انتقادات واضحة وغير مسبوقة وجهها مندوب الجزائر الدائم في الأمم المتحدة مؤخرا خلال جلسة للأمم المتحدة بمناسبة الذكرى الـ 75 لاعتماد اتفاقية جنيف، لدور مجموعة "فاغنر" الروسية في هجوم القوات المالية على متمردين أزواديين على مقربة من الحدود الجزائرية في منطقة تينزاواتين شمال مالي، وراح ضحيتها عشرات المدنيين.
انتقادات المندوب الجزائري ودعوته إلى "محاسبة" تلك الأطراف، أثارت تساؤلات حول حقيقة ما يجري بين موسكو و الجزائر، وعما إذا كان التحالف التقليدي بين البلدين يمر بأزمة صامتة وغير مسبوقة؟
خلافات تطفو على السطح
يبدو أن جلسات هيئات الامم المتحدة باتت المنبر الأبرز الذي تطفو عليه خلافات روسية جزائرية في عدد من الملفات. فقد كان لافتا قبل بضعة أسابيع عندما ثار جدل ساخن بين مندوبي البلدين في مجلس الأمن الدولي على خلفية قضية مشاركة الملاكمة الجزائرية إيمان خليف في الألعاب الأولمبية في باريس.
كما توقف مراقبون عند الانتقادات التي وجهها مندوب الجزائر عمار بن جامع، الأسبوع الماضي لدور مجموعة "فاغنر" الروسية في عمليات الجيش المالي شمال البلاد على الحدود مع الجزائر، ودعوته إلى محاسبة "الجهات التي تسببت في قصف أكثر من عشرين مدنيا على حدود البلدين، جراء ما تقترفه بحق القانون الدولي الإنساني"، في إشارة واضحة منه لمجموعة "فاغنر" الروسية الخاصة المتحالفة مع الجيش المالي.
و ثمة أصداء أخرى للخلافات الروسية الجزائرية تُرصد خارج أروقة الأمم المتحدة، وأبرزها ما يحدث على الحدود الجزائرية الليبية، حيث لا تُخفي الجزائر قلقها من تحركات قوات الجنرال خليفة حفتر المدعوم من طرف "فاغنر" في شرق ليبيا، بمناطق جنوب البلاد ومحاولته السيطرة على مدينة غدامس الاستراتيجية في مثلث الحدود الليبية الجزائرية التونسية. ونقلت تقارير إعلامية عن مصادر مقربة من الجنرال حفتر، أن الجزائر ترفض رغبة روسيا في توسيع نفوذ قوات حفتر على المناطق المتاخمة للحدود الليبية الجزائرية. وتعتبر تحركات الجنرال حفتر ذات أهداف مزدوجة إذ يسعى من خلالها لتطويق الحكومة المركزية في طرابلس، المعترف بها من قبل الأمم المتحدة، بينما تهدف موسكو لفتح خطوط تحرك عناصر "فاغنر" في منطقة استراتيجية لمراقبة الأوضاع في منطقة الساحل والصحراء حيث تقيم موسكو تحالفا متناميا مع كل من مالي والنيجر وبوركينا فاسو.
وفي صيف العام الماضي، أثارت تصريحات أدلى بها وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إثر قبول عضوية كل من مصر والسعودية والإمارات العربية المتحدة وأثيوبيا في مجموعة "بريكس" خلال قمتها (أغسطس/آب 2023) في جنوب أفريقيا، وعدم قبول طلب الجزائر الانضمام للمجموعة، استياء الجزائريين عندما قال "إن المعايير التي أخذت في الاعتبار لدى مناقشة توسع مجموعة بريكس كانت تشمل وزن وهيبة الدولة ومواقفها في الساحة الدولية".
ويمكن القول بأن الدخان الذي يظهر على سطح العلاقات الروسية الجزائرية بقدر ما يحمل إشارات على وجود نار ينبعث منها، فهو ينطوي على أبعاد غير مسبوقة في علاقات تحالف تاريخية واستثنائية، رغم الاستمرارية في المشاورات والتعاون الثنائي والزيارات المتبادلة، بما فيها زيارات قام بها الرئيس عبد المجيد تبون ورئيس هيئة أركان الجيش الفريق أول السعيد شنقريحة في العامين الأخيرين إلى موسكو، مقابل زيارات قام بها وزير الخارجية سيرغي لافروف وقادة الجيش الروسي إلى الجزائر.
قصة علاقة استثنائية
تعود قصة العلاقات الجزائرية الروسية إلى حقبة كفاح الجزائريين ضد الاستعمار الفرنسي. وكانت بدايات دخول موسكو إبان حقبة الاتحاد السوفيتي على خط القضية الجزائرية مثيرة لحفيظة قيادة جبهة التحرير الوطني بسبب تركيز الحزب الشيوعي السوفيتي آنذاك على الخلاقة مع الحزب الشيوعي الجزائري.
لكن موسكو ستتدارك لاحقا بتوسيع دعمها للحكومة الجزائرية المؤقتة سواء في الأمم المتحدة أو عسكريا عبر حلفاء عرب (خصوصا عبر مصر جمال عبد الناصر). وستكون موسكو أول دولة تعترف باستقلال الجزائر ثلاثة أشهر قبل الاعتراف به رسميا من قبل الأمم المتحدة في الخامس من يوليو/تموز 1962.
ورغم نهج دولة الجزائر المستقلة توجهات اشتراكية واعتبارها تحت نفوذ المعسكر الاشتراكي خلال حقبة الحرب الباردة، إلا أنها ظلت حليفا صعبا بالنسبة للسوفييت، وذلك لأسباب من أهمها نزعة الجزائر الاستقلالية عن نفوذ القوى العظمى ونشاطها الحثيث في عقد السبعينيات من أجل تأسيس كتلة "العالم الثالث". كما أن التوجهات الاشتراكية التي كان بومدين ينتهجها في سياسته بلاده الداخلية، اتسمت بخصائص قومية ووطنية تتباين في بعض ملامحها مع النهج الاشتراكي السوفيتي.
وبرزت صعوبات أمام القيادة السوفيتية في إدارة العلاقة مع الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين؛ إذ تفيد وثائق عديدة أنه كان صعب المراس في مواقفه من الدور السوفيتي في محطات تاريخية من صراع الشرق الأوسط وخصوصا منها المتصلة بحربي 1967 و1973 بين إسرائيل والدول العربية.
ورغم اعتبارها حليفا صعبا للسوفييت، إلا أن الجزائر اعتمدت بشكل أساسي في بناء جيشها واقتصادها وبنياتها التحتية وتحالفاتها الإقليمية، على الدعم السوفيتي، مقابل درجات أقل بكثير من اعتمادها على شركاء غربيين مثل فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية.
وتعتبر المدرسة السوفيتية تاريخيا مرجعا للقيادات العسكرية والاستخبارية النافذة في سياسة الجزائر ونظامها السياسي، وذلك كنتيجة لرصيد العلاقات العسكرية في مستويات التسلح وتكوين كفاءات الجيش. ويُقدّر خبراء مؤشرات التأثير السوفيتي في تكوين أطر وقيادات الجيش الجزائري عبر الآلاف من الضباط والخبراء السوفييت الذين أوفدتهم روسيا للجزائر بهدف التكوين والتأطير، وآلاف من العسكريين الجزائريين المبتعثين إلى أكاديميات عسكرية روسية.
وحسب ما جاء في كتاب "الحروب السرية للاتحاد السوفيتي- أول موسوعة كاملة"، لمؤلفه ألكسندر أوكوروكوف نائب رئيس الجامعة للشؤون الأكاديمية في جامعة "سيبيريا" الطبية الحكومية، فقد شارك أكثر من عشرة آلاف ضابط سوفيتي من مختلف التخصصات، في عمليات التكوين والتدريب والتأطير للجيش بالجزائر، وكذلك عمليات الإشراف والصيانة العسكرية، منذ عام 1962 إلى عام 1990، وفق تقرير نشره موقع مركز الدراسات العربية الأوراسية.
ويعتمد الجيش الجزائري تاريخيا على ترسانة أسلحة روسية. وتفيد تقارير مراكز أبحاث متخصصة في الدراسات العسكرية والاستراتيجية بأن نسبة اعتماد الجيش الجزائري على الصناعات الحربية الروسية تتجاوز 80 في المائة.
كما سُجلت هذه النسبة أيضا على مستوى واردات الأسلحة التي تقتنيها الجزائر بوتيرة ملحوظة منذ أكثر من عشر سنوات، تجني منها الصناعات الحربية الروسية سنويا قرابة 10 مليار يورو. بعد فترة فراغ شهدتها العلاقات بين البلدين في عقد التسعينيات الذي أعقب تفكك الإتحاد السوفيتي ودخول الجزائر في العشرية السوداء.
وشهدت بداية الألفية الثالثة إنطلاقة جديدة للعلاقات الجزائرية الروسية جسدتها اتفاقية الشراكة الاستراتيجية التي وقعها الرئيسان فلاديمير بوتين وعبد العزيز بوتفليقة سنة 2001 في موسكو. وأعقبها اتفاق في سنة 2006 على إلغاء الديون الروسية على الجزائر. وذلك خلال أول زيارة يقوم بها الرئيس بوتين إلى شمال أفريقيا. ويرى فيها مراقبون بأنها كانت منعطفا أساسيا باتجاه تنامي علاقات روسيا بوتين مع دول المنطقة.
توجهات وحسابات متضاربة
رغم الالتقاء الموضوعي أو المنسق بين روسيا والجزائر في عدد من الملفات الإقليمية والدولية، مثل قضايا الأزمة بين الغرب وإيران، وتوافق الخيارات الأمنية والسياسية في مواجهة انتفاضات "الربيع العربي" ومن أبرز تجلياتها دعم نظام الرئيس السوري بشار الأسد، إلا أن سياسات موسكو والجزائر اعتراها التضارب في عدد من الملفات الاستراتيجية خلال السنوات القليلة الأخيرة، ويمكن رصدها في أربعة ملفات على الأقل.
أولها: تداعيات حرب أوكرانيا والتي تجسدت بالخصوص في اعتماد الدول الأوروبية على الغاز الجزائري كبديل للغاز الروسي، إذ أبرمت الجزائر صفقة تاريخية لتصدير الغاز مع إيطاليا وشركائها الأوروبيين. فيما اعتبر مؤشر على تصدع في تحالف البلدين ولاسيما على مستوى منتدى الدول المصدرة للغاز.
وأدى تراجع مخزون روسيا من الأسلحة والمعدات والذخيرة بسبب الحرب مع أوكرانيا، إلى تراجع صادرات الصناعة العسكرية الروسية، بنسب تفوق 80 في المائة، بحسب أحدث تقرير لمعهد ستوكهولم لأبحاث السلام SIPRI الذي أكد أن التراجع الأكبر في اقتناء الأسلحة ومتطلبات الصيانة بالنسبة للجزائر. كما شهد برنامج التدريبات والمناورات العسكرية المشتركة تقليصا ملحوظا.
ثانيا: عدم قبول عضوية الجزائر في مجموعة البريكس التي تعتبر روسيا والصين اللاعب الأكبر فيها، كمنظمة موازية للنفوذ في مواجهة الغرب.
ثالثا: استراتيجية "الزحف" الروسي في منطقة الساحل
يرصد محللون مؤشرات عديدة من خلال تحركات روسيا المتسارعة في القارة الأفريقية وخصوصا منطقة الساحل والصحراء، على نهج يصفه بعض الخبراء بعبارة عن "زحف". ويمكن رصده ميدانيا عبر نشر مجموعات "فاغنر" وتوسيع اتفاقيات التعاون العسكري والأمني وفي مجالات الطاقة والمعادن مع دول المنطقة.
وخلال القمة الروسية الأفريقية التي احتضنتها سانت بطرسبرغ في يوليو/تموز 2023، كان واضحا تركيز الرئيس بوتين على الشركاء الأفارقة "الجدد" بمنطقة الساحل والصحراء، حيث الدول مالي والنيجر وبوركينا فاسو، التي شهدت اضطرابات وانقلابات عسكرية، أدت إلى إزاحة النفوذ الفرنسي والأوروبي بشكل عام. ويرى تقرير لمركز "جيوبوليتيك مونيتور" (مقره كندا) أن تحرك موسكو في تلك المنطقة يشكل "مناورة استراتيجية من قبل روسيا لإعادة توجيه الصراع مع الاتحاد الأوروبي، وتحديدًا فرنسا، من أوكرانيا إلى منطقة غرب إفريقيا".
وعبر إبرامها لاتفاقيات في مجالات تعاون مختلفة، مثل الطاقة والتعدين وتجارة السلاح مع الدول الأفريقية وإحياء العلاقات التاريخية معها، تسعى موسكو في نفس الوقت لاستخدام القارة الأفريقية كقاعدة خلفية لتحركاتها الاستراتيجية المباشرة وغير المباشرة عبر أذرع موازية مثل مجموعة "فاغنر" تقليص النفوذ الغربي، ولكسب مزيد من المصالح التجارية عبر منتوجاتها من الصناعات الحربية والاستيلاء على ثروات طبيعية ومعادن نفيسة استراتيجية.
بيد أن التحركات الروسية لا تؤدي وحسب إلى تقليص النفوذ الغربي وخصوصا الفرنسي، بل تساهم بشكل ملحوظ في التأثير على دور الجزائر في منطقة الساحل والتي تعتبرها مجالا حيويا لها، وتلعب منذ عقود أدوارا إقليمية هناك سواء بفعل نفوذها على محيط حدودها المترامية بآلاف الكيلومترات مع تلك الدول أو في سياق تنسيق مع قوى غربية في قضايا أمنية مثل مكافحة الإرهاب. ففي العام الماضي أعلن المجلس العسكري الحاكم في مالي "إنهاء" اتفاق السلام الموقع عام 2015 في الجزائر مع الجماعات الانفصالية الشمالية وأبرزها فصائل الطوارق.
رابعا: تعتبر الأزمة الليبية، واحدة من الملفات التي تتباين فيها سياسة روسيا مع الجزائر ويدعم كل منهما الطرف المقابل في الصراع الدائر بين سلطتي الغرب الليبي (حكومة طرابلس) والشرق بزعامة الجنرال حفتر.
ما مدى عمق الخلافات الجزائرية الروسية؟
يرى محللون بأن الخلافات التي تظهر في الآونة الأخيرة على سطح العلاقات الروسية الجزائرية، تتجاوز البعد الظرفي للأحداث بسب ظهور متغيرات عميقة في توجهات روسيا وأولوياتها الجيواستراتيجية من ناحية وفي طبيعة المرحلة الصعبة التي تجتازها سياسة الجزائر وعلاقاتها الإقليمية بالخصوص.
ففي الوقت الذي تقوم فيه الشراكة الروسية الجزائرية على الجانب العسكري وبدرجة أقل في قطاع الطاقة، باعتبار روسيا الشريك العسكري الأول للبلد المغاربي الكبير، تلقي التحولات الجيوسياسية المتسارعة في العالم، خصوصا في ضوء حرب أوكرانيا وصراع الصين مع الغرب، بتداعيات عميقة على دور القوى الكبرى والمتوسطة وتحالفاتها، وتعتبر المنطقة المغاربية وشريط الساحل والصحراء ودول الشرق الأوسط، مسرحا واضحا لهذه التداعيات وخلالها تتعرض العلاقات الروسية الجزائرية لاختبارات صعبة؛ إذ يؤدي تنامي علاقات روسيا بدول عربية مثل الإمارات ومصر وحتى المغرب "خصم الأمس" في الحقبة السوفيتية والحليف التقليدي للغرب في شمال أفريقيا، إلى تراجع موقع الجزائر التي كانت لعقود تحظى بصفة أكبر شريك استراتيجي لروسيا. وذلك على خلفية مصالح متبادلة بين روسيا ودول أخرى منها الإمارات التي تعتبر المثال الأبرز على هذا التحول.
فقد نشرت صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية النافذة في أوساط المال والأعمال بنيويورك، خلال العام الماضي، تقريرا تحدثت فيه غسيل أموال روسية وتدفق الذهب وعمليات تهريب للنفط في دبي وأبوظبي وعن مكاسب مالية ضخمة تحققها دولة الإمارات من روسيا رغم العقوبات المفروضة عليها بسبب حربها على أوكرانيا. بل إن التطور الملحوظ في علاقات موسكو بأبو ظبي، بلغ "مستوى غير مسبوق"، وفق وصف الرئيس بوتين خلال زيارته مؤخرا إلى الإمارات التي تشهد علاقاتها بالجزائر منذ سنوات توترا ملحوظا على خلفية دعم الإمارات للمغرب في ملف الصحراء الغربية، ودورها الداعم للجنرال حفتر في الأزمة الليبية، كما لا تخفي الجزائر انتقادها لدور محتمل تقوم به الإمارات في دول الساحل والصحراء التي تشهد علاقاتها بالجزائر توترات مثل مالي والنيجر.
وفي العام الماضي قام وزير الخارجية الروسي بزيارة إلى مراكش للمشاركة في المنتدى الروسي العربي، الذي عقد في غياب الجزائر بسبب القطيعة مع الرباط. وكان لافتا أن انعقاد المنتدى الروسي العربي في المغرب، تزامن مع زيارات وفود دبلوماسية وعسكرية أمريكية متواترة للجزائر. كما يُسجل تطور متزايد في علاقات روسيا التجارية بالمغرب، وحياد سلبي إزاء ملف الصحراء الغربية، بعد عقود من الدعم السياسي والديبلوماسي للجزائر وجبهة البوليساريو.
وتؤشر التباينات في سياسة روسيا مع حليفتها التاريخية الجزائر، سواء في سياق مساعيها لتطوير علاقاتها مع البلدان المغاربية والعربية أو في استراتيجيتها بالقارة السمراء، بأن منطق المصالح هو العقيدة السياسية الحاسمة في توجيه السياسة الروسية بعيدا عن الاعتبارات التاريخية والأيديولوجية التي كانت توجه سياسة موسكو في الحقبة السوفيتية. ومن تبعات منطق المصلحة في السياسة الروسية أن تحالفاتها وحساباتها لا تقتصر على الشركاء التقليديين ومنافسة القوى الغربية في مواقع نفوذها التقليدي بالمنطقة، بل تضع أيضا في اعتباراتها اللعب على تناقضات دول المنطقة وصراعاتها الإقليمية مثل قضايا الأمن في منطقة الساحل والصحراء وملف الصحراء الغربية والأزمة الليبية.
مفترق طرق
تكتسي التحديات التي تواجه الجزائر في منطقة الساحل أبعادا استراتيجية معقدة، وهي منطقة تصنفها تقارير المؤسسات الدولية بالأكثر خطرا في العالم. فبينما تتنامي المخاطر الأمنية وتدفق الهجرة غير النظامية باتجاه أوروبا، عبر شريط الجزائر الحدودي مع دول الساحل والتي يمتد مسافة 1400 كيلومتر ويضاف إليها ألف كيلومتر حدود مع ليبيا. تؤدي المتغيرات الجديدة في صراع النفوذ بين الغرب وروسيا وشراسة دور هذه الأخيرة وخصوصا عبر مجموعة "فاغنر"، إلى تداعيات على حساب نفوذ الجزائر في محيطها بدول الساحل وحتى على الحدود مع ليبيا.
وبالمقابل فإن القوى الغربية تزيد من ضغطها من أجل تطويق التغلغل الروسي، وهو ما يمكن رصده من خلال نشاط العواصم الأوروبية وواشنطن ومن أبرزها تحركات قائد القوات الأمريكية في إفريقيا (أفريكوم)الجنرال مايكل لانغلي في الأشهر الأخيرة سواء في الأزمة الليبية أو في ملفات الأمن ومكافحة الإرهاب في منطقة الساحل. ونقلت تقارير صحفية عن قائد القيادة العسكرية لـ"أفريكوم"، مفاده أن الأمريكيين يبحثون عن حلفاء جدد في المنطقة بعد خروج القوات الأمريكية من النيجر مؤخرا.
وتكمن معضلة القوى الغربية والجزائر معا في أن الطرفين يتكبدان خسائر إستراتيجية بالمنطقة في مواجهة التغلغل الروسي، وفي نفس الوقت لا يبديان مستوى تنسيق وتعاون كبير بينهما. إذ ما تزال الجزائر حذرة في علاقاتها مع حلف الناتوولم تتجاوز العلاقات بينهما إطار "الحوار الاستراتيجي" الذي أُطلق قبل ثلاثة عقود ضمن مسار برشلونة المتوسطي. وتركز القوى الغربية في تعاونها مع الجزائر على ملفي مكافحة الإرهاب والطاقة، بيد أنها لا تُسقط من حساباتها احتمالات استخدام الجزائر للطاقة كسلاح للضغط في قضايا سياسية أو استراتيجية، على غرار ما حدث مع إسبانيا على خلفية تغيير موقفها في ملف الصحراء الغربية.
وبدورها تبدو علاقات الجزائر مع أهم شريك غربي: فرنسا، تراوح مكانها رغم المساعي التي بُذلت من الطرفين خلال السنوات الخمس الماضية. بل إن نُذر التوتر تخيم على الشراكة الاستراتيجية بين البلدين، بعد إعلان الرئيس إيمانويل ماكرون دعم فرنسا لمقترح الحكم الذاتي الموسع كإطار وحيد لتسوية نزاع الصحراء الغربية وفي إطار سياسة المغرب على الإقليم المتنازع عليه.
وفي هذا السياق، تبدو الجزائر التي تركز في اختياراتها الاستراتيجية على مفهومي "الاستقلالية" عن القوى الكبرى و"القوة الصلبة" المعتمدة على القوة العسكرية وموارد الطاقة، في مفترق طرق تاريخي.
ويطرح محللون سيناريوهات مختلفة لتطور رؤيتها وتحالفاتها في المستقبل، في ضوء العلاقات المضطربة مع جوارها الإقليمي جنوبا(دول الساحل) وغربا(المغرب)، والاختبار الصعب الذي تمر به علاقاتها مع الحليف التاريخي: روسيا، وصولا إلى حالة الحذر المزمن في علاقاتها مع الشركاء الغربيين. فهل تدفعها كل هذه المتغيرات إلى مراجعات في علاقاتها المغاربية باعتبارها الدائرة الأقرب للأمن الاستراتيجي، وتجاوز حالة الحذر الاستراتيجي مع القوى الغربية باتجاه تعميق التعاون وتطويره. أم أن الخلافات مع روسيا لن تذهب بعيدا في مداها وتعود المياه إلى مجاريها مع الحليف التاريخي بناء على تسويات وتنازلات متبادلة؟