ونحن على مشارف ذكرى 26 سبتمبر، مهم جدا معرفة أن الأزمة في اليمن انتقلت بعد 2015 من الصراع على السلطة إلى صراع وجود بين مشروعين متناقضين: مشروع الدولة القائمة على مبدأ الجمهورية والدستور الذي ناضل اليمنيون من أجله طويلاً، مقابل مشروع جماعة تستدعي من غياهب التاريخ منطق الحكم بالحق الإلهي مثل غيرها من الجماعات السلفية مع فارق طفيف.
هي جماعة في تكوينها العقائدي ما يجعلك تستبعد كونها طرفاً موازياً في نزاع سياسي؛ لأنها تجسيد على الأرض لمفهوم "جماعة ما قبل الدولة": البنية التي تهدم أسس المجتمع، وتلغي مفهوم المواطنة، وتدفع بالبلد وناسه نحو الخراب والعزلة عبر استراتيجية ممنهجة للهروب من استحقاقات بناء الداخل إلى افتعال المعارك في الخارج.
باختصار شديد، هي قوة رجعية مسلحة هدفها تدمير الحاضر والمستقبل، وبث اليأس، وطرد السكان أو دفعهم للاستسلام والرضوخ والقبول بحياة القطيع المسير والمطيع لكل ما تقرره جماعة تقاد بمقولات لا صلة لها بالعصر ولا بتحفيز التنمية وامتلاك أسباب الحياة والكرامة الإنسانية والاستقلال، وهذه جميعها مفردات يبدأ توطينها حتى وفقاً للثقافة (القرآنية) من نص الآية: ﴿الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ﴾ (سورة قريش، الآية 4).
فيما الجماعة الباسطة نفوذها بقوة الترهيب والمزايدة على المجتمع، فإن عنوان سياستها وممارساتها في الواقع هو التجويع والإفقار والتخويف والإذلال وسلب اليمني شموخه، وربط هذه القيم بمدى الاستعداد النفسي للاستسلام التام بالتخلي عن الأهلية السياسية والحرية وتوكيل من ينوب عنه، وهو (الولي/القائد).
أرى أن الجذور الأيديولوجية للتخلف الحاصل في اليمن تعمقت بالانقلاب الذي جرى على المواطن أولاً قبل الدولة، فما حدث بعد 2015 استهدف طمس كينونة الشعب اليمني وتحويل المواطنين إلى كائنات مهمتها ترديد الشعارات التي تملى عليها.
ولفهم مدى خطورة مشروع الجماعة الانقلابية، من الطبيعي أن نحتفل ونتذكر أن 26 سبتمبر 1962 هي ثورة اليمنيين الأهم التي قضت على حكم الإمامة بعد قرون من سيطرة أيديولوجيا فقهية تأسس وجودها على الاتصال بالمقدس، وكانت تضفي على امتدادها السياسي الدنيوي هالة مسيجة بفكرة الحق الإلهي في الحكم المكتسب بالوراثة وبتوجيهات ربانية.
عادت هذه الخرافة لتجدد منطقها بشعارات ويافطات ومحاضرات وملازم هدفها محو استقلال الفرد وربطه بإرادة سلفية/شيعية، المشترك بينها وبين السلفيات الأخرى جوهري قائم على تسخيف الفرد ومنح الحق في التفكير والتوجيه لمن يعتقدون أنه يمارس مهمته بتكليف إلهي، وعند السلفية السنية القرار بيد (العلماء الربانيين وأهل الحل والعقد)، والفارق هنا ضئيل بين السلفيتين.
بصورة عامة، يقدم الانقلابيون في اليمن المشروع المعادي للمواطن على هيئة ثورة مضادة لها منطقها الرجعي الذي لا يقبل العقل السليم التعايش معه ولا مع أنصاره. فإحياء نظرية "الولاية" مصادرة للمجتمع وإلغاء تام للمواطنة، المبدأ الذي يعني المساواة بين جميع الأفراد في الحقوق والواجبات أمام القانون، وهي أيضاً عقيدة تؤسس لتمييز طبقي وعرقي يتناقض مع أبسط مفاهيم العصر، وفيها عودة صريحة لمنطق الإمامة.
"ولاية الفقيه" بنسختها اليمنية استوردت وطورت نموذج حكم هرمياً يضع "القائد" في منزلة فوق الدولة والدستور والمجتمع. وهذا الهيكل محاكاة واضحة لنموذج "ولاية الفقيه" الإيراني، حيث يقف "المرشد الأعلى" على قمة هرم السلطة.
النموذج المعتمد يلغي مؤسسات الدولة وفكرة "المؤسسة" بحد ذاتها، ويحول الدولة إلى إقطاعية خاصة تدار بإرادة فرد واحد، وهذا اغتيال مكتمل الأركان لدولة اليمنيين وإلحاقهم بفرد وجماعة مضطربة ومشوشة يحكمها الشغف بالماضي الذي لن يعود.
الممارسة على الأرض من جهة الانقلابيين الإماميين تجعلهم ينظرون إلى الدولة كغنيمة يجب السيطرة عليها وتوزيعها على الأتباع، ومنذ انقلابها عملت الجماعة بشكل منهجي على تفكيك وظيفة الدولة تجاه المجتمع عبر مسارين متوازيين: التفريغ والإحلال. تم العمل على تفريغ مؤسسات الدولة الشرعية (الجيش، والأمن، والقضاء، والخدمة المدنية) من كوادرها وقدراتها، وتحويلها إلى هياكل شكلية بلا سلطة حقيقية، وفي المقابل تم بناء "سلطة موازية" عمادها الولاء المطلق للجماعة وقائدها.
فأصبح "المشرف"، وهو فرد لا يملك أي صفة دستورية أو قانونية، هو الحاكم الفعلي في كل وزارة ومؤسسة ومحافظة، وسلطته تفوق سلطة الوزير أو المحافظ المعين شكلياً. وفي ظل هذه السلطة الموازية، تبخر مفهوم "المواطنة المتساوية"، وأصبح حصول الموظف على راتب شهري من المستحيل وعليه أن يعمل بالسخرة، كما أصبح الحصول على وظيفة أو خدمة أو حتى الأمان الشخصي شأناً غير مكفول ولا مضمون إلا للمقربين، وتمنح الامتيازات (والحقوق الطبيعية) بناءً على درجة الولاء للجماعة، أما المواطن الذي يرفض الانصياع لأيديولوجيتها فيُصنف فوراً كـ"طابور خامس" أو "مرتزق"، ويصبح مستهدفاً ومسلوب الحقوق. وبهذا تحولت العلاقة من علاقة "دولة ومواطن" إلى علاقة "سيد وتابع"، في ظل السلطة البدائية التي تتعمد مصادرة وجود المواطن وكأنه غير مرئي.
مشروع الانقلابيين في صنعاء يستهدف الدولة والمجتمع كنسيج وهوية، والكل يعرف أن بقاء الجماعة يعتمد على إعادة تشكيل المجتمع اليمني ليتوافق مع أيديولوجيتها، وفي مقدمتها إعادة إنتاج الطبقية من خلال سعي الجماعة إلى فرض فرز اجتماعي جديد ثار عليه اليمنيون في 1962، وعاد إلى الواجهة بالتنظير والممارسة، وبالقول إن هذا شأن رباني ومكسب منحه الله لطبقة من الناس! وبالتزامن مع هذا الجنون والتخلف الذي لا يستسيغه أي إنسان عاقل، تشن الجماعة حرباً على الذاكرة الوطنية اليمنية، وعلى كل ما يتعلق بثورة 26 سبتمبر 1962، وذلك عبر تغيير للمناهج الدراسية لحشوها بأفكار الجماعة، وفرض الشعارات الطائفية المستوردة، واستحداث مناسبات دخيلة على الثقافة اليمنية، بهدف تخريب الهوية الجامعة وإحلال هوية ضيقة لا تخدم وحدة المجتمع وانتمائه للعصر الحاضر بعيداً عن الخرافات المجافية للمنطق.
لدى الجماعة الانقلابية في صنعاء استراتيجية الهروب من النقاش وفتح الملفات ومواجهة الاستحقاقات عبر تصدير الأزمة، وتكريس المزيد من الفوضى والخراب، واستدعاء كل ما يربك الأوراق ويجعل الجماعة في حالة حرب (مقدسة).
ولذلك، تلجأ الجماعة التي لا تملك أي مشروع تنموي وتسببت في انهيار الخدمات وتفشي الفقر، إلى استراتيجية كلاسيكية تتبعها السلطات غير الشرعية تتمثل في انتهاج مبدأ "الهروب إلى الأمام" عبر تصدير الأزمات وافتعال المعارك الخارجية كأداة لمواصلة التسلط.
وسنرى أن انتهاج الانقلابيين لسياسة الانخراط المتعمد في صراعات إقليمية -سواء عبر استهداف دول الجوار أو عسكرة البحر الأحمر- مجرد أداة حكم داخلية؛ لأن هذه المعارك تخلق عدواً خارجياً لصرف انتباه الناس عن الجوع والفساد، وتعزز التعبئة الأيديولوجية وتجنيد المزيد من المقاتلين.
وتبقى النتيجة الحتمية هي المزيد من الخراب والفقر والعزلة، فلا مطارات، ولا سفارات، ولا منظمات دولية ولا حقوقية، ولا شهود على سرقة حاضر اليمنيين إلا الشعب المختطف في مناطق سيطرة الحوثيين.
قبل أيام، ذهب حوالي 30 صحفياً في مناطق سيطرة الجماعة ضحية هجمات إسراا ييل، وكل صحفي صدم برحيله ما لا يقل في محيطه الاجتماعي الذي يتجاوز أسرته عن 50 إلى 60 شخصاً صُدموا برحيله، وكل من يخسر حياته تعتبره الجماعة مجرد رقم، وتلزم أهله بالقول إنهم راضون ومسرورون لتقديمه قرباناً من أجل بقاء الجماعة على رأس سلطة تحارب ولا تقدر على توفير أبسط أساسيات الأمان أو حتى أدوات انتشال الضحايا من تحت أنقاض البيوت.
وهذه الاستراتيجية الانتحارية تخدم بقاء الجماعة في السلطة، وتقود اليمن نحو المزيد من الدمار الشامل: من تدمير الاقتصاد، إلى تعميق الأزمة الإنسانية، وجعل اليمن دولة منبوذة ومعزولة عن محيطها الإقليمي والعالمي.
لا يمكن فهم الجماعة الانقلابية في اليمن إلا باعتبارها حركة "مضادة" للحياة السياسية السوية، وللإنسان، وللتنمية، وللأمن داخل اليمن وفي محيطها، وهي أيضاً حالة ردة تاريخية تستدعي من الماضي مفاهيم الحق الإلهي والاصطفاء لتقويض فكرة الجمهورية والمساواة.
وهي بنية "ما قبل دولتية" تفكك مؤسسات الدولة لتحل محلها سلطة الميليشيا، وذلك يجعل خطر الجماعة يتجاوز كونها جماعة حملت السلاح؛ لأن الخطر في المشروع الأيديولوجي الذي يهدف إلى تفكيك اليمن كدولة ومجتمع، وتدمير الفكرة التي قام عليها اليمن الحديث: دولة لجميع اليمنيين، دولة مواطنة وعدل وقانون ودستور لا سيادة فيها إلا للشعب.
(من صفحة الكاتب عبر فيس بوك)