"المشقر" هو حزمةٌ من أغصان النباتات العطرية التي تتنوع وتتفاوت في أشكالِها وروائحِها وألوانِ أزهارِها. و"المشاقر" في الموروث الثقافي علاجٌ روحيّ، وطاردةٌ للأرواح الشريرة، وتعويذةٌ من السحر والمس والشياطين، وعليها تعتمد كثيرٌ من وصفات الطب الشعبي.
"المَشَاقِر" في اليمن جَمْع "مَشْقُر"، وهو حزمةٌ من أغصان النباتات العطرية التي تتنوع وتتفاوت في أشكالِها وروائحِها وألوانِ أزهارِها. يضعُه الرجال والنساء على رؤوسهم وبين طيّاتِ ملابسهم طلباً للزينة والرائحة الطيبة (1).
و"المِشْقار" مكانٌ خاصّ بزراعة هذه النباتات، بعد أن تُنْقل إليه كومة ترابٍ من أرضٍ جيدة، موضعه في مساحةٍ صغيرةٍ من فناء البيت، مسورة بأحجارٍ صغيرة أو أغصانٍ شوكية للحفاظ عليه من المواشي. وقد يتموضعُ في واحدةٍ من زوايا سطح البيت المطلّة على الفناء الخارجي، إمّا على السطح مباشرةً، أو تُوَزَّع كومة ترابه على أوانٍ من الصفيح والفخار.
تتولّى المرأة عمل "المشقار"، بدءً بنقل احتياجه من التراب، وزراعته، ثم تعهده بالرعاية والتشذيب، والسقي المنظم صباح كل يوم. وكذلك قيامها بعملية نبْشِه، من حينٍ إلى آخر، لتزويده بسمادٍ خاص من فضلات المواشي يعمل على تسريع نموه. ثم اضطلاعها بعملية القطف، وفقاً لطرائقه الصحيحة. فالمسافة التي يتم قطفُها من الغصن تختلف من نوعٍ إلى آخر، والإلمام بذلك ضروريّ لضمان الإيناع المتجدد في الأغصان. فالغصن الذي يتم قطْفُه بشكلٍ خاطئ يفقد صلاحية نمو غصنٍ جديد مكانه.
في مناسبات الميلاد ـ بعد أسبوعٍ من ولادة الجنين ـ تزور النساء أمَّه حاملاتٍ إليها الهدايا، مزدانات بـ "المشاقر". وفي بعض المناطق تبقى "المشاقر" إلى جوار المرأة النفساء على مدى أسابيع من وضعها لمولودها، مع العناية بنباتات عطرية خاصة، رسَّخَتْ فيها الثقافةُ الشعبيةُ الدلالةَ على الخيرِ والبركة وحراسة المواليد وحماية البيوت، كما رسَّختْ فيها الرمزيةَ إلى السعادة والتجدد والخصوبة.
ومع كل عملية قطفٍ للغصون اليانعة، تحرص المرأةُ على وضعها حزماً موزّعة على نوافذِ البيت وأماكن متفرقة منه، في زجاجاتٍ أو علبٍ بلاستيكية أو معدنية تحوي قليلاً من الماء، يحول دون جفافها وفقدان رونقها ورائحتها الزكية.
استخدامٌ متنوع
تتنوع نباتات "المشقار" في اليمن وتختلف تسمياتها من منطقةٍ إلى أخرى، كما تتنوع استخداماتها، فمنها ما يجمع استخدامه بين الزينة وبين تجهيز بعض أصناف المائدة الشعبية الريفية، من مثل "الريحان" (2) و"الفيجل" (3). ومنها ما يقتصر استخدامه على تجهيزِ المائدة الشعبية، من مثل "النعناع" وسواه، أو يقتصر استخدامه على الزينِة وحدها، بما في ذلك الأنواع الثانوية التي تفتقر إلى الرائحة العَطِرة، والتي لا تزيد عن أن تكون زهرةً حمراء أو بيضاء كزهرة "الرند"، أو زهرة برتقالية كزهرة "النرجس".
زينةُ النساء والرجال
يستخدم الريفيون اليمنيون ـ رجالاً ونساء ـ "المشاقر" كلٌّ بطريقته المناسبة، للزينة والتعبير من خلالها عن السعادة. فمنذ أقدم العصور ـ حتى اليوم ـ تعدّ هذه النباتات من أهم مواد زينة المرأة، تضعها على الجبين أو أعلى الأذن بجانب الخدود، فتُرى من خلال ما تضعه على رأسها من غطاء. أما الرجل ـ لا سيما الكبير في السن ـ فإنه يغرز "المشْقُر" بشكلٍ عمودي في "عمَامته" ـ غطاء الرأس ـ أو فتحات كوافي الخيزران أو قوافع الخواص والسعف، أو في الشَّعْر مع تثبيته بطوقٍ فضيٍّ يُسمى "العكاوة" ومن الرجال مَنْ يضع غصون "الريحان" في الجيب العلوي للمعطف. ويختلف "مَشْقُر" الرجل عن "مَشْقُر" المرأة في مكوناته التي تقتصر على "الريحان" و"البياض" و"الأزاب".
ارتباط تاريخيّ وثقافي
الارتباط التاريخي بين الإنسان اليمني وبين "المشاقر" ضاربٌ في التاريخ القديم، الذي كان اليمن فيه مهداً لواحدةٍ من أقدم الحضارات، حيث كان اليمنيون القدامى يصنعون من نباتات "المشاقر" المواد العطرية، ويستخدمون بذورها وأزهارها وأوراقها الجافة في صناعة البخور والطيب ودهانات الجسم.
في مناسبات الزواج، يستهل الشاب الطريق إليه ـ في بعض المناطق ـ بإهدائه "المَشْقُر" إلى الفتاة التي يرغب في الزواج منها تعبيراً عن الحب والإخلاص والوفاء. ومما ارتبط بهذا السياق من العادات القديمة عدم قبول الفتاة هذا النوع من الهدايا إلا إذا كانت قابلةً بالشاب زوجاً مستقبليّاً.
لقد تقادم هذا الارتباط التاريخي، فكان وراء حرصهم على زراعة هذه النباتات كجزء أصيلٍ من تراثهم الممتد إلى حاضرهم، والفاعل في ثقافتهم وعاداتهم وتقاليدهم وأعيادهم ومناسباتهم وطقوسهم الدينية والاجتماعية، بما في ذلك المناسبات المتعلقة بثلاثية الأحداث المصيرية والوجودية: الميلاد، الزواج، الموت.
في مناسبات الميلاد ـ بعد أسبوعٍ من ولادة الجنين ـ تزور النساء أمَّه حاملاتٍ إليها الهدايا، مزدانات بـ "المشاقر". وفي بعض المناطق تبقى "المشاقر" إلى جوار المرأة النفساء على مدى أسابيع من وضعها لمولودها، مع العناية بنباتات عطرية خاصة، رسَّخَتْ فيها الثقافةُ الشعبيةُ الدلالةَ على الخيرِ والبركة وحراسة المواليد وحماية البيوت، كما رسَّختْ فيها الرمزيةَ إلى السعادة والتجدد والخصوبة.
أمّا مناسبات الزواج، فإن الطريق إليه يستهلّه الشاب ـ في بعض المناطق ـ بإهدائه "المَشْقُر" إلى الفتاة التي يرغب في الزواج منها تعبيراً عن الحب والإخلاص والوفاء. ومما ارتبط بهذا السياق من العادات القديمة عدم قبول الفتاة هذا النوع من الهدايا إلا إذا كانت قابلةً بالشاب زوجاً مستقبليّاً.
وتتصدر "المشاقر" مراسيم الزفاف زينةً للنساء وللعروس التي تظهر ممسكةً بحزمةٍ منها، كما تُنْثَر زهور "المشاقر" على العروسين تداعياً مع الاعتقاد السائد في أن "المشاقر" مفتاحٌ لعلاقةٍ زوجية مستقرة وسعيدة، وحرزٌ للعروسين من العين والحسد، وطلاسمِ الأعداء. فـ "المشاقر" في الموروث الثقافي علاجٌ روحيّ، وطاردةٌ للأرواح الشريرة، وتعويذةٌ من السحر والمس والشياطين، وعليها تعتمد كثيرٌ من وصفاتِ الطب الشعبي (5). كما أنّ لها حضورها في مناسبات الموت، حيث تُنْثرُ أنواعٌ منها على جثمان المتوفى، وتُوْضَع كمياتٌ أخرى بجانبه في التابوت أو في القبر.
وترتبط "المشاقر" في الثقافة الشعبية والأدب الشعبي بجمال المرأة وأنوثتها، وبالعشق والغرام، لذلك كانت عناوين لبعض دواوين الشعر الشعبي (6) الذي أقام عليها كثيراً من نصوصه وأغانيه، التي تماهى فيها جمال الزهر في جمال المرأة: "خدودْ مثل الوردْ.. ضوء الفجر سَقّاها.. وأعطاها المشاقرْ حَرَسْ" (7).
مصدرٌ للدخل
يُمثِّل بيع "المشاقر" مصدر دخل رئيس عند بعض الأسر اليمنية، ويعدّ جبل "صبر" جنوب محافظة تعز من أشهرِ مناطقِ زراعتها في اليمن. وعلى طولِ الطريقِ الأسفلتي المؤدي إلى أعلى قمةٍ فيه ـ "قمة العروس" ـ يصطفّ الأطفال بائعو "المشاقر"، وهم يُلَوِّحون بها لزائري الجبل.
تُباع "المشاقر" في الأسواق اليمنية القديمة وأشهرها: "باب موسى" و"الباب الكبير" في محافظة تعز، وأشهر أماكن بيعه في صنعاء "باب اليمن"، و"شعوب"، و"القاع"، حيث تتجمع عشرات النساءِ القادمات من أرياف صنعاء، لا سيما من قرى مديرية "بني حُشَيْش"، التي تُزرع فيها "المشاقر" بكثافة.
تظاهرةٌ ومهرجانٌ وعيدان
حظيتْ "المشاقر" في اليمن باهتمام رسمي وشعبي. فعلى رواق بيت الثقافة بصنعاء، نظَّم بيت الموروث الشعبي في تموز/يوليو 2008 فعاليات "تظاهرة المشاقر" على مدى يومين، بدعمٍ من الصندوق العالمي للمرأة. وفي افتتاحية التظاهرة، أشار الدكتور عبد العزيز المقالح إلى ما تُمَثِّلُه مِن موسوعةٍ تاريخية بالغة الأهمية عن المرأةِ اليمنية.
وبعد مرور عامين على تلك التظاهرة، انطلق من جبل "صبر"، في الثالث عشر من حزيران/ يونيو 2010 "مهرجان الرياحين الثقافي الأول" الذي نظمته السلطة المحلية في محافظة تعز. بدأ تدشينه بالأهازيج والإيقاعات الموسيقية التراثية، واستقبالِ الضيوف بالرياحين والورود رمزاً إلى المحبة والسلام. وهدف إلى إحياء التراث الشعبي من خلال فعالياته، التي بلغت أربع عشرة فعالية متنوعة، واستمرت ستة أيام. وفيه دعَتْ رئيسةُ بيتِ الموروثِ الشعبي الأستاذة أروى عبده عثمان إلى ضرورة إعادة انتفاضة "المشاقر".
وبعد أربعة أعوامٍ من دعوتها تلك، أطلقت ـ في أول يوم من استلامها منصب وزيرة الثقافة اليمنية 23 تشرين الثاني /نوفمبر 2014 ـ مشروعَ "مَشْقُر" لنشر ثقافة السلام. وبعد بضعة أشهر اندلعت الحرب في آذار/ مارس2015، فلم يظهر اهتمامٌ بـ "المشاقر" حتى العام 2019، الذي أنشأت فيه الفنانة هاجر نعمان مع مجموعة من أصدقائها فرقتهم الموسيقية "مشاقر تعز"، الهادفة إلى إحياء التراث الشعبي.
كما أطلق فيه عدد من المثقفين والناشطين اليمنيين على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" مبادرة، دعوا فيها اليمنيين إلى تغليب لغة "المشاقر" على لغة البارود. وبعد أن نالت مبادرتهم تفاعلاً وانتشاراً في الفضاء الافتراضي، حددوا تاريخ الأول من حزيران/ يونيو عيداً لـ "المشاقر" في اليمن، يتم فيه الاحتفال بها كل عام، ودشنوا احتفالهم الأول على مواقع التواصل الاجتماعي في العام نفسه.
حال وباء كوفيد19 دون الاحتفال بهذا العيد في موعده من العام 2020 وأُجِّلَ إلى التاسع من أيلول/سبتمبر حيث أُقيم الاحتفال به في مدينة تعز، وشارك فيه عدد من الأدباء والإعلاميين والمثقفين والناشطين والأطفال، كما تم توزيع "المشاقر" في الشوارع وعددٍ من الأماكنِ العاِمة كرسالة سلام ومحبة.
أطلق عدد من المثقفين والناشطين اليمنيين على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" مبادرة، دعوا فيها اليمنيين إلى تغليب لغة "المشاقر" على لغة البارود. وبعد أن نالت مبادرتهم تفاعلاً وانتشاراً في الفضاء الافتراضي، حددوا تاريخ الأول من حزيران/ يونيو عيداً لـ "المشاقر" في اليمن، يتم فيه الاحتفال بها كل عام، ودشنوا احتفالهم الأول على مواقع التواصل الاجتماعي في العام نفسه.
انقسم الاحتفال بعيد "المشاقر" في العام 2021 على كلا التاريخين، وتكرر الأمر ذاته في العام الحالي 2022. وعلى ما في هذا الانقسام من سلبية في تشتيت الجهود، إلا أن لغة "المشاقر" ـ لغة الحب والسلام ـ هي اللغة التي سار عليها الاحتفال في ضِفَّتِي انقسامه الزمنيتين هاتين، وفي ذلك إحالةٌ على أهمية "المشاقر"، وفاعلية لغتها الإنسانية في وجه الحرب، التي لم يَلُحْ لها أفق انتهاءٍ حتى وقد بلغتْ عامَها الثامن.
"السفير العربي"