كان التعليم في عهد الرئيس السابق علي عبد الله صالح يعاني من مشاكل كثيرة، وكان الغيورون على حال التعليم يتحدثون عن تدمير التعليم، بشكل متعمد أو غير مقصود؛ بسبب الفساد المستشري في نظام الحكم الذي كان يستقطب الموالين له بغضّ النظر عن كفاءاتهم العلمية والعملية.
على هذا الأساس وجدنا أساتذة جامعات يحملون شهادات دكتوراه، هناك شك في كفاءتهم وشهاداتهم العلمية، يتبوؤون مناصب إدارية وسياسية، وبدورهم يختارون موالين لهم في مناصب أخرى بناء على مبدأ عدم الكفاءة نفسه. لكنّ ذلك الوضع المزري لا يقارَن بوضع التعليم اليوم في زمن ميليشيات الحوثيين والهاشميين.
الصرخة الحوثية في الجامعة
يمر التعليم في اليمن في عهد الحوثيين بأسوأ مراحله، إلى درجة أنّ جامعة صنعاء تحتفل بمناسبة "الذكرى السنوية للصرخة في وجه المستكبرين". وفي هذه المناسبة يتحدث رئيس الجامعة "الدكتور" القاسم محمد عباس عن "أهمية إحياء ذكرى الصرخة لما تمثله من دلالات إيمانية توضح معرفة أعداء الأمّة الحقيقيين: أمريكا وإسرائيل". ويؤكد على "أهمية الشعار في إعلان البراءة من أعداء الله ومناهضة المخاطر المحاكة ضد الأمّة". أعداء الأمّة بالنسبة إلى الدكتور ليسوا الذين يستعملونه ويسخرون منه ومن شهادته ومن التعليم العالي بشكل عام. أمّا سلاح مواجهة هذا العدو في نظر "الدكتور" فليست الطائرات الحربية والصواريخ، بل "الشعار الحوثي".
يستمر هذا الخطاب الساذج على ألسنة أساتذة جامعة آخرين وهم يتحدثون، على نحو جاد، عن "أهمية الشعار في التنبيه بتحركات الأعداء ومخططاتهم التي تستهدف الأمّة وأمنها واستقرارها". وبالطبع لن تخلو هذه الجوقة من طلاب يتحدثون عن "دور الصرخة كمشروع وموقف طبيعي لاستنهاض الهمم واليقظة والتحرك الجاد وتحمل المسؤولية في مواجهة قوى الهيمنة والاستكبار العالمي".
يمر التعليم في اليمن في عهد الحوثيين بأسوأ مراحله، إلى درجة أنّ جامعة صنعاء تحتفل بمناسبة "الذكرى السنوية للصرخة في وجه المستكبرين"
ومن الطبيعي في وضع مدائحي وعقائدي كهذا، الذي انحدرت إليه جامعة صنعاء وجامعات أخرى غيرها تحت سلطة الحوثيين، أن نرى طلاباً يحضّرون دراسات عليا (ماجستير ودكتوراه) في "الظواهر الأسلوبية في خطابات الشهيد القائد حسين بن بدر الدين الحوثي" ودراسات أخرى في ملازم "الشهيد القائد" أو في خُطب عبد الملك الحوثي.
خطاب الزعيم الديني والأستاذ الجامعي
واكب هذا التغيير المادي والمعنوي تغييراً لأسماء آلاف المدارس، إمّا بأسماء "شهداء" قتلوا في معارك الحوثيين في الحرب الجارية، وإمّا بأسماء شخصيات تاريخية لها علاقة بالهوية الحوثية.
وبحسب ما تضمنه خطاب لعبد الملك الحوثي، فإنّ "الأعداء يعملون تحت عناوين متنوعة وأساليب مختلفة، لاستهداف الأمّة على مستوى المناهج التعليمية والثقافة العامة، ويقدمون صورة مشوهة للحرية والتحرر والترويج لحقوق الإنسان، وحقوق المرأة، وجميعها عناوين لمضامين أخرى تستهدف استعباد الأمّة وإفسادها، وفي نهاية المطاف يروجون بهذه الحقوق للفساد، والمنكرات، والفواحش، والجرائم، والفرقة، والاختلاف، والشتات"؛ وبناء على هذا الخطاب الموظِّف لنظرية المؤامرة مطلوب من المتلقي أن يعتقد أنّ عبد الملك الحوثي وجماعته هم النقيض الإيجابي المشرق لكل ما ذكره.
أوقات الحصص تضيع في زيارات لمسؤولين حوثيين للحديث عن الجبهات، وعن "أهمية قراءة ملازم السيد"، أو تخصيص مبالغ مالية في مسابقات لكتابة بحوث عن عبد الملك الحوثي ومناقبه!
في الجامعات الخاصة دشن نائب وزير التعليم العالي والبحث العلمي، في حكومة صنعاء "الدكتور" علي شرف الدين، فعاليات الذكرى السنوية للشهيد القائد حسين الحوثي والرئيس الشهيد صالح الصماد بالجامعة الإماراتية الدولية.
وخطاب الأستاذ الجامعي لا يختلف عن خطاب عبدالملك، الذي لم يتحصل حتى على الشهادة الابتدائية. فقد "أكد نائب وزير التعليم العالي أهمية الحفاظ على الهوية اليمنية والتحذير من مخاطر الحرب الناعمة ووسائل استهداف الأمّة عبر الغزو الثقافي والفكري الممنهج... لافتاً إلى الهوية والمشروع القرآني الذي حمله الشهيد القائد لتحصين الأمّة من العقائد الباطلة والثقافات المغلوطة".
والمهزلة لا تقتصر على أستاذ جامعي أو اثنين بل على قطيع كامل من الأكاديميين والطلاب؛ فقد "أكد رئيس الجامعة الدكتور نجيب الكميم أهمية استحضار محطات من حياة الشهيد القائد حسين الحوثي والشهيد الرئيس الصماد وجعلهما نموذجاً للسير على دربهما".
بسبب هذا الوضع المأساوي الهزلي، وبسبب أنّ الأساتذة يعملون بالسخرة بدون رواتب شهرية منذ منتصف 2016 تقريباً، لجأ بعض الأساتذة للعمل في مجالات أخرى كباعة أو سواقين أو كعمّال وحمّالين، ومنهم من تمكن من الهجرة ومن مات كمداً أو انتحر قهراً، ومنهم من ما يزال يقاسي ضنك العيش وقهر الحال الذي وصل إليه التعليم في مستوياته كافة، وخاصة التعليم الجامعي والعالي.
التجهيل الممنهج في المدارس
معظم العام الدراسي ينقضي في عُطَل، إضافة إلى أنّ أوقات الحصص تضيع في زيارات لمسؤولين حوثيين للحديث عن الجبهات، وعن "أهمية قراءة ملازم السيد"، أو تخصيص مبالغ مالية في مسابقات لكتابة بحوث عن عبد الملك الحوثي ومناقبه! أمّا أوقات الدروس/ الحصص، فأغلبها تضيع في محاضرات عن "بطولات الحوثيين ضد العدوان"! فإن خرج المعلم عن هذا المقرر، فسيشكو ضيق حاله وديونه، وفي الجهة الأخرى لا يشغل المدير سوى جمع المبالغ المالية من الطلاب. أمّا بوابة النجاح، فمشرعة لمن يذهب إلى الجبهات فيحظى بمعدل مرتفع، فإن أصيب في جبهات القتال تُحضر أوراق الاختبار إليه إلى البيت، كما يقول أحد الطلاب لموقع (المصدر).
هذا عن التجريف المعنوي، أو تجريف المحتوى، أمّا ما لحق ببنية المدارس المادية، فيبين جزءاً منه تقرير لليونيسيف أشار إلى أنّ 66% من المدارس في اليمن تضررت بسبب الحرب، وأنّ 27% من المدارس أغلقت، و78% من المدارس المغلقة متضررة جزئياً أو كلياً، و22% إمّا محتلة عسكرياً، وإمّا تُستخدم لإيواء نازحين من مناطق الصراع. وبالطبع أدى كل هذا إلى تعطيل العملية التعليمية وأسهم في ارتفاع عدد الأطفال غير الملتحقين بالمدارس من (1.6) مليون قبل الحرب، إلى مليوني طفل اليوم، بزيادة تصل إلى 20%.
أوقات الدروس/ الحصص أغلبها تضيع في محاضرات عن "بطولات الحوثيين ضد العدوان"! فإن خرج المعلم عن هذا المقرر، فسيشكو ضيق حاله وديونه
هذا التدمير الممنهج للتعليم الجامعي والعالي يوازيه تغيير في مناهج التعليم الابتدائي والأساسي والثانوي. وإذا كان الحوثيون قد استطاعوا توظيف أساتذة جامعات من مخرجات تعليم صالح واستقطاب شخصيات يسارية وقومية، فكيف ستكون عقول الطلاب الذين تعهدهم الحوثيون بالتجهيل منذ المراحل الأولى للتعليم الطائفي؟!
في زمن الإخوان، وعهد صالح وجامعة الإيمان، لصاحبها عبد المجيد الزنداني، كان من المألوف أن يُحضّر الطلاب رسائل ماجستير ودكتوراه عن نواقض الوضوء، بل تقرر بعضها أن تتخصص في دراسة ما قاله السلف في "الضراط" و"الفساء"، في القرن الحادي والعشرين! وعلى هذه الأرض الخصبة أتى الحوثيون ليزرعوا المزيد من الجهل.
تفخيخ التعليم الابتدائي والأساسي
في حزيران (يونيو) 2021م نشرت منصة (صدق) اليمنية تقريراً حول التغييرات التي أُحدثت في المناهج الدراسية في مناطق سيطرة الحوثيين. شمل التقرير التغييرات في المناهج الدراسية من الصف الأول حتى الصف السادس الأساسي. وفي تقرير لاحق استكملت المنصة التغييرات في المناهج الدراسية من الصف السابع إلى الصف التاسع الأساسي، إضافة إلى التغييرات الجديدة في مناهج الصفوف الأولى، التي تمّت منذ إعداد التقرير الأول.
اليونيسيف: 66% من المدارس في اليمن تضررت بسبب الحرب، وأنّ 27% من المدارس أغلقت، و78% من المدارس المغلقة متضررة جزئياً أو كلياً، و22% إمّا محتلة عسكرياً، وإمّا تُستخدم لإيواء نازحين من مناطق الصراع
في العام الدراسي (2019-2020) قام الحوثيون بتغيير مناهج الصفوف الأساسية من الصف الأول حتى الصف السادس الأساسي، وشملت التغييرات حذف دروس وإضافة أخرى. وفي العام الدراسي (2020-2021م) قامت الجماعة بتغييرات في مناهج الصفوف السابع والثامن والتاسع الأساسي، وعملت الجماعة على تغيير المناهج الدراسية للصفوف الثانوية، كل ذلك "بما يتوافق مع عقيدة وسياسة الجماعة".
وقد بينت منصة (صدق) مواضع التغييرات، وأهداف تلك التغييرات، مشيرة إلى أنّ الجماعة تركز في تغييرات المناهج على (4) مواد دراسية هي: القرآن الكريم، والتربية الإسلامية، واللغة العربية، والتربية الاجتماعية. ومن الطبيعي أن ترافق هذه التغييرات تصريحات للحوثيين يقولون فيها إنّ التغييرات تأتي لمواكبة التطورات العلمية والتكنولوجية ووفقاً للمعايير الدولية وما شهدته المناهج من تغييرات في دول أخرى.
لكنّ الحقيقة، بحسب منصة (صدق)، أنّ هذه التصريحات مضللة، وقد تبين لها، بعد التدقيق والتقصي، أنّه لا وجود لتطوير يواكب المعايير الدولية، وأنّ كل ما أضيف إلى المناهج أو حذف منها تعمّد "إضافة الصبغة والتعبئة الطائفية والسياسية والجهادية، والتوجهات العقائدية والطائفية للحوثيين". من ذلك إضافة أحاديث ضعيفة، وفي الفقه أضيفت دروس موافقة لرؤية المذهب الزيدي الهادوي، وهو المذهب الذي تعتقده الجماعة، وتجعله أساساً للتشريع والتدين.
لو أنّ هذه الجماعة تريد مواكبة المناهج الحديثة فعلاً، لأضافت مواد علمية جديدة، كما فعلت وزارة التعليم السعودية بإضافتها مواد جديدة لمنهج الثانوية العامة التي ستدرس العام المقبل مثل: علوم الأرض والفضاء، هندسة البرمجيات، الذكاء الاصطناعي، الأمن السيبراني، الرعاية الصحية، أنظمة الجسم، مبادئ القانون، إدارة الفعاليات، تخطيط الحملات التسويقية.
من التغييرات الطائفية، التي رصدتها منصة (صدق) حذف أو اختصار الدروس التي يرد فيها مواقف لبعض الصحابة كأبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، رضي الله عنهم، والإسهاب في الدروس التي يرد فيها مواقف للإمام علي بن أبي طالب، رضي الله عنه. وعند إيراد درس يحتوي على حوار (محادثة) تختار أسماء تعتبرها الجماعة من رموزها الدينية: علي، حسن، حسين، فاطمة، زينب، زيد، يحيى... إلخ.
ولاحظت المنصة كثرة تناول موضوع "الجهاد في وجه المستكبرين، وفضل الشهداء" وحشر أحاديث الجهاد في مواضيع لا تمّت له بصلة. كما أضيفت عدة أناشيد ودروس تدعو للتمسك بآل البيت "للنجاة من الزيغ والفساد"، ودروس عن اصطفاء بني هاشم، والعترة الطاهرة، والاحتفال بالمولد النبوي.
(حفريات)