة ثياب، وإذا وجدتها تكون أسعارها رهيبة بسبب الحرب".
لم تعد مآسي سكان غزة تقتصر على انعدام الأمان والجوع بسبب الحرب، بل تفاقمت القصص وتكالبت حتى أصبحت تشمل أدق تفاصيل الحياة اليومية ومنها الثياب، فمع اندلاع الحرب قبل 23 شهراً فرضت إسرائيل حصاراً لا مثيل له في العالم على القطاع، ومنعت إدخال معظم السلع ومنها الملابس الجاهزة، وانعكس ذلك سريعاً على حياة المتعبين من القتال.
أين الملابس؟
تعرض شذى صوراً في هاتفها الذكي لخزانة ملابسها "كانت لدي مئات القطع من الثياب، كل يوم ألبس ما يحلو لي".
تشرح الفتاة أن الحرب هي سبب عدم توفر الملابس "دمر الجيش منزلي، ودفنت خزانة ملابسي تحت الأنقاض الثقيلة، أعجز اليوم عن سحب بنطال أو قميص لي، توجهت للبحث عن ثياب جديدة ولم أجد، كل من دمر الجيش مسكنه فقد ثيابه تحت الأنقاض، والآن لا تتوفر لدينا أزياء".
من ضمن أسباب ندرة الملابس في غزة أيضاً ما مرت به شذى، تضيف "نزحت من شمال غزة نحو الجنوب ولم أصطحب معي أي ملابس، أول ما فعلته أنني نزلت للسوق لأبحث عن كسوة فلم أجد ثياباً، إن صعوبة النزوح والنقل تجعل الأشخاص يستغنون عن أساسياتهم".
اهترأت ثياب طفل داليا، ولم تصلح معها محاولات ترقيع تلك الملابس وإصلاحها، فكرت في الذهاب للسوق والبحث عن قطع من سوق البالة (الملابس المستعملة)، تقول "لم أجد إلا قطعاً محدودة أسعارها خيالية، بيجامة أطفال بسيطة مصنوعة من قماش رديء يطلب البائع مقابلها 30 دولاراً، وكانت تباع قبل الحرب بدولار فقط".
لم تشتر داليا أي ملابس، اقترحت على جاراتها عادة جديدة لمواجهة الأزمة، تشرح "صرنا نتبادل قطع الملابس بيننا نحن نسوة مخيم الإيواء، بحيث تحصل كل واحدة على ما يناسب أطفالها، لقد أصبح توفير الملابس أمراً صعباً".
تعطي داليا جارتها بنطالاً يناسب صبية بعمر 18 سنة، وتأخذ منها فستاناً لطفلة عمرها أربع سنوات، تعقب "لم أتخيل يوماً أنني سأعجز عن إيجاد ملابس لأبنائي، بات العثور على ملابس موائمة من أكثر الأمور تعقيداً".
نبش تحت الأنقاض
منذ خمسة أشهر، يغسل أسامة سترته ويرتديها مرة أخرى، يقول "نواجه حرباً بلا كساء، الثياب ممزقة وغير صالحة، حتى الإبرة والخيط ارتفع ثمنهما، منذ بدء الحرب كل شيء تغير إلا ثيابي، على إسرائيل السماح فوراً بإدخال الملابس ضمن الحاجات الإنسانية العاجلة، فمنعها يعد شكلاً من العقاب الجماعي، ويهدد كرامة الناس وصحتهم النفسية".
يتناوب أسامة مع زوجته ارتداء الملابس ذاتها في غالب الأحيان لعدم توفر ملابس كافية لهما، لكنه يخجل من تلك الحال، لذلك قرر الذهاب إلى مواقع قصفها الجيش الإسرائيلي للبحث بين الأنقاض عن أي ثياب ليسحبها من تحت الحجارة.
يوضح أنه لا يبحث عن الجديد، فقط يريد ما يستر جسده، مشيراً إلى أنه وجد بعض الثياب تناسبه وزوجته أسفل أنقاض بناية سكنية، وبعد سحبها تلف جزء منها وتمزقت ثياب أخرى، يعلق "غدت قطعة الملابس عبئاً مضاعفاً".
لجأ أسامة إلى الإبرة والخيط لترقيع ما تلف وتمزق من ملابس سحبها من تحت الأنقاض، يبين أنه يحاول إطالة عمرها في وقت تحولت أبسط متطلبات الحياة كقميص أو بنطال إلى معركة بقاء جديدة، وباتت قطعة القماش تعامل ككنز ثمين، والإبرة والخيط أصبحا رفيقين دائمين.
مصانع مدمرة
قبل الحرب لم تكن غزة بحاجة إلى استيراد الملابس، فقد كانت تضم في محافظاتها 900 مصنع للنسيج يعمل بها 35 ألف شخص، وينتجون 4 ملايين قطعة ملابس يصدر جزء منها لإسرائيل.
صحيح أن الحصار على غزة، الذي فرض عام 2007، جعل تلك الصناعة تتراجع إلى نحو 100 مصنع يعمل فيها حوالى 4 آلاف شخص وتصدر شهرياً 40 ألف قطعة ملابس إلى إسرائيل والضفة الغربية، لكن كان هناك اكتفاء ذاتي من هذه الناحية عند الغزيين.
عندما حلت الحرب، دمر القتال العسكري 79% من منشآت قطاع الملابس، وتسبب انقطاع الكهرباء في توقف المصانع مما أدى إلى شلل تام في خطوط الإنتاج المحلية، أما الاستيراد فقد أوقفته السلطات الإسرائيلية بصورة شبه كاملة بذريعة الدواعي الأمنية.
يقول المفوض العام لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) فيليب لازاريني "بعض النساء يضعن الحجاب ذاته في غزة منذ أكثر من عام، ممنوع إدخال الأغطية والملابس والأحذية إلى قطاع غزة بما يشمل حاجات الأطفال، لا يوجد أي مبرر أو ضرورة عسكرية في القانون الدولي تسمح بمنع إدخال هذه الأساسيات إلى السكان المدنيين".
تبين المعطيات الأممية أن إجمال ما دخل إلى قطاع غزة من شاحنات في الفترة الماضية لم يتجاوز ستة في المئة من الحاجات اليومية للمواطنين، وغالبية ذلك تتعلق بمواد غذائية، وما يخص الملابس والأحذية وصل إلى 0.001 في المئة، مما تسبب بأزمة حقيقية.
يقول متحدث الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي "نعمل على تهيئة المنطقة الإنسانية في جنوب القطاع، وفيها سنوفر للغزيين غالبية الحاجات، وسنعمل على إدخال مستلزمات المأوى والحياة، بما في ذلك الملابس".