قبل أسابيع قليلة واستعداداً لرحلة أجريتها أخيراً إلى مدينة تارغونا في شمال شرقي إسبانيا، قمت بتحميل تطبيق لتعليم اللغات بغية حفظ بعض المفردات التي كنت آمل في أن تكون معيناً لي أثناء العطلة.
بداية، كنت أتوقع أن أرى كلمة "بينفينيدا" (bienvenida) للترحيب بالواصلين في المطار، لأجد بدلاً منها كملة "بينفينغوت" (benvingut) التي كانت أول وآخر كلمة أتعلمها باللغة الكتالونية، تماماً مثلما كان اسم عاصمة ويلز "كارديد" (caerdydd) الكلمة اليتيمة التي تعلمتها بالويلزية قبل ما يزيد على عقد ونصف العقد من الزمن.
الكتالونية هي واحدة من لغات أقلية متنوعة ومتعددة يتم استعمالها في قلب قارة أوروبا، حيث تتنوع الثقافات والتقاليد مثل نسيج ملون تزينه هذه اللغات الصامدة بما تحمله من ذكريات قديمة وما تنقله من قصص عريقة من جيل إلى جيل، وتأتي هذه اللغات من جذور تمتد عميقاً في تاريخ المنطقة وتعكس تعدداً ثقافياً يثري الكيان الأوروبي.
لغة الأقليات الأوروبية
تعد لغات الأقليات شاهداً على التفاعل الثقافي الذي أسهم في ثراء القارة الأوروبية على مر القرون ورمزاً للصمود والمثابرة، حيث عاشت تحت حكم أنظمة متعاقبة وشهدت تحولات سياسية واجتماعية متعددة. وتمثل هذه اللغات جزءاً لا يتجزأ من الهوية الثقافية للمجتمعات التي تنتمي إليها وتسهم في تعزيز التنوع الثقافي في القارة.
ويعترف الاتحاد الأوروبي ببعض اللغات الإقليمية التي تستخدم في دوله الأعضاء كلغات رسمية أو شبه رسمية وهذا يعتمد على التشريعات الوطنية لكل دولة، وهناك عدد كبير من اللغات ذات الخصوصيات الفريدة في مختلف البلدان مثل الكورنية التي يتحدث بها سكان إقليم كورنوول في جنوب غربي إنجلترا، والسوربية المستخدمة في بعض مناطق ألمانيا، واللومباردية محدودة الاستعمال في أجزاء من إيطاليا وسويسرا وفرنسا، والفريزية في أماكن قليلة في هولندا وألمانيا.
لكننا هنا سنعرج على أبرز اللغات التي تمتلك مكانة خاصة في دولها وتستخدم في المعاملات الرسمية والتعليم والإعلام والحياة اليومية، ومنها الكتالونية التي تعد لغة رسمية في إقليم كتالونيا في إسبانيا وفي إقليم كتالونيا الشمالية بفرنسا، إضافة إلى مناطق قليلة أخرى، فإنها لغة رومانسية تشبه الإسبانية والفرنسية وتعتبر جزءاً من مجموعة اللغات الإيبرو- رومانية، وهي إحدى اللغات الرومانية القديمة التي نشأت في شبه الجزيرة الإيبرية في جنوب شرقي إسبانيا ويعتقد بأن أصولها تعود للغة اللاتينية التي كانت تستخدم في المنطقة خلال العصور القديمة، ويقدر عدد الناطقين بالكتالونية بنحو 10 ملايين شخص ما بين إسبانيا وفرنسا.
في إقليم غاليسيا في إسبانيا وبعض المناطق المجاورة له يتحدث السكان اللغة الغاليثية، وهي لغة رومانسية تشبه البرتغالية والإسبانية، ويعتقد بأن أصولها تعود للغات اللاتينية التي كانت شائعة هناك، ويقدر عدد الناطقين بالغاليثية بما بين 3 و4 ملايين شخص في الإقليم.
في إسبانيا أيضاً، تحديداً في إقليم الباسك وبعض المناطق المجاورة وأجزاء من فرنسا، تستخدم اللغة الباسكية الفريدة التي لا تعد جزءاً من أية عائلة لغوية معروفة، لكنها لغة قديمة جداً مجهولة الأصول ويقدر عدد الناطقين بها بـ 700 ألف شخص في المناطق الباسكية.
في إمارة ويلز البريطانية، تعد الويلزية لغة رسمية إلى جانب اللغة الإنجليزية، وهي جزء من عائلة اللغات السلتية وتشبه الإيرلندية الأسكتلندية الغيلية، ويعتقد بأن أصولها تعود للغات السلتية التي كانت متحدثة في العصور القديمة، بينما يقدر بأن نحو 700 ألف شخص في ويلز يتحدثون هذه اللغة.
أما في بعض أجزاء اسكتلندا، فيتم التعامل باللغة الأسكتلندية الغيلية وهي أيضاً جزء من عائلة اللغات السلتية وتشبه الإيرلندية والويلزية، كما تمتلك أصولاً تاريخية قديمة، وهي لغة معترف بها إلى جانب الإنجليزية الرسمية، وهناك تقديرات بأن نحو 1.5 مليون شخص يتحدثونها، أي نحو ثلث سكان اسكتلندا.
يشار إلى أن عدد الناطقين بلغات الأقلية في أوروبا يتفاوت بشكل كبير ويعتمد على اللغة والمنطقة، وكل ما ورد هو تقديرات تقريبية، إضافة إلى وجود عدد من الأشخاص الذين يتعلمون هذه اللغات كلغة ثانية أو أجنبية أو بغرض الدراسات الاجتماعية والتاريخية.
ألسنة وهويات مختلفة
غالباً ما يمتلك الناطقون بلغات أقلية في الدول الأوروبية هويات ثقافية مميزة تختلف عن هويات السكان الإقليميين الذين يتحدثون اللغة الرسمية للدولة، وتأتي هذه الهويات نتيجة للتاريخ والتراث الثقافي واللغوي الفريد للأقليات، وتشمل العادات والتقاليد والأعياد والأدب والفن والموسيقى والطعام وعناصر ثقافية أخرى عدة.
على سبيل المثال، يعتبر الكتالونيون لغتهم جزءاً مهماً من هويتهم الثقافية ولديهم تقاليد ثقافية خاصة بهم تختلف عن تلك في بقية إسبانيا، ويحتفل سكان كتالونيا في الـ 23 من أبريل/ نيسان من كل عام بيوم القديس جوردي (جورج) وهو عيد للكتب والورد، فيتبادل الناس الكتب باللغة الكتالونية والورد كهدايا وتتوزع أكشاك بيع الكتب والزهور في الشوارع.
كذلك يحتفظ الويلزيون بالويلزية كلغة رسمية لهم ويشجعون على صون الثقافة الويلزية التقليدية، مثل إحياء يوم القديس ديفيد القديس الرسمي لويلز في مطلع مارس/ آذار، إذ يظهر الناس فخرهم بالهوية الويلزية من خلال ارتداء الملابس التقليدية وغناء الأغاني التراثية والقصائد المتوارثة بلغتهم الخاصة.
وتكمن أهمية إبقاء لغات الأقلية حية في الحفاظ على التنوع الثقافي، إذ تسهم اللغات في تعزيزه في المجتمعات، بالتالي إثراء الثقافة الوطنية وإضفاء العمق والأصالة على حضارة البلاد، وكذلك فإن ارتباط اللغات بالتقاليد والتراث الشعبي للمجتمعات يعني أن الحفاظ عليها سيؤدي تلقائياً إلى صون التراث الثقافي والمعرفة التقليدية.
وبما أن اللغة هي وسيلة تواصل بين الأجيال المختلفة، يسفر إبقاء هذه اللغات عن إبقاء الرابط بين الأجيال الشابة وسابقتها من خلال الاستماع إلى قصص الأجداد ومشاركتهم ذكرياتهم ونقل التقاليد بفاعلية، وكذلك الإسهام في تعزيز مشاركة أفراد الأقليات في مختلف جوانب الحياة من خلال استخدام لغاتها في الحياة الاجتماعية والاقتصادية.
وهناك أيضاً فائدة ربما تكون أقل وضوحاً، لكن بعض مجتمعات الأقلية تمتلك معرفة تقليدية حول البيئة والاستدامة، ومن المحتمل أن يسهم نقل هذه المعرفة في التركيز على القضايا البيئية والاجتماعية. علاوة على ذلك، يضمن الاحترام المتبادل للثقافات واللغات تعزيز التعددية وإرساء التضامن والاحترام بين مختلف المجتمعات.
الاعتراف الرسمي باللغات
يعتمد قرار الاعتراف بلغة أقلية كلغة رسمية على الظروف السياسية والاجتماعية في كل بلد ومستوى التوافق الوطني، ففي بعض الحالات يمكن أن يثير هذا القرار بعض الجدل والتوترات بين الناطقين باللغة الأقلية والأقليات الأخرى أو بين الناطقين باللغة الأقلية والغالبية المتحدثة باللغة الرسمية الوطنية.
في بلجيكا مثلاً، كانت هناك حملات للاعتراف بلغات اللوكسمبورغية والليمبورغية والوالون التي يتحدث بها بعض السكان، أسوة بالألمانية التي تتخذها البلاد لغة رسمية لها على رغم أن عدد الناطقين بها لا يتجاوز واحداً في المئة فقط من السكان.
بعد انتهاء الحرب في كوسوفو عام 1999 أشعل الاعتراف باللغة الصربية لغة رسمية إلى جانب الألبانية احتجاجات شديدة بسبب التوترات التاريخية والسياسية ونظراً إلى أن متحدثي الصربية في البلاد لا يتجاوزون الـ 10%.
مع ذلك، يمكن أن يؤدي اعتماد لغة الأقلية كلغة رسمية إلى تعزيز التنوع والشمول الاجتماعي إذا تم التعامل مع الأمر بعناية ومن منطلق احترام حقوق الجميع.
يعترف عدد من البلدان بحق الأقليات في استخدام لغاتها في التعليم والإدارة والقضاء ووسائل الإعلام، مما يسمح للأقليات بالمحافظة على لغاتها وثقافاتها من دون أن يتسبب ذلك بالضرورة في شرخ داخل المجتمع.
معارضة لغات الأقلية
هناك أسباب كثيرة قد تؤدي إلى التردد في اعتماد اللغات الأقلية كلغات رسمية في بعض الدول، أو حتى معارضة ذلك بالكامل، ومنها المخاوف القومية والسياسية، إذ يمكن أن يثير اعتماد هذه اللغات بشكل رسمي في بعض الحالات نزعات قومية أو سياسية، فمن المحتمل أن يراها بعضهم تهديداً للوحدة الوطنية أو عاملاً يزيد من تفاقم الانقسامات في المجتمع.
وقد تقف الأسباب الاقتصادية في وجه اعتماد هذه اللغات، إذ يتطلب تطوير بنية تحتية لدعمها في القطاعات الرسمية مثل المدارس والجامعات والطرقات واللوحات في المستشفيات وغيرها من الأماكن العامة كلفاً مالية كبيرة.
كذلك فإن القلق حيال الاستقرار السياسي والاجتماعي المتعلق بتغير هيكلية اللغات الرسمية في بلد ما قد يؤدي إلى تصاعد التوترات بين مجموعات مختلفة في المجتمع، إلى جانب احتمالية شعور بعض الأشخاص بأن اعتماد لغات الأقلية كلغات رسمية يمكن أن يفرض ضغوطاً على الغالبية لتعلمها أو التكيف معها.
ويمكن أن تثير المسائل القانونية المعقدة المخاوف، إضافة إلى التحديات الإدارية التي تواجه الحكومات في سبيل تطوير هياكل إدارية وتشريعات لدعم لغات الأقلية كلغات رسمية.
عند معالجة هذه المخاوف والمحاذير بعناية وتوجيه الجهود نحو تحقيق التوازن بين حقوق الأقليات والحاجات الوطنية والاجتماعية الأخرى، يمكن الحفاظ على عنصر يضطلع بدور منذ مئات السنين في تثقيف الأجيال ويسهم الآن في الحفاظ على التراث الثقافي ويمزج التاريخ بالحاضر بطريقة لا تستطيع أية أداة أخرى، إلا اللغة، فعلها.