في موجة الفوضى التي عمت مدينة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور عقب سقوطها في يد قوات "الدعم السريع"، فقد أثر محمد علي، وهو شاب في الـ32 من عمره كان يعمل متطوعاً في نقل الإمدادات الطبية بين أحياء هذه المدينة المنكوبة والمحاصرة من الأخيرة لأكثر من 18 شهراً.
في يومه الأخير شوهد الشاب محمد يقود دراجته محملاً بصناديق الأدوية متجهاً نحو المستشفى الجنوبي، وذلك قبل أن تنقطع أخباره تماماً. حاول زملاؤه الوصول إليه عبر الطرق الفرعية، لكن الاشتباكات كانت قد أغلقت الممرات، بيد أن المستشفى نفسه تعرض للقصف بعد ساعات، ليصبح اسمه من بين مئات الأسماء المدونة في قائمة المفقودين التي تتناقلها الأسر في المخيمات.
مصير مجهول
تقول شقيقته هدى علي المقيمة خارج السودان "اختفاء محمد غير كل شيء في حياتنا، إذ لم يعد هناك حديث داخل بيتنا غير تناقل مأساته ومصيره المجهول، فأمي تمر بأيام لا تنطق فيها بكلمة، وأبي فقد شهيته للحياة، حتى إخوتي الصغار صاروا في حال قلق دائمة، كان محمد يساعدنا كثيراً في المسائل المعيشية، وغيابه ترك فراغاً لا يملأ، أما نفسياً فالانتظار ينهش فينا كل يوم أكثر من الذي قبله".
وأضافت علي "بعد أيام من اختفائه بدأنا نتلقى مكالمات من أرقام مجهولة يزعم أصحابها بأنهم يعرفون مكانه، ويطلبون فدية خيالية مقابل إطلاق سراحه، لكن لا دليل، ولا صوت يثبت شيئاً، فقط استغلال لمعاناتنا. نحن نعيش بين الأمل والخوف ولا نعرف إن كان الخبر كذباً أم أن خلفه حقيقة مؤلمة".
وعن محاولاتهم للبحث أفادت "بلغنا الجهات المحلية، وتواصلنا مع منظمات، وكتبنا اسمه في مجموعات ومنصات التواصل، لكن كل ذلك لم يقدم سوى وعود. أحياناً تصل إلينا معلومات متناقضة، وأحياناً يختفي كل أثر، أكثر ما نحتاج إليه هو صوت العالم، أن يسمع أن هناك من لا يزال مفقوداً، وأن خلف كل اسم حكاية وأسرة تحترق بصمت".
وختمت شقيقة المفقود حديثها قائلة "رسالتي للمنظمات الإنسانية والعالم: لا تجعلوا المفقودين أرقاماً، فخلف كل رقم إنسان، وأم تنتظر، وأسرة لا تنام. لا نريد سوى الحقيقة حتى لو كانت موجعة".
صدمة نفسية
بحسب لجنة محلية لتنسيق النازحين والمشردين، فإن نحو 750 طفلاً فروا من مدينة الفاشر من دون أسرهم، بعد تصاعد العنف هناك.
في أحد مخيمات النزوح بمدينة الدبة شمال السودان يجلس طفل في السابعة من عمره على عتبة خيمة صغيرة، يحدق في الطريق المؤدي إلى المدخل الرئيس وكأنه ينتظر شيئاً يعرف أنه لن يأتي قريباً. اسمه "حسن"، فصل عن أسرته أثناء موجة الفوضى التي رافقت نزوح الأهالي من المدينة، يقول من رآه آخر مرة إنه "كان ممسكاً بيد والدته قرب أحد مراكز الإيواء قبل أن تضيع الأقدام في الزحام وتنفصل المسارات".
منذ ذلك اليوم يعيش حسن بين الخيام، يتنقل بين الأسر التي تتكفل بإطعامه ورعايته، لكنه ينام كل ليلة وهو يسأل إن كانت أمه تعرف أين هو.
تقول ميادة علي، متطوعة تعمل في المخيم "قصته ليست استثناءً، هناك عشرات الأطفال مثل حسن، فصلوا عن أسرهم أثناء الهرب أو عند نقاط التفتيش، بعضهم لا يتذكر سوى اسم أمه، وآخرون لا يتكلمون من شدة الصدمة، نحن نحاول تسجيل الأسماء، نبحث في القوائم ونتعاون مع المنظمات، لكن الأمر بطيء ومعقد. الطفل لا يحتاج فقط إلى طعام أو مأوى، بل إلى حضن يعرفه وصوت يناديه باسمه كما كانت تفعل أمه".
وتضيف علي "الأطفال الذين فصلوا عن أسرهم يعيشون في حال تيه دائم، بعضهم لا يعرف من أي حي جاء، ولا إلى أين يتجه إن عاد السلام. نحن نحاول أن نوفر لهم بيئة آمنة، لكن الحقيقة أن لا شيء يمكن أن يعوض دفء الأسرة، هناك أطفال بدأوا يظهرون علامات صدمة نفسية، وآخرون يرفضون الكلام أو ينعزلون عن الآخرين، لذا نخشى أن يضيع مستقبلهم إن استمر هذا الوضع من دون عائلاتهم، ومن دون شك سيفقدون التعليم والإحساس بالأمان، وهم أصغر من أن يعيشوا هذا القدر من الخوف، وفي تقديري إن لم تستعد لهم الحياة قريباً، فإن الحرب ستسرق منهم ليس فقط طفولتهم، بل أيضاً ملامح المستقبل".
لم الشمل
أوضح آدم يوسف، وهو عامل ميداني في منظمة إنسانية تعمل بشمال دارفور، أنه "منذ تصاعد القتال في الفاشر استقبلت المخيمات أعداداً كبيرة من الأسر التي فقدت الاتصال بأفرادها أثناء النزوح. نرصد بصورة متكررة حالات لأطفال وصلوا إلى المخيمات بمفردهم أو بصحبة غرباء، ولا تتوفر عن ذويهم أي معلومات مؤكدة، يتم تسجيل أسمائهم في قوائم أولية، ثم تحال للمنظمات المتخصصة بمحاولات لم الشمل"، وتابع "العمل في مراكز الاحتجاز الموقتة أكثر تعقيداً، فالوصول إليها محدود، والمعلومات عن الموجودين فيها غير منتظمة، نحاول التنسيق مع الجهات المحلية للحصول على بيانات دقيقة، لكن غياب نظام مركزي لتوثيق المفقودين يصعب المهمة، فالوضع العام يتطلب تعاوناً أوسع بين الجهات الإنسانية والأمنية لضمان تتبع الحالات وتبادل المعلومات بانتظام".
بحث وأمل
في سياق متصل يقول إسحاق عيسى أحد سكان الفاشر الذين فقدوا أقاربهم عقب سقوط المدينة، إن "حال الغموض لا تزال تسيطر على آلاف الأسر التي لا تعرف إن كان ذووها أحياء أم بين الضحايا، فمنذ سقوط الفاشر اختفى المئات من الجيران والأصدقاء، لا نعرف عنهم شيئاً، ولا جهة واحدة قدمت لنا إجابة واضحة"، وأضاف "منظمات الإغاثة الدولية بدأت تتحدث عن أعداد ضخمة من المفقودين في عموم البلاد، إذ تجاوزت طلبات البحث المسجلة لدى الصليب الأحمر أكثر من 7700 طلب، فيما تشير تقديرات أخرى إلى أن عدد المفقودين منذ اندلاع النزاع قد يقترب من 50 ألف شخص، بينهم ما لا يقل عن 10 آلاف في الفاشر وحدها".
وزاد عيسى "كثير من العائلات ما زالت تبحث في المستشفيات والمخيمات ومراكز الاحتجاز الموقتة، بعضهم يظن أن أبناءه نقلوا قسراً إلى مناطق أخرى، وآخرون يعيشون على أمل مكالمة أو إشارة صغيرة تؤكد أن أحباءهم ما زالوا على قيد الحياة".
ذاكرة البقاء
في الفاشر لم ينتظر الأهالي عودة المؤسسات الرسمية أو فتح السجلات الحكومية ليحافظوا على ذكرى أحبائهم المفقودين. يقول الشيخ عبدالرحيم، أحد وجهاء المجتمع المحلي، إن الناس وجدوا في التوثيق اليدوي وسيلة للبقاء، "صرنا نكتب أسماء المفقودين في دفاتر المساجد والمراكز الموقتة، كل اسم نحفظه هو حياة نرفض أن تمحى"، واستطرد "في غياب السجلات الرسمية، ابتكر الأهالي وسائل بسيطة لتخليد الذاكرة، قوائم تتداول في مجموعات (واتساب)، ولوحات ورقية تعلق في الأسواق والمخيمات، وأحياناً تقام أدعية جماعية في يوم محدد من كل شهر، لكل من لم يعرف مصيره بعد".
عدالة رمزية
يرى الباحث في علم الاجتماع سليمان عبدالفتاح أن "ما يقوم به أهالي الفاشر من توثيق للذكريات يمثل صورة من صور المقاومة المجتمعية ضد النسيان"، موضحاً أن غياب الدولة لا يعني غياب الذاكرة، بل يعيد تشكيلها بطرق محلية وشعبية، فالمجتمعات الخارجة من النزاعات تواجه خطر الطمس المزدوج: اختفاء الأشخاص من جهة، ومحاولة إسكات سيرتهم من جهة أخرى ولهذا يصبح الحفاظ على الأسماء والقصص جزءاً من العدالة الرمزية، وأردف "الذاكرة ليست مجرد تسجيل للماضي، بل هي فعل سياسي وإنساني في آن واحد، لأنها تذكر العالم بأن وراء الأرقام وجوهاً وأصواتاً لم تسمع بعد".
مبادرات رقمية
منذ الأيام الأولى للحرب برزت على منصة "فيسبوك" مبادرة "مفقود" كواحدة من أنشط الصفحات التي تعمل على توثيق أسماء المفقودين في مناطق النزاع المختلفة، إذ يعتمد القائمون عليها على بلاغات الأهالي وصور الهوية والبيانات الأولية، ثم ينشرونها في منشورات منظمة تحدث باستمرار مع أي معلومة جديدة.
يقول محمد إدريس، أحد الناشطين في المبادرة، "العمل تطور مع الوقت ليصبح شبكة تواصل بين المتطوعين في ولايات مختلفة، تربط بين أسر المفقودين والمستشفيات والمخيمات ومراكز الإيواء، فمنذ بداية الحرب تلقينا آلاف البلاغات، بعضها من أسر داخل السودان وأخرى من الخارج، وخلال الأشهر الماضية فحسب استطعنا المساعدة في تأكيد أماكن عشرات المفقودين، بعضهم عاد بعد أعوام من الانقطاع الكامل"، وواصل "المبادرة لا تملك دعماً مالياً أو غطاءً مؤسسياً، لكنها تعتمد على الجهد التطوعي والتنسيق الفردي، فالعمل الرقمي أصبح أحد أكثر الوسائل فاعلية في تتبع المفقودين مقارنة بآليات البحث التقليدية، فكل معلومة يتم التحقق منها تحدث فرقاً، مهما كانت صغيرة".
(اندبندنت عربية)