4 ديسمبر 2024
28 سبتمبر 2024


في السنوات الأخيرة، أصبحت التصنيفات الأكاديمية تحتل مكانة بارزة في أوساط الباحثين والأكاديميين، ولا سيما تلك التصنيفات التي تدّعي أنها تقيم الأداء العلمي وتحدد من هم ضمن أفضل العلماء في العالم.

ولعل أشهرها ما يُعرف بـ"تصنيف ستانفورد"، والذي انتشر كالنار في الهشيم بين الباحثين العرب، ليغرق صفحاتهم على وسائل التواصل الاجتماعي بالتهاني والتبريكات، مرفقًا بعناوين لامعة مثل "ضمن أفضل 2% من علماء العالم".

لكن، هل هذا التصنيف يمثل حقًا معيارًا لتقييم الجودة العلمية؟ أم أنه مجرد وهم جديد تسوّق له بعض الأوساط الأكاديمية بهدف نيل الاستحسان وانتزاع الاعتراف بالتميز والتفرد؟

بادئ ذي بدء، يجب أن نفهم أن هذا التصنيف لا ينتمي إلى جامعة ستانفورد بأي شكل من الأشكال. فالقصة بدأت في عام 2019 عندما قام باحث من كلية الطب في جامعة ستانفورد، يدعى جون إيونيديس (John Ioannidis)، بالتعاون مع مؤسسة النشر العالمية "إلسيفير" (Elsevier)، بإجراء إحصاء نُشر لاحقًا في مجلة PLOS Biology.

ومنذ ذلك الحين، يتم تحديث هذا التصنيف سنويًا بالتعاون مع دار النشر "إلسيفير"، ويُنشر على مواقعها الرسمية.

المفارقة هنا أن التصنيف أخذ اسم "ستانفورد" كعنوان تسويقي بحت، دون أن يكون للجامعة أي دور رسمي في إعداده أو تبنيه. وبدلاً من ذلك، كان الأجدر أن يُطلق عليه "تصنيف إيونيديس وإلسيفير". ورغم ذلك، استغل بعض الباحثين هذا الاسم الرنان لجذب الأنظار وإضفاء هالة من التميز على أسمائهم.

من الأساليب التي يستخدمها البعض لتعزيز مكانتهم الأكاديمية هي التلاعب في عدد الاقتباسات. ومن هذه الحيل، النشر المشترك بين مجموعات بحثية بحيث يقوم كل فرد من المجموعة بالاقتباس من أعمال الآخرين في المجموعة نفسها بشكل متكرر، مما يرفع من معدل الاستشهادات بشكل اصطناعي.

في بعض الأحيان، يتم الترويج للأبحاث داخل المجلات من خلال ما يُعرف بـ"دوائر الاقتباس"، حيث تقوم مجموعة من الباحثين بالاتفاق على اقتباس أعمال بعضهم البعض لزيادة أرقامهم في قواعد البيانات البحثية.

الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، فهناك مجالات مثل العلوم الطبية والسلوكية يتم فيها النشر بشكل أسرع نسبيًا مقارنة بغيرها من التخصصات. هذا يعود لأسباب متعددة، منها طبيعة الأبحاث التي يمكن أن تنتج نتائجًا سريعة، وأيضًا لوجود مجلات علمية متخصصة كثيرة في هذه المجالات، والتي قد تكون أقل صرامة في معايير التحكيم مقارنةً بمجالات أخرى.

في بعض الحالات، تُنشر الأبحاث في هذه المجالات خلال أسبوعين فقط، ما يعزز من سرعة نشرها وعدد الاستشهادات بها، لكنه قد يؤثر سلبًا على جودة الأبحاث ومدى عمقها.

التفوق العلمي لا يُقاس بعدد الاستشهادات أو حتى بوجود اسم الباحث في قاعدة بيانات معينة. بل إن الحكم على أهل العلم والأساتذة يكون من خلال مسيرتهم العلمية الحقيقية، الجامعات التي عملوا بها، المراكز البحثية التي انضموا إليها، وعدد الطلاب الذين أشرفوا عليهم في رسائل الماجستير والدكتوراه، ومدى تميزهم في مسيرتهم الأكاديمية والمهنية.

فالجامعات الرائدة في العالم، التي تُعتبر معيارًا للتفوق، لا تستخدم هذا النوع من التصنيفات في تقييمها للباحثين أو توظيفهم.

وعلى العكس، نجد أن العديد من الباحثين الشباب الذين يدخلون ضمن هذا التصنيف، ما زالوا يبحثون عن فرص عمل في الخارج، دون أن يشفع لهم هذا التصنيف في الحصول على وظائف مرموقة تتناسب مع المكانة التي يدعونها.

التصنيفات الأكاديمية: غايات وأهداف

لا يمكن إنكار أن التصنيفات الأكاديمية تلعب دورًا في رسم صورة معينة للجامعات والدول. لكن علينا أن نميز بين الهدف الحقيقي من هذه التصنيفات، وما يتم الترويج له.

فالجامعات الكبرى في العالم لا تسعى لتحسين ترتيبها في التصنيفات العالمية بقدر ما تهدف إلى تقديم تعليم وبحث علمي عالي الجودة. أما في بعض الدول، فقد أصبحت هذه التصنيفات وسيلة للتباهي والمنافسة غير المجدية.

وإذا ما قارنا بين أفضل الجامعات في العالم وأفضل الباحثين وفقًا لهذا التصنيف، فلن نجد علاقة تُذكر. فالأمر لا يتعلق فقط بعدد الاستشهادات أو وجود الاسم في قاعدة بيانات، بل بتأثير الباحث الحقيقي في مجاله، وقدرته على تطوير العلم والمجتمع من حوله.

الأبحاث السريعة: الكم على حساب الكيف

في كثير من الأحيان، تساهم سرعة النشر في بعض المجالات، وخاصةً الطبية والسلوكية، في رفع عدد الأبحاث المنشورة، ولكنها لا تعكس بالضرورة الجودة العلمية. ففي هذه المجالات، تتوفر مجموعات بحثية كبيرة تعمل على مشاريع مشتركة، وكل باحث ينشر للأخر لتحقيق عدد كبير من الأبحاث في وقت قصير.

هذا النوع من التعاون قد يساعد في رفع الأرقام والإحصائيات، لكنه قد يكون على حساب العمق والجودة العلمية الحقيقية للأبحاث.

في المقابل، نجد أن الأبحاث في العلوم الاجتماعية والإنسانية غالبًا ما تحتاج إلى وقت أطول للتحكيم والنشر، قد يصل إلى سنتين أو أكثر، نظرًا لاعتمادها على أساليب بحثية نوعية ومناهج تحليل معمقة. هذا الفارق الزمني يعكس التحديات المختلفة التي تواجه كل مجال من حيث الكم والنوع، لكنه أيضًا يجعل من الصعب مقارنة الباحثين من مجالات مختلفة باستخدام نفس المعايير.

الختام: إلى أين نحن ذاهبون؟

في الختام، يجب أن ننظر إلى الأمور بواقعية وموضوعية. التصنيفات الأكاديمية ليست مقياسًا حقيقيًا للتميز العلمي، بل هي واحدة من بين العديد من المعايير التي يمكن النظر إليها. الأهم هو ما يقدمه الباحث من تأثير حقيقي ومستدام في مجاله، ومدى قدرته على تطوير البحث العلمي والمساهمة في تقدم البشرية.

علينا أن نعود إلى الأساسيات في تقييم أهل العلم: مسيرتهم، إنجازاتهم، وتأثيرهم. فالاعتراف الحقيقي لا يأتي من التصنيفات والإحصاءات، بل من الأثر الذي يتركه العالم في مجتمعه وفي مجال تخصصه.

 

الفيس بوك
تويتر

جميع الحقوق محفوظة YemenFreedom ---- تصميم وبرمجة ALRAJIHI