منذ اندلاع الحرب في السودان عام 2023 وقبلها حروب دارفور بين عامي 2003 و2004، وثقت عشرات التقارير الحقوقية والأممية فظائع وانتهاكات جسيمة وصفت بأنها ترقى إلى مستوى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، غير أن تلك التقارير لم تبرح أضابير المكاتب وطيات الأوراق، وسط تعثر وتباطؤ مسكوت عنه على رغم تعالي الصيحات بين الفينة والأخرى المنادية بضرورة منع الإفلات من العقاب، فما الذي يقف وراء تعثر التحقيق الدولي المستقل في تلك الجرائم، هل هو نقص بالأدلة أم انعكاس لأزمة في الإرادة السياسية وتقاطع المصالح الإقليمية والدولية؟
بينما تؤكد الحكومة السودانية رفضها دخول بعثة تقصي الحقائق الأممية إلى البلاد، تغلق قوات "الدعم السريع" أبواب مدينة الفاشر منذ سيطرتها عليها خلال الـ26 من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي وحتى الآن، أمام المنظمات الدولية والأممية، واللجان الحقوقية على رغم الاتهامات والإدانات الدولية للفظائع والمجازر التي ارتكبت هناك.
وفق وكالات أممية، جرت مفاوضات مع قوات "الدعم السريع" في شمال دارفور أسفرت عن التوصل إلى اتفاق مبدئي حول مجموعة من الشروط التي تضعها لدخولها إلى مدينة الفاشر.
وأشارت تقارير أممية إلى عدم وجود أية ضمانات للمرور الآمن إلى المدينة أو حماية المدنيين أو عمال الإغاثة خلال الوقت الحالي، بينما تستمر المفاوضات مع "الدعم السريع" لتقديم ضمانات أمنية، مما ترفضه حتى الآن.
ورجح مدير الاستجابة للطوارئ في برنامج الغذاء العالمي روس سميث، أن يكون ما بين 70 و100 ألف شخص لا يزالون محاصرين داخل المدينة التي تعيش وضعاً مروعاً، وبخاصة في ظل انقطاع الاتصالات وغياب المعلومات الدقيقة عن الداخل، مما يجعل الوصول الإنساني إليها أولوية عاجلة.
جرائم وتجاوزات
في السياق قال المحامي الحقوقي المعز حضرة إن مجلس حقوق الإنسان بجنيف كون لجنة لتقصي الحقائق حول الجرائم التي ارتكبت في السودان بعد حرب الـ15 من أبريل/ نيسان 2023، لكن حكومة السودانية ببورتسودان رفضت دخول تلك البعثة إلى البلاد، خلال وقت تبدو فيه جميع المؤسسات العدلية في الوقت الراهن غير مؤهلة لتحقيق العدالة في السودان.
ووصف حضرة "إغلاق قوات ’الدعم السريع‘ لمدينة الفاشر أمام المنظمات الدولية وما تقوم به من استخدام للمدنيين كدروع بشرية بمنعهم الخروج ومغادرة المدينة، وكذلك ما يقوم به الجيش بمنع لجنة تقصي الحقائق من دخول البلاد، أنها كلها تعد تجاوزات لقرارات مجلس الأمن وتمثل في حد ذاتها جرائم تخالف القانون الدولي".
"الفظائع والإفلات"
طالب المحامي الحقوقي، بضرورة إصدار مجلس الأمن الدولي قراراً بتكوين لجنة لتقصي الحقائق أسوة بقراره في جرائم حرب دارفور، يكون ملزماً لكل أطراف الحرب بالسماح بدخول هذه اللجنة على أن يشمل اختصاصها كل أنحاء السودان، مشيراً إلى أنه ما لم تدخل تلك اللجنة للتحقيق في كل الجرائم التي حدثت خلال الحرب الدائرة، فلن يكون هناك منع للإفلات من العقاب.
ووصفت الأمم المتحدة الصراع في السودان بأنه "حرب فظائع"، وعلى رغم أن قوات "الدعم السريع" هي الطرف المتهم أساساً بارتكاب مجازر إثنية، لكن الاتهامات تلاحق الجيش أيضاً بارتكاب جرائم حرب.
واتهم تحقيق مشترك لشبكة "سي أن أن" ومنظمة "لايت هاوس ريبورتس" الإعلامية بثته الشبكة مطلع هذا الأسبوع، الجيش السوداني وحلفاءه باستهداف المدنيين في ولاية الجزيرة على أساس عرقي بصورة ممنهجة، بشن 59 هجوماً بدوافع إثنية أثناء استعادتهم السيطرة على الولاية.
لجنة عربية
أمس السبت، استقبل وزير العدل السوداني عبدالله درف بمكتبه في بورتسودان أعضاء اللجنة المشكلة من قبل اتحاد المحامين العرب، للتحقيق في جرائم وانتهاكات "الدعم السريع" داخل السودان.
وقال درف عقب لقائه الوفد، إن اللجنة قدمت تقريرين في شأن الانتهاكات وستقوم هذه المرة بزيارة إلى منطقة الدبة بالولاية الشمالية للاستماع والتوثيق من الضحايا من أهل الفاشر الذين وصلوا إلى هناك، وتقديم تقرير يوثق الانتهاكات ويعكس تلك الجرائم إلى المجتمع الدولي.
من جانبه، أكد رئيس فريق تحقيق اتحاد المحامين العرب محمد المراد في جرائم "ميليشيات الدعم السريع" محمد المراد، أن النتائج التي توصل إليها فريق التحقيق تصلح بينات صلبة لإدانة الفظائع التي ارتكبتها، وإعداد تقرير عميق وصلب ومعزز بالأدلة والمعطيات لتقديمه لكل الجهات القضائية الإقليمية والدولية.
أسوأ جريمة
وأكد خبراء حقوق الإنسان أن ما حدث في الفاشر من المرجح أن يكون "أسوأ جريمة حرب" تشهدها الحرب الأهلية السودانية، التي تتسم بالفعل بالفظائع الجماعية والتطهير العرقي.
واستشهد مستشار الأمم المتحدة الخاص المعني بمنع الإبادة الجماعية تشالوكا بياني اليوم الأحد بتفاقم العنف في السودان كأحد أكثر الأمثلة إلحاحاً، على أن العالم لا يزال يشهد انتهاكات جسيمة للقانون الدولي لحقوق الإنسان.
وأضاف بياني "أن صراع دارفور الذي حققت فيه لجنة تابعة للأمم المتحدة للمرة الأولى خلال تسعينيات القرن الماضي، لا يزال يتفاقم بعد مرور عقود من دون حلول جذرية، إذ لم يتغير شيء ولم يؤد سقوط الحكومة المدنية إلا إلى تفاقم الأزمة".
واتهم تقرير حديث لمختبر الأبحاث الإنسانية في كلية الصحة العامة بجامعة (ييل) الأمريكية، قوات "الدعم السريع" بتدمير وإخفاء الأدلة على عمليات قتل جماعي واسعة النطاق ارتكبتها داخل مدينة الفاشر.
وأعلن المختبر أن فريقه وثق وجود ما لا يقل عن 150 موقعاً يشتبه في أنها مقابر جماعية أو تجمعات للجثث، بهدف التخلص السريع من أكبر قدر ممكن من الأدلة، قبل دخول أية جهة مستقلة إلى المدينة.
انقسام ومصالح
على الصعيد نفسه يرى المتخصص في القانون الدولي منير محمد سعيد أن هناك أسباباً عدة متداخلة منها القانوني والسياسي والجغرافي، تقف وراء تعثر التحقيق الدولي المستقل في انتهاكات حرب السودان، أبرزها انقسام القوى الكبرى في شأن ما يحدث داخل السودان، إذ يفضل بعضها الاكتفاء بإدارة الأزمة والجنوح إلى التهدئة حتى لو على حساب العدالة وإنصاف الضحايا.
يشير سعيد إلى أن غياب التوافق بين القوى الدولية الفاعلة حول ضرورة المحاسبة في جرائم حرب السودان جعلها تعجز عن فرض آلية تحقيق فعالة، لذلك غلَّت توازنات الفيتو والمصالح الجيوسياسية بين الدول الكبرى (الصين والولايات المتحدة وروسيا) يد مجلس الأمن في التعامل بحسم مع انتهاكات الحرب، أما داخلياً فلا تبدو أطراف النزاع متمثلة في الجيش السوداني و"الدعم السريع" على استعداد للتعاون بصورة جادة وحقيقية مع الآليات الدولية، خلال وقت يتبادلان فيه الاتهامات ويميلان إلى الاستخدام السياسي لملف الانتهاكات.
تسييس العدالة
هناك أيضاً وفق الأكاديمي، معوقات لوجيستية ترتبط بصعوبة الوصول الميداني للضحايا وزيارة مسرح الجرائم المفترضة أو حتى الحصول على الوثائق، بسبب استمرار المعارك الحربية والانهيار الأمني بصورة تهدد سلامة المحققين والشهود، وبخاصة أن معظم الانتهاكات وقعت داخل مناطق ساخنة مثل دارفور وكردفان أو حتى الجزيرة والخرطوم، مما جعل تلك الآليات الدولية للتحقيق تعتمد على شهادات من بُعد وصور مفتوحة المصادر.
وأعرب المتخصص في القانون الدولي عن أسفه بأن العدالة باتت الآن تستخدم ضمن أوراق الضغط السياسي والتفاوضي، وليس كمطلوب عدلي قانوني وأخلاقي، مما يجعل التخاذل عن التحقيق الدولي الجاد في جرائم حرب السودان ليس مجرد فشل لوجيستي بقدر ما هو ضعف في الإرادة وتسييس للعدالة على مائدة المصالح، منوهاً بأن بعض الدول الداعمة لأطراف النزاع، دولياً وإقليمياً، لا ترغب في كشف الحقائق كاملة، إلى جانب أن المجتمع الدولي نفسه يخشى أن تؤدي ملاحقة القيادات الحالية قانونياً إلى تعطيل أية تسوية سياسية ومزيد من التصعيد للصراع.
عندما تتهم السلطة
على نحو متصل، يرى المحامي والناشط الحقوقي عبدالعزيز سام أن السبب وراء تعثر التحقيقات الدولية في انتهاكات حرب السودان غالباً ما يكون هو أن المتهم هو السلطة نفسها، ولا يتوقع ممن بيده زمام السلطة والمشكوك في كونه الجاني أن يتجاوب مع لجان التحقيق أو يتعاون مع المحققين، بل سيكون سبباً رئيساً لتعطيل التحقيقات بمنع دخول لجان التحقيق أو حتى بمحاولات التأثير فيها حال دخولها.
ويشير سام إلى أنه وعلى رغم أن قوات "الدعم السريع" هي المتهم الرئيس في ما حدث من جرائم وفظائع داخل الفاشر، وهو اتهام مسنود بعدد من الأدلة والقرائن والشهود، ترفض الحكومة السودانية دخول بعثة تقصي الحقائق، خلال الوقت نفسه تحاول الأولى استغلال رفض الحكومة وتعلن موافقتها بل ومطالبتها بدخول لجان التحقيق الدولي للتكسب سياسياً وإعلامياً من الرفض الحكومي، بينما تعوق وتمنع فعلياً دخول المنظمات إلى الفاشر.
ويشدد سام على أن أي تحقيق جنائي يجري في ظروف غير مواتية للشفافية سيكون غير نزيه وبلا قيمة قانونية، وبخاصة في حال غياب عنصري الحياد والاستقلالية نظراً إلى توافر كل ظروف احتمالات التأثير في التحقيق المستقل الذي يتطلب بيئة محايدة لا تسمح بها الظروف الراهنة، وتجعله عرضة للتأثير فيه من أي من الجانبين.
ويعتقد الناشط الحقوقي أن دخول لجنة التحقيق مهم لإنقاذ من تبقى من سكان داخل الفاشر الذين هم في عداد المختطفين، ومحجوزون تحت ضغط الابتزاز والفدية المليارية يواجهون التنكيل والإهانة والإذلال، ويرغبون في المغادرة لكن ليس أمامهم سبيل للهرب بسبب الخنادق التي تحيط بالمدينة، ولم يسلم من الموت أو يستطيع عبورها إلا من يسدد الفدية، ويكفي ما أعلنه مختبر جامعة ييل الأميركية عن تمدد سراديب الموت حيث لا قانون ولا إنسانية.
قتل وفظائع
وفجرت سيطرة قوات "الدعم السريع" العنيفة على آخر معاقل الجيش داخل إقليم دارفور خلال الـ26 من أكتوبر الماضي غضباً محلياً ودولياً، بسبب تقارير عن مجازر إثنية وتصفيات وعمليات إعدام خارج القانون واغتصاب ممنهج واحتجاز جماعي.
وأدت الحرب المستمرة بين الجيش السوداني بقيادة عبدالفتاح البرهان وقوات "الدعم السريع" بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، منذ منتصف أبريل 2023، إلى مقتل عشرات الآلاف ونزوح أكثر من 13 مليون شخص وأسوأ أزمة إنسانية في العالم، بما في ذلك إعلان مجاعة داخل عدة مناطق جنوب وغرب البلاد.
(اندبندنت عربية)