عندما ظلت أصوات البنادق تعلو كوسيلة لحل الخلافات بين القبائل اليمنية، كان صوت الحوار والقانون يتوارى في حضرتها حتى بات الدم هو ما يرسخ علاقاتها المنفلتة ويرسم حدود سطوتها كقربان سخي لنيل هذا الشرف الرفيع.
وفي بلد عظمت سلطاته في فترات سياسية معينة من مكانة التقاليد القبلية على حساب القوانين المدنية الناظمة بأن أحلت العرف والشيخ مكان المحكمة والقاضي، كانت عقود من ثقافة الثارات تحصد المئات من خيرة شباب البلد لتغدو ثقافة الموت هي الغالبة على مشروع الحياة.
وباستشراء ثقافة "الآخذ بثأرنا قبل يجف دمنا" والإعلاء من شأنها، تعطلت مناحي الحياة وجفّت روافد بقائها في كل بقعة ازدهرت فيها وطاولت تداعيات ثقافة الغاب جوانبها الاجتماعية والتنموية والتعليمية والأمن والاستقرار وغيرها.
وعقب محاولات وتجارب حثيثة بذلتها شخصيات قبلية نيرة وقّع أبناء قبائل الصبيحة بمحافظة لحج (جنوب اليمن)، على وثيقة لإنهاء الثارات ودعم قيادة الحملة الأمنية حتى تتمكن من تحقيق جميع الأهداف وتثبيت الأمن والاستقرار والطمأنينة لدى عامة الناس، وإحداث التنمية والاستقرار في مناطقهم في خطوة غير مسبوقة.
الثلاثاء الماضي شهدت مديرية المضاربة ورأس العارة، التوقيع على وثيقة هدفت إلى إنهاء جميع الثارات في مناطق الصبيحة، وبدء مرحلة جديدة أساسها الأخوة الصادقة والاحترام والتقدير بين القبائل، والاحتكام إلى تعاليم الشريعة الإسلامية والنظام والقانون وعدم إيواء من يرتكب أي جريمة قتل أو مناصرته باعتباره شخصاً خارجاً عن عادات وأصالة القبائل التي وقعت على وثيقة الشرف القبلي.
الخطوة الاجتماعية التي حظيت بتأييد وإشادة جماهيرية واسعة جاءت بعد سلسلة اجتماعات لقيادات سياسية وعسكرية رفيعة سعت إلى التوصل لهذه الصيغة بهدف "تعزيز الوحدة والتآخي بين أبناء القبائل وتأكيد التزامهم دعم الأمن والاستقرار في المنطقة"، وفقاً لبيان صادر عن الميثاق.
قدوة ومجلس وطني
ونتيجة لما كابدته اليمن جراء الصراعات القبلية والعنف والاقتتال، قوبلت معاهدة الصبيحة بارتياح شعبي ورسمي واسع عبّر عنه الجميع بشيء من الأمل في أن تحذو حذوها بقية القبائل المتصارعة.
يقول الباحث السياسي عبدالوهاب بحيبح إن "معاهدة قبائل الصبيحة نموذج ملهم يمكن الاستفادة منه لتعزيز السلم والاستقرار الأهلي في مختلف مناطق اليمن بتطوير هذه الفكرة إلى تشكيل مجالس محلية للصلح مدعومة من الحكومة.
ويرى أن "وقف نزف الدم هو المدخل الأول لحل الخلافات بالحوار ولهذا فإنشاء مجلس أعلى يضم ممثلين عن جميع القبائل والمجتمعات في اليمن يمكن أن يوصل إلى ميثاق وطني ينهي هذه المعضلة التي اكتوى بنارها كثير من الأبرياء".
ويضيف أنه "يمكن لهذه المجالس تسوية الخلافات والثارات بين القبائل بطرق سلمية وتعزيز الروابط الاجتماعية والعيش المشترك بين أفراد المجتمع من خلال التنمية وإرساء قيم العدل والتعليم وتعزيز دور المنظمات غير الحكومية، ومشاركة هذه القطاعات في جهود الصلح وبناء السلام من خلال تنفيذ برامج تدريبية حول إدارة النزاعات وتوثيق تجارب النجاح كنماذج يمكن الاقتداء بها".
وإدراكاً لنوعية الخطوة، أشاد وزير الدفاع اليمني محسن الداعري بإعلان قبائل الصبيحة توقيع ميثاق الشرف والعهد، داعياً "المحافظات والمديريات والقبائل كافة إلى الاقتداء بهذه المبادرة لتحقيق الألفة والوئام والترابط والسلم المجتمعي".
من جانبه يقول السفير اليمني لدى بريطانيا ياسين سعيد نعمان إن "العقلاء من أبناء الصبيحة قاوموا التحديات الآتية من خنادق هذه الظاهرة (الثارات)، فوقّعوا ميثاق شرف ينهي الثارات ويلزم كل صاحب حق الأخذ بالقانون ليسود التسامح"، وأشار إلى أن هذا المجتمع الذي هو امتداد لسهل تهامة بقيمه التاريخية التي عرف بها قادر على تجاوز هذا الموروث.
الأعراف محل القوانين
ميثاق الصبيحة ذكّر بقضايا قبلية عالقة حصدت عشرات الأرواح البريئة وعطلت سبل الحياة والتعايش، كما ذكّر بالمعضلة التاريخية التي يعانيها النظام السياسي الذي أدخل القبيلة ورموزها كشريك في السلطة لحسابات تتعلق بتقاسم الثروة والمصالح بعيداً من حقوق الشعب اليمني.
وتتهم السلطات الرسمية بتعزيز سطوة الأعراف والأسلاف و"الأحكام القبلية" على حساب القانون والاحتكام لرجال القبائل "المشايخ" في حل النزاعات، حتى تلك التي تتعلق بشركات ومؤسسات حكومية ضخمة نتيجة خلافات داخلية فيها، مقابل منحهم امتيازات كمخصصات مالية تدفعها لهم "مصلحة شؤون القبائل" التي أنشأها الرئيس الراحل علي عبدالله صالح أو منحهم امتيازات خاصة في القطاعات السيادية مثل النفط والغاز، ومن بينها الحصول على امتياز استخراج وتوريد وتصدير النفط بامتلاك قطاعات كاملة، وفقاً لما جرى نقاشه في مؤتمر الحوار الوطني الذي عقد خلال 2013 -2014.
وعلى رغم الحرب التي تعيشها البلاد منذ 10 أعوام بين ميليشيات الحوثي المدعومة من النظام الإيراني والقوات الموالية للحكومة الشرعية، إلا أنها لم تستطِع إيقاف نزف الدم بين القبائل المتصارعة ووقف نزعة "الثأر" التي ما إن تبدأ في منطقة إلا وتتبعها سلسلة من العمليات الانتقامية لتسهم في مفاقمة الظروف المعيشية الصعبة التي تشهدها البلاد، إذ تجري أحياناً بين أفراد داخل قبيلة واحدة أو قبيلتين متجاورتين يربطهم الجوار والترابط الأسري والاجتماعي الإنساني.
على فوهة البارود
وعززت عوامل الصراع السياسي وعدم الاستقرار وانتشار السلاح من تفاقم الظاهرة في مجتمع يعيش خصوصية فريدة في جوانب الثأر والحروب القبلية التي تستخدم فيها أحياناً جميع أنواع الأسلحة المتوسطة والثقيلة، بما فيها الدبابات والمدفعية التي جرى السطو عليها بإيعاز أو تهاون حكومي في فترات سابقة كمكافأة سياسية نظير موقف معين من خصم سياسي، فضلاً عن المشكلات التي تنشأ بين قبيلتين متجاورتين في الغالب نتيجة سبب بسيط تندلع على أثره حروب وغزوات عنيفة ما تلبث أن تتطور، معلنة عن حمام دم لا ينقطع، يذهب ضحيته من لا يريد هذا الخيار أحياناً.
وأعطى القانون اليمني الحق للمواطن بحيازة الأسلحة النارية الشخصية، وحصرها بالبنادق الآلية والمسدسات وبنادق الصيد مع كمية من الذخائر، إلا أن كثيراً من القبائل تمتلك أسلحة متوسطة رشاشة وقناصات متطورة، فضلاً عن قاذفات الصواريخ المتوسطة والكبيرة والمدفعية والمصفحات المدرعة وقاذفات الـRPG والدبابات، إذ يقدر عدد الأسلحة في اليمن بنحو 70 مليون قطعة سلاح، بمعدل أكثر من ثلاث قطع لكل مواطن.
(اندبندنت عربية)