في تجمع في "لاتروب" بنسلفانيا، في وقت سابق من هذا الشهر، توقف الرئيس السابق دونالد ترمب أمام حشد يحمل لافتات كتب عليها "أنقذوا صناعتنا الفولاذية" لتقديم تحية لأحد مفاهيمه المفضلة.
قال ترمب إن "الرسوم الجمركية هي أجمل كلمة في القاموس.. أجمل من الحب... أجمل من الاحترام".
وأظهر ترمب ولعاً عميقاً بالرسوم الجمركية خلال رئاسته، إذ استخدمها كوسيلة لمعاقبة الحلفاء والمنافسين على حد سواء بينما كان يحاول إجبار الشركات على تصنيع منتجاتها في الولايات المتحدة.
وفي حال فاز بالرئاسة الأمريكية مرة أخرى في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، فإنه سيعد نهجاً أكثر عدوانية، يتمثل في قلب النظام التجاري بحيث لا تعود الولايات المتحدة شريكة في تدفق السلع العالمي، بل تصبح أمة تجارية تسعى لعزل نفسها عن العالم.
"رجل الرسوم الجمركية"
وصف الرئيس السابق نفسه بأنه "رجل الرسوم الجمركية"، وتحدث عن الرسوم الجمركية كحل لمجموعة من المشكلات، من جعل البلاد غنية تمول تخفيضات الضرائب ودفع كلفة رعاية الأطفال، لكن الأهم في رؤيته هو قدرة الرسوم الجمركية على عكس عقود من العولمة وإجبار المصانع على العودة إلى الولايات المتحدة.
وهدد ترمب بفرض رسوم جمركية مرتفعة على جميع البلدان، مع تخصيص أشدها للصين، من أجل رفع كلفة المنتجات الأجنبية ومحاولة إعادة ترتيب سلاسل التوريد العالمية، ويتوقع أن تؤثر رسومه في معظم الواردات الأميركية، التي تتجاوز قيمتها 3 تريليونات دولار من السلع.
ويمكن أن يساعد نهجه بعض الشركات التي تصنع منتجاتها بالفعل في الولايات المتحدة، إذ ستجعل كلفة الدخول أعلى للمنافسين الأجانب، لكن الأضرار المحتملة قد تفوقها في الكلفة، إذ يقول الاقتصاديون إن الرسوم الجمركية الشاملة التي يتصورها ترمب ستزيد بصورة كبيرة من أسعار الشركات المصنعة الأمريكية والأعمال التجارية التي يجب عليها شراء المواد والأجزاء من الخارج، وستمرر الأسعار المرتفعة إلى المستهلكين الأميركيين، مما سيؤثر بصورة خاصة على الفئات ذات الدخل المنخفض.
حروب تجارية
من المحتمل لخطة ترمب أن تثير حروباً تجارية متعددة، إذ سترد الدول الأخرى بفرض رسوم على السلع الأمريكية، وستؤدي هذه النزاعات التجارية إلى تقليل الصادرات الأمريكية، وتعطيل سلاسل التوريد العالمية، وزعزعة نظام التحالفات الذي عملت الولايات المتحدة على بنائه منذ الحرب العالمية الثانية.
وقال كبير الاقتصاديين في "موديز أناليتيكس" مارك زاندي، "الأمر بسيط جداً. إنها فكرة سيئة حقاً، وستدفع الاقتصاد الجيد بصورة استثنائية إلى هاوية، وسيمكث هناك حتى يجرى تطبيع التعريفات، وإذا ذهبنا في مسار حرب التعريفات، فإننا سننزل في مسار مظلم جداً للاقتصاد".
مع ذلك، فإن خطاب ترمب يلقى صدى لدى الناخبين، فعديد منهم صوت له عام 2016 بسبب وعوده بمعاقبة الصين وإلغاء اتفاقات التجارة الحرة القائمة مثل اتفاق التجارة الحرة لأمريكا الشمالية. وفي السنوات اللاحقة، اعتنق كل من الديمقراطيين والجمهوريين التعريفات، خصوصاً على المنتجات القادمة من الصين، كوسيلة لعكس عقود من التجارة غير المقيدة التي يقولون إنها أضعفت المدن الصناعية الأمريكية.
أما الرئيس بايدن فبعد انتقاده في البداية لتعريفات ترمب على أكثر من 300 مليار دولار من المنتجات الصينية، اختار الاحتفاظ بمعظمها، وأضاف القليل من تعريفاته الخاصة. وذكرت حملة نائب الرئيس كامالا هاريس أنها تخطط لاستخدام التعريفات بطريقة "مستهدفة"، على رغم انتقادها لخطة ترمب باعتبارها ضريبة على المستهلكين.
لكن نطاق ما يقترحه ترمب أكبر من أي زيادة في التعريفات لم نشهدها منذ ما يقارب قرن، إذ طرح "تعريفة شاملة" تراوح ما بين 10 و20% على معظم المنتجات الأجنبية، وتعريفات تصل إلى 60% أو أكثر على الصين. ولمنع السيارات الصينية من دخول الولايات المتحدة عبر المكسيك، قال إنه سيفرض "أي تعريفات مطلوبة - 100%، 200%، 1000%".
وقال ترمب في وقت سابق من هذا الشهر إن ارتفاع التعريفات سيكون أفضل في دفع المصانع للعودة إلى الولايات المتحدة، مضيفاً "هناك نظرية أخرى هي أن التعريفات تجعلها مرتفعة للغاية، مروعة، ومزعجة، بحيث ستأتي على الفور".
"قنبلة يدوية في قلب النظام الدولي"
وتحدث ترمب بإيجابية عن حلقة سابقة في التاريخ الأمريكي، إذ كانت الحكومة تكسب إيراداتها من التعريفات بدلاً من ضرائب الدخل. وفي "بودكاست" الجمعة الماضي، ادعى أن الولايات المتحدة كانت "الأغنى" في ثمانينيات وتسعينيات القرن الـ19، ومدح الرئيس ويليام ماكينلي، الذي قال ترمب إن تعريفاته حققت كثيراً من الأموال لدرجة أننا "لم نكن نعرف ماذا نفعل بها".
لكن المؤرخين يقولون إن الرأي العام بدأ يتجه ضد التعريفات العالية في أوائل القرن الـ20 جزئياً لأنها زادت من المحسوبية وأثقلت كاهل المستهلكين الأميركيين، إذ أدت التعريفة الشاملة "سماوت - هولي" لعام 1930 إلى رفع الرسوم الجمركية لحماية المزارعين الأمريكيين والشركات الأخرى، مما أدى إلى اندلاع حرب تجارية تفاقمت معها الكساد الكبير، ومنذ ذلك الحين، عمل المسؤولون الأمريكيون عادة على تقليل الحواجز التجارية.
وقال الزميل البارز في معهد "بيترسون للاقتصاد الدولي"، والرئيس السابق لقسم الاقتصاد في صندوق النقد الدولي، موريز أوبستفيلد، إن الإجراءات أحادية الجانب لترمب قد تؤدي إلى نوع من الفوضى العالمية، إذ ستتخلى الدول عن قواعد التجارة وتتجاهل المنظمات الدولية، مضيفاً "إن نظام التعريفات الشاملة سيكون حقاً قنبلة يدوية تلقى في قلب النظام".
ستزيد خطط ترمب الكلفة على المستهلكين، إذ قدرت إحدى الدراسات من معهد "بيترسون للاقتصاد الدولي" أن الكلفة السنوية ستصل إلى 2600 دولار لأسرة أمريكية نموذجية، بينما قدرت دراسة أخرى من مختبر "ييل للموازنة"، وهو مركز بحثي غير حزبي، أن الكلفة السنوية تراوح ما بين 1900 و7600 دولار لكل أسرة.
التعريفات الجمركية والناخبون
وفي عامي 2018 و2019، استجابت الحكومات حول العالم لاستفزازات ترمب بفرض تعريفات جمركية خاصة بها على المنتجات الأميركية، التي تراوحت ما بين الدراجات النارية والويسكي، وكانت هذه الردود مؤلمة بصورة خاصة للمزارعين الأميركيين، مما دفع ترمب إلى تقديم 23 مليار دولار لهم للمساعدة في تعويض خسائرهم. وفي الأشهر الأخيرة، بدأت الجهات الحكومية في أوروبا وكندا والصين وغيرها بالفعل في إعداد قوائم بالمنتجات الأمريكية التي قد تفرض عليها ضرائب في المقابل.
أدرك ترمب بوضوح أن التعريفات الجمركية تجذب بعض الناخبين، خصوصاً أولئك في الولايات المتأرجحة في الشمال الذين يعدون ضروريين في الانتخابات، وأظهر استطلاع للرأي أجرته كل من "بلومبيرغ" و"مورنينغ كونسلت" في أواخر سبتمبر/ أيلول الماضي، أن الغالبية العظمى من الناخبين المحتملين في الولايات المتأرجحة يؤيدون بشدة أو إلى حد ما فرض تعريفات بنسبة 10% على جميع الواردات.
واقترح بعض الأكاديميين أن الناخبين يرون في التعريفات علامة على وقوف السياسيين إلى جانبهم ضد الدول الأجنبية، حتى وإن لم تكن تعود عليهم بفوائد اقتصادية.
وقال الاقتصادي في كلية سلون لإدارة الأعمال بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا سايمون جونسون لصحيفة "نيويورك تايمز"، والذي حصل على جائزة نوبل هذا الشهر، إن الناس "مرتبكون قليلاً لأن ترمب يقول إن هذه التعريفات ستدفع من قبل الشركات الأجنبية".
وأضاف جونسون، الذي انضم إلى 22 اقتصادياً آخرين فازوا بجائزة نوبل في رسالة هذا الشهر تصف أجندة هاريس الاقتصادية بأنها "أكثر تفوقاً بكثير" من أجندة ترمب، قائلاً "لكن للأسف، يبدو أن الناس لا يدركون ذلك".
وقالت المتحدثة باسم اللجنة الوطنية الجمهورية آنا كيلي في بيان إن تعريفة ترمب "خلقت وظائف، وأثارت الاستثمارات، ولم تؤد إلى أي تضخم".
فرض التعريفات
وأضافت، "عارضت هاريس دائماً فرض التعريفات لأنها لا يمكن الوثوق بها لوضع العمال في المقام الأول، ولكن الرئيس ترمب سيعيد الوظائف الأمريكية إلى البلاد، ويحافظ على خفض التضخم، ويرفع الأجور الحقيقية من خلال تخفيض الضرائب، وقطع اللوائح، وإطلاق العنان للطاقة الأمريكية".
ويدعم بعض المصنعين في الولايات المتحدة خطط ترمب لأن التعريفات ستساعدهم في الحماية من المنافسة الأجنبية. وبحسب ائتلاف "أمريكا المزدهرة"، وهي مجموعة تجارية مؤيدة للتعريفات، فإن فرض تعريفات بنسبة 10% على جميع المنتجات الأجنبية سيخلق 2.8 مليون وظيفة، ويولد 728 مليار دولار من النمو الاقتصادي. ويقول المؤيدون إن التعريفات الأميركية عادة ما تكون أقل من تلك التي تفرضها دول أخرى، وسعت الشركات الأميركية التي تصنع خزائن المطبخ، والصلب، والجينز للحصول على هذه الحماية.
ومع ذلك، تقول شركات أخرى إن ارتفاع كلفة الأجزاء والمواد الأجنبية قد يؤثر سلباً في جهودها لصنع المنتجات في الولايات المتحدة، فعلى سبيل المثال، وجدت شركة "كينت إنترناشيونال"، التي تتخذ من نيوجيرسي مقراً لها وتصنع الدراجات في الصين وكذلك في الولايات المتحدة، نفسها في موقف غريب بعد أن فرض ترمب تعريفات على الدراجات وأجزاء الدراجات كجزء من نزاعه التجاري مع الصين عام 2018.
وقال الرئيس التنفيذي للشركة أرنولد كاملر، للصحيفة، إن الشركة تمكنت من الحصول على استثناء من التعريفات المفروضة على الدراجات التي تصنع في الصين واستيرادها كاملة، لكنها لا تزال مضطرة إلى دفع تعريفات تراوح ما بين 20 و25% على أجزاء الدراجات التي تجلبها من الصين لتجميعها في مصنعها في كارولاينا الجنوبية.
وأشار كاملر إلى أنه "بالمثل، كان بإمكان منافسي كينت إنترناشيونال استيراد الدراجات الكاملة من تايوان أو فيتنام دون دفع أي من التعريفات المفروضة على الصين، مما يعني أن سياسة تهدف إلى دعم المصنعين الأمريكيين كانت بالفعل تضع المصنع في كارولاينا الجنوبية في وضع غير مُواتٍ".
وقال، "كانت إدارة ترمب فخورة جداً بالقول إن الصين هي من تدفع التعريفات، وكنت دائماً سريعاً في القول: حسناً، إذا أراد شخص ما في الصين دفعها، سأكون سعيداً، لكننا نحن من ندفعها".
إلا أن بعض المحللين يشككون في ما إذا كان ترمب سيتابع خططه، قائلين إن التهديدات قد تكون مجرد ضجيج أو تكتيك للتفاوض، لكن ترمب دعا إلى فرض التعريفات لعقود من الزمن، وخلال فترة وجوده في البيت الأبيض، لم يتردد في فرض ضرائب على الدول الأخرى، إذ رفع التعريفات على الواردات من الصين، إضافة إلى المعادن، والغسالات، والألواح الشمسية.
وكان يفكر في إغلاق الحدود مع المكسيك بسبب مخاوف الهجرة والانسحاب من منظمة التجارة العالمية، وكان يتفاوض باستمرار مع زعيم الصين شي جينبينغ حول العقوبات المتعلقة بالأمن القومي.
ترمب وإلغاء اتفاقات دولية
في حين أن بعض الأفكار الأكثر اضطراباً لترمب خلال فترة ولايته، مثل إلغاء اتفاق التجارة الحرة لأميركا الشمالية (نافتا)، جرى كبحها من قبل مستشارين مؤيدين للتجارة ممن أخذوا أوراقاً من مكتبه وأحضروا خرائط لتوضيح أهمية التجارة لقواعده الانتخابية.
وفي حالة فوزه بولاية ثانية، قد لا يكون ترمب سهل الانقياد كما كان من قبل، ويقول قانونيون إنه لديه السلطة لفرض تعريفات شاملة، وشعر بالتشجيع من القوة الاقتصادية خلال ولايته الأولى، إذ قال "فرضنا تعريفات تاريخية من دون تأثير في أسعار المستهلكين أو التضخم".
وقال كبير المستشارين لحملة ترمب بريان هيوز في بيان، "تنبيه الزمن تماماً مثل عام 2016، كانت (وول ستريت) وتوقعات المحللين تقول إن سياسات ترمب ستؤدي إلى نمو أقل وتضخم أعلى، وأخذت وسائل الإعلام هذه التوقعات على محمل الجد، ولم يجرى تصحيح السجل عندما تفوق النمو الفعلي وزادت الوظائف بصورة واسعة على هذه الآراء".
إلا أن عديداً من الاقتصاديين يختلفون مع هذا الرأي، مشيرين إلى أنه على رغم أن الزيادة في أسعار المستهلك نتيجة لتعريفات ترمب السابقة كانت صغيرة مقارنة بالاقتصاد الأمريكي، فإنها حدثت، وأن خططه المقبلة قد تغطي 10 أضعاف السلع.