أعجبتني مقولة للكاتب والباحث والصحافي اليمني عبدالفتاح الحكيمي عندما قال إن "حاجتنا إلى الحرية في اليمن تفوق حاجتنا للخبز، ونحن لا نملك أياً منهما".
هذا بالفعل حال بعض الصحافيين والكتاب اليمنيين الذين تتجاهلهم القوى التي تتقاسم البلاد ولا تهتم أو تلتفت إلا لأتباعها المخلصين أو المجندين معها، ومن ليس محسوبا على أي طرف صحيح أنه يتمتع بحرية النقد وقول الحقيقة كما يراها دون أن يجامل أحدا، لكنه في الوقت نفسه يدفع ضريبة الحفاظ على استقلاليته وعليه أن يتدبر أموره لأن الحفاظ على الاستقلال له ثمن، دون أن نغفل أن الحس الأخلاقي والوطني يقتضي من الجميع الوقوف ضد الظلم الكبير وليس هناك ما هو أظلم من الانقلاب على دولة اليمنيين وتحويلها إلى جرح مكشوف لم يندمل بفعل أطماع الأطراف التي وجدت في الفوضى القائمة بيئة للتسلط وقهر المجتمع والتحجج بالوضع العالق.
عرفت عبدالفتاح الحكيمي أثناء توليه رئاسة تحرير مجلة معين أواخر عقد التسعينيات من القرن الماضي وزرته في مكتبه، وأتذكر أنني تعاملت معه عبر الصحافي محمد أنعم ونشرت بعض الأخبار في صحيفة الوحدة عندما كان يشغل موقع نائب رئيس التحرير، وكان حينها كما هو الآن يأسرك بأخلاقه الرفيعة ونباهته وثقافته وسعة اطلاعه وانفتاحه على الجميع، وتميزه بقدرة على تكوين صلات إنسانية دافعها المعرفة والسمو إلى جانب حب الاكتشاف والفضول الصحفي والرغبة في الإحاطة بالأحداث والوجوه في فترة ما بعد وحدة مايو 1990 وكان سلاحه ووسيلته التواضع واللطف مع الجميع.
الثابت أن الحكيمي نجم في الكتابة منذ شبابه وبرز في ظلال المناضل والكاتب الراحل الأستاذ عمر الجاوي الذي بشر بولادة ناقد سيكون له شأن كبير أخذته الصحافة والانشغال بها في ذروة نشاطه خلال التسعينيات وما قبلها وما بعدها، إلى أن حل الخراب الكبير في اليمن بالانقلاب والفشل في الحفاظ على هيكل ووحدة وسلطة الدولة المركزية التي قضى عليها انقلاب جماعة صعدة وعجز وفشل وخيانات الأطراف الأخرى المناهضة "نظرياً" للانقلابيين.
وظرف ما بعد الانقلاب وربما منذ حرب صيف 1994 هو الحال الراهن والممتد الذي قضى على طموحات ومواهب واهتمامات المئات من الكتاب والمبدعين والأدباء والصحافيين والفنانين والنقاد وأساتذة الجامعات، لأن كل من ينتمي إلى النخبة في اليمن طاله من غبار المرحلة وسوادها الكثير، وبين هؤلاء الكاتب عبدالفتاح الحكيمي، إلا أنه يتحلى بشجاعة وزهد ورقي طباع ودأب ساعده كثيرا ولم يدع غبار الواقع السيىء يحجب رؤيته أو يحبطه عن السعي للإنجاز في حقول وعلوم ومجالات لم يكن أحد يتوقع أن يتجه إليها، ومنها دراسة الغطاء النباتي وتوثيق الأعشاب الطبية، وصولاً إلى إجراء بحث ميداني تحليلي حول السحر والطلاسم والعين والحسد.
كانت البدايات المبشرة لعبد الفتاح الحكيمي التي لفتت انتباه الجاوي نتاجاً طبيعياً لتكوينه الفكري المتين، إذ تشكل وعيه ضمن الجيل الذي خرج من عباءة اليسار العريق وبدأ مسيرته كواحد من الوجوه الشابة التي راهن عليها مؤسس حزب "التجمع الوحدوي اليمني"؛ الجاوي الذي كانت نظرته لا تخيب، ورأى في عبدالفتاح منذ البدايات مشروع ناقد بارز وصاحب صوت متفرد لا يتماهى مع جوقة السائد ولا يتبع إلا ضميره وحدسه.
انخرط مبكراً في العمل الصحفي، ولا سيما في الفترة الحرجة التي تلت الوحدة اليمنية مباشرة، ابتداء بتوليه موقع سكرتير تحرير صحيفة التجمع، خلال فترة ازدهرت فيها الصحافة الحزبية وتعددت المنابر مما أتاح له ولغيره إبراز ما لديهم من مواهب ورؤى. وكان محظوظا بالقرب من عمر الجاوي الاسم الذي لا يختلف اثنان على مكانته.
عايش عبدالفتاح الحكيمي عن قرب أجواء التهديد التي لاحقت الجاوي وكان شاهداً حياً على محاولات اغتياله، وشهد المخاطر التي تحيط بأصحاب الرأي في بيئة سياسية يمنية كل من وعى ظروفها ادرك أنها كانت ملغومة وتغلب عليها رائحة البارود. جعلته مشاغباته الصحفية بعد الوحدة من الأسماء المعروفة، لكن الإنجاز الأهم له هو كتابه المرجعي "النقد الأدبي والمعارك القلمية في اليمن (1932-1955)" الصادر عام 1998، وفيه يتجاوز الرصد البيبليوغرافي إلى تحليل هندسة الاستعمار البريطاني للمشهد الثقافي في عدن واستخدام الثقافة كذراع ناعمة لترسيخ النفوذ، كما وثّق "المعارك القلمية" بين تيار المحافظين والمجددين، وأبرز إرهاصات النقد المعاصر في كتابات رواد مثل لطفي أمان ومحمد علي لقمان. ورغم الجدل الذي أثاره الكتاب ، إلا أنه رسخ مكانة صاحبه كباحث لا يمكن تجاوز مرجعيته في تاريخ تلك الحقبة، وليته استمر أو ليت الظروف أتاحت له الانهماك أكثر في إنتاج أعمال أخرى على غرار ذلك الكتاب.
وبالتوازي مع جهده البحثي برز الحكيمي الصحافي الجريء والمختلف داخل محيط الصحافة الرسمية أثناء توليه رئاسة تحرير مجلة "معين" (1995-1999). نجح في انتشال المجلة من رتابة المطبوعات الحكومية وبلغت المجلة ذروتها في عهده عندما نشر افتتاحيات وتحقيقات صحفية أغضبت السلطة وتعرض على إثرها لاعتداء عنيف من قبل مجهولين في ظل تواطؤ أمني وتقييد للقضية ضد مجهول.
في محاولة لتحييده عن ممارسة الكتابة تم تعيينه في موقع إداري هو نائب رئيس مجلس إدارة مؤسسة "14 أكتوبر" وهناك اصطدمت طموحاته في تغيير نمطية الأداء بجدار البيروقراطية وحسابات أخرى للسلطة، وتمت إقالته وحرمانه من مستحقاته، ونقل عنه موقع "درج" المقولة التي بدأت بها هذا المقال: "حاجتنا إلى الحرية في اليمن تفوق حاجتنا للخبز، ونحن لا نملك أياً منهما".
أمام انسداد الأفق السياسي والصحفي فتح الحكيمي لنفسه نافذة جديدة نحو البحث العلمي الجاد، حيث أصدر أواخر العام الماضي الجزء الثاني من كتابه "دليل نباتات وأعشاب اليمن الطبية" وجاء في 435 صفحة مزودة بالصور الملونة، ونقح الجزء الأول من الكتاب بالعنوان نفسه وصدر في 753 صفحة.
ومؤخرا أصدر موسوعة ميدانية بعنوان "السحر والطلاسم والعين والحسد في اليمن". قدم فيها دراسة أنثروبولوجية تفكك خرافات الشعوذة وتخضع "التداوي بالأعشاب" للفحص العلمي، مميزاً بين الخصائص الكيميائية للنباتات وبين الدجل، ومصححاً مفاهيم مغلوطة حول "الطب النبوي".
وخلف صرامة الباحث وشراسة الصحفي، ظل يحتفظ بملاذٍ آمن لروحه؛ حيث عُرف بين المقربين عازفاً ماهراً على آلة العود، ومغنياً يمتلك صوتاً مثقفاً وإحساساً عالياً، يغسل بالموسيقى روحه ويتعالى على الواقع الذي لم يكف عن خذلانه وخذلان شعب بأكمله.
التحية للكاتب الشجاع والباحث والإنسان النبيل عبدالفتاح الحكيمي.
(من صفحة الكاتب في فيس بوك)