أدرك مجتمع القرية اليمنية التمايزات بين الطين والاسمنت من خلال المعايشة، حيث يوفّر الطين اعتدالاً في النهار ودفئاً في الليل، بعكس الاسمنت. لكن هذا لم يَكُنْ هو الفاعل في التوجُّه نحو استخدام أحدهما، وإنما المستوى الاقتصادي. فمواد البناء المحلية ارتبطتْ في الذهنية الشعبية بفَقْر مَنْ يُبنى له المنزل، أو محدودية قدراته المالية. وارتبطتْ مواد البناء الحديثة والمستوردة بالأغنياء والميسورين!
تتفاوت درجات الحرارة في الريف اليمني من منطقةٍ إلى أخرى تِبْعاً لتنوُّع الجغرافيا اليمنية بين سهولٍ ساحلية، ومرتفعاتٍ جبلية، وهضابٍ وسهولٍ شبه صحراوية. وينعكس هذا التنوع الجغرافي تعدداً واختلافاً في مواد البناء، حيث يستمدّ كل منزلٍ احتياجات تشييْده ممّا يتوافر في بيئته المحيطة.
وعلى تنوُّع مواد البناء هذا يترتب تفاوتٌ في درجاتِ الحرارة بين منازل القرية الواحدة.
الطين والحجارة
من أهم مواد البناء السائدة في قرى وسط اليمن والمرتفعات الجبلية، مادتا الحجارة والطين، لتوافرهما في جغرافية هذه المناطق.
تدخل مادة الطين في البناء القائم على جدرانٍ مزدوجة ـ لكلّ جدارٍ وجهان، خارجي وداخلي، سواء أكان البناء بحجارةٍ غيرِ مصقولة، أو مصقولة في وجه الجدار الخارجي وغير مصقولة في وجهه الداخلي. فبعد أن يُضاف الماء إلى كومةٍ من التراب الناعم، تتشكّل عجينة الطين، وبها تُملَأ أحشاء الجدار المزدوج، مع ما يُضاف إليها من حجارةٍ صغيرة تُخلّفها عملية تشذيب الأحجار لإقامة جدران البيت.
عن مفهوم العمارة المنحازة للناس وعن الشغف بعمارة اليمن
بعد استقامة البناء على جدرانه الأربعة ـ مزدوجةً وغير مزدوجة ـ تأتي مرحلة السقف، فتُجْلَب الأخشاب التي يتم اقتطاعها من أشجارٍ معمّرة منتشرة في الجبال والشعاب المحيطة، أهمّها أشجار السدر/ والأثل (1). ثم تُثَبَّت هذه الأخشاب أعلى جدران الحجرات بشكلٍ متوازٍ، وبين كلّ خشبتين منها تُصَفُّ بكثافة الأعواد المُقَطَّعة على مقاس المسافة الفاصلة بينهما. وفوق الأعواد والخشب، تُفْرَش أغصانٌ خضراء تتشابك مع الطين الذي سيغطّيها لإضفاء مزيدٍ من التماسك والقوة، تلي ذلك طبقةٌ من التراب الناعم، يتراوح سمْكها بين خمسة وخمسة عشر سنتيمتر، مع تثبيت ميزابٍ لتسريب ماء المطر.
كان دخول الإسمنت في أبنية القرية بطيئاً متدرجاً، إذ كانت بداية استخدامه في الأرضيات وتلبيس الجدران المزدوجة من الداخل، والربط بين حجارة وجهها الخارجي. أمّا أحشاؤها، فلم يتخلَّ عنها الطين، كما لم يتخلَّ عن وظيفته في إنجاز السقف، الذي حلّ فيه الخشب المستورد محلَّ الخشب المحلي.
كما تدخل مادة الطين في إنجاز المرحلة الثالثة من مراحل البناء، مرحلة تلبيس الجدران من الداخل، بعجينةِ طِينٍ مُزج فيها قدْرٌ مناسبٌ من مخلفات المواشي وأعلافها. وبالعجينة ذاتها تستوي أرضية الحجرات، بما في ذلك حجرة الطبخ التي يُسْتَخْدَم الطين في تثبيت وتلبيس ما فيها من حجارةٍ مُعدّة لتستقر فوقها القدور أو أباريق القهوة، ومثل ذلك هي حال التنور المصنوع من الفخار، حيث تتصل طبقة الطينِ ـ التي يُثَبَّت ويُلَبَّس بها من خارجه ـ بتلبيسة الجدار الذي يستند إليه من جهة، وبتلبيسة الأرضية وأحجار القدور من جهةٍ أخرى.
الطين والنُّورة
بعد إنجاز مرحلة تلبيس الجدران من الداخل، يكون المنزل جاهزاً للتأثيث ومن ثم الإقامة فيه. كما يكون في الوقت ذاته مهيأ لأن تُطلى جدرانه من الداخل، بمادة النُّورة (2). وتُعدّ عملية الطلاء بهذه المادة اختيارية، كإضافةٍ جمالية. لكنها عمليةٌ لا بد من استكمالها فيما لو كان تلبيس الجدران قد قام على خليطٍ من الطين والحصباء، الذي يُسْتَخْدَم لإضفاء الجودة الداخلية على الجدران من خلال تسوية نتوءاتها وزوائدها، ويستدعي الوصول إلى هذه الجودة كميات كبيرةً من هذا الخليط، وسوف تفقد تماسُكَها إن لم يتم طلاؤها بهذه المادة.
الطين والإسمنت
اقتضى التقدم العمراني دخول الإسمنت ضمن مواد البناء في القرية اليمنية، حيث بدأ التشغيل الإنتاجي للخط الأول في "مصنع إسمنت باجل" بالطريقة الرطبة، بطاقةٍ إنتاجيةٍ سنوية بلغت 50 ألف طن، عام 1973. والخط الأول في "مصنع إسمنت عمران" بالطريقة الجافة وتكنولوجيا حديثة، وطاقته الإنتاجية السنوية 500 ألف طن عام 1983. والخط الإنتاجي الثاني بالطريقة الرطبة في "مصنع إسمنت باجل" بطاقةٍ إنتاجية سنوية 220 ألف طن، عام 1984. ثم التشغيل التجاري لـ "مصنع إسمنت البرح" بأحدث التكنولوجيا التي توصّلتْ إليها صناعة الإسمنت، بطاقةٍ إنتاجيةٍ سنوية 500 ألف طن، عام 1993. فيما بدأ تشغيل الخط الإنتاجي الثاني في "مصنع إسمنت عمران" بالطريقة الجافة وتكنولوجيا حديثة، بطاقةٍ إنتاجية بلغت سنوياً مليون طن، عام 2007.
تدخل مادة الطين في البناء القائم على جدرانٍ مزدوجة: لكلّ جدارٍ وجهان، خارجي وداخلي، سواء أكان البناء بحجارةٍ غيرِ مصقولة، أو مصقولة في وجه الجدار الخارجي وغير مصقولة في وجهه الداخلي. فبعد أن يُضاف الماء إلى كومةٍ من التراب الناعم، تتشكّل عجينة الطين، وبها تُملَأ أحشاء الجدار المزدوج، مع ما يُضاف إليها من حجارةٍ صغيرة تُخلّفها عملية تشذيب الأحجار.
الطين المستخدم في عمارة اليمن ـ سيما القديمة منها ـ مُكوّنٌ من "سيلكا الألومينيوم" وهو عبارة عن بلّوراتٍ صغيرة من الصخور النّارية. وإلى حدٍّ بعيد تظهر صلابته في خصائصه التكوينية هذه، كما تظهر قدرته الهائلة على عزل الحرارة. وقد اشتركت العمارة اليمنية في الاعتماد عليه مع الحضارات الشرقية في بلاد الرافدين وجنوب مصر وبلاد النوبة.
كان دخول الإسمنت في أبنية القرية بطيئاً متدرجاً، إذ كانت بداية استخدامه في الأرضيات، وتلبيس الجدران المزدوجة من الداخل، والربط بين حجارة وجهها الخارجي. أمّا أحشاؤها، فلم يتخلَّ عنها الطين، كما لم يتخلَّ عن وظيفته في إنجاز السقف، الذي حلّ فيه الخشب المستورد محلَّ الخشب المحلي.
وفي الأبنية ذات الجدران غير المزدوجة، يدخل الإسمنت في الربط بين أحجار وجهها الخارجي، أمّا وجهها الداخلي، فيقوم تلبيسها على طبقتين متتاليتين: الأولى خليطٌ من الطين والحصباء، والثانية طبقةٌ إسمنتية. أما مرحلةُ السقف في هذا النوع من الأبنية فيتم إنجازها بالطين والتراب الناعم.
في قرية من جبال اليمن.. مزاريب الذكريات
وفي سياقِ تنامي صناعة الإسمنت واستخداماته، ظهرت المنازل المبنية بالطوب الإسمنتية، حيث اسْتُخْدِم الإسمنت في أرضياتها، والربط بين حجارة جدرانها. كما تَرَتَّب على ذلك استبعاد تلبيس جدرانها من الداخل بالطين الذي لا يتجانس مع طبيعتها وتلبيسها بالإسمنت. أمّا السقف في هذه المنازل فقد أُنجز بالطين والخشب المستورد.
ولم يصلْ استخدام الإسمنت إلى الاستحواذ التام على وظائف الطينِ إلا في عددٍ محدود من منازلِ القرية اليمنية، حيث دخل في إنجاز مراحلها كلها، فاسْتُخْدِم في أحشاء جدرانها، وربط أحجار أوجهها الخارجية، وتلبيسِ أوجهها الداخلية. كما استُخدم في أرضيات هذه المنازل، وفي إنجازِ سقوفها، بالسطوحِ الخرسانية المدعمة بالحديد.
دِفْء الطين وحرارة الإسمنت
يكمن الفارق الجوهري بين مادتي البناء، الطين والإسمنت، في تفاعلهما مع تحوّلات الطقسِ والمناخ، وفي التمايزِ بينهما لصالحِ الطين. فالإنشاءات الخرسانية المسلحة، لم تُعالَج بما يتناسب مع تأثيرات الطقسِ الحار، حسب ما وصلتْ إليه دراسة الدكتور محمد حمود الكبسي، أستاذ الهندسة المعمارية في جامعة عدن(3). والمنازل التي يُستخدم الإسمنت في بنائها تكون باردةً في الشتاء وحارّةً في الصيف قياساً بالمنازل التي تدخل المواد المحلية في بنائها، سيما الطين، الذي يُعَدّ منذ القدم واحداً من أهمّ مكونات العمارة اليمنية، اشتركتْ في الاعتماد عليه مع الحضارات الشرقية في بلاد الرافدين وجنوب مصر وبلاد النوبة. والمنازل التي يدخل في بنائها "دافئةٌ وقتَ البرد، وباردةٌ وقتَ الحر" حسب ما تَضمَّنته رؤية الدكتور سالم عوض رموضة (4).
تُثَبَّت الأخشاب أعلى جدران الحجرات بشكلٍ متوازٍ، وبين كلّ خشبتين منها تُصَفُّ بكثافة الأعواد المُقَطَّعة على مقاس المسافة الفاصلة بينهما. وفوق الأعواد والخشب، تُفْرَش أغصانٌ خضراء تتشابك مع الطين الذي سيغطّيها لإضفاء مزيدٍ من التماسك والقوة.
إنّ الطّين المستخدم في عمارة اليمن ـ سيما القديمة منها ـ مُكوّنٌ من "سيلكا الألومينيوم"، وهو عبارةٌ عنْ بلّوراتٍ صغيرة من الصّخور النّارية، وإلى حدٍّ بعيد تظهر صلابته في خصائصه التكوينية هذه كما تظهر قدرته الهائلة على عزل الحرارة. فالمقيم في بيوتٍ طينية ـ أو دخل الطين في بنائها ـ لا يعاني ما يعانيه المقيم في منازل إسمنتية، حيث يختزن الطين في الصيف الحرارة نهاراً، ويفقدها ببطءٍ ليلاً، فيحافظ على اعتدال درجة الحرارة وعلى تدفئة المنزل طيلة الليل، وفقاً لما أشار إليه البروفيسور رونالد رائيل، أستاذ الهندسة المعمارية في جامعة كاليفورنيا، بيركلي، والمتخصص في المباني الطينية.
في القرية اليمنية: البقرة أُمٌّ ثانية في الأسرة!
لقد أدرك مجتمع القرية اليمنية هذه التمايزات بين المادتين من خلال المعايشة. لكن لم يَكُنْ هذا الإدراك هو الفاعل في التوجُّه نحو استخدام الطين أو الإسمنت، وإنما المستوى الاقتصادي. فمواد البناء المحلية ارتبطتْ في الذهنية الشعبية بفَقْر مَنْ يُبنى له المنزل، أو محدودية قدراته المالية. وارتبطتْ مواد البناء الحديثة والمستوردة بالأغنياء والميسورين!
"السفير العربي"