قبل المبارة إلى حصر نتائج العمليات الأمريكية واستشراف مساراتها المستقبلية، سيكون من المهم العودة ثلاث سنوات إلى الوراء لفهم السياق الاستراتيجي الذي جعل بايدن صبورا تجاه الحوثيين، ورصد المتغيرات التي طرأت اليوم على هذا السياق ودفعت ترامب لأن يكون حازما معهم.
ونقطة الانطلاق ستكون العام 2022؛ حينما أعنلت الولايات المتحدة وثيقة أمنها القومي والتي ركّزت على تحقيق الردع المتكامل ضد الصين في منطقة الاندوباسفيك؛ وقد اقتضى ذلك تكثيف الانتشار البحري في المحيط الهندي وصولا إلى تخومه الشمالية الغربية، وتحديدا منطقة باب المندب والبحر الأحمر.
وفي نفس العام، أسست واشنطن فرقة العمل المشتركة 153 المسؤولة عن تامين الملاحة ومكافحة الإرهاب في منطقة باب المندب والبحر الأحمر. و في أغسطس 2023 ضاعفت واشنطن من قوام أسطولها الخامس الذي يبلغ 3500 جندي وضابط ، وأرسلت 3000 عنصر إضافي للانتشار في البحر الأحمر.
وفي سياق هذا التموضع الأمريكي، مثل التصعيد الحوثي فرصة ذهبية لواشنطن كي تواصل عسكرتها للبحر الأحمر، وبصورة قانونية هذه المرة. لذا فقد التزم بايدن بقواعد اشتباك ودودة تساهم في تخفيف أضرار العمليات الحوثية، مع الاستفادة من استمرارها لتعزيز مصداقية واشنطن كقوة دولية خيّرة وضامنة لأمن الملاحة العالمية.
وفي يناير من العام الماضي، نجحت واشنطن في اكتساب الشرعية بعد صدور قرار مجلس الأمن رقم (2722)، والذي أكد على "حق الدول الأعضاء في الدفاع عن سفنها ضد الهجمات، وأثنى على الجهود التي تبذلها الدول الأعضاء في تعزيز سلامة السفن التجارية ومروها بأمان عبر البحر الأحمر. وشجع القرار أيضا مواصلة الدول الأعضاء بناء وتعزيز قدراتها".
لقد شكلت هجمات الحوثيين مصلحة مشتركة بين إيران وأمريكا لاستعراض نفوذهما الجيوسياسي في البحر الأحمر. أما بقية الأطراف العربية والغربية فقد حاولت الاستفادة تكتيكيا من هجمات الحوثي؛ و ذلك لتعزيز سرديتها الضاغطة على اسرائيل، والتي ظلت تربط عودة الاستقرار الإقليمي بوقف الحرب في غزة. أما استراتيجيا فقد حاولت هذه الدول الحفاظ على استقلالها امام الهيمنة الامريكية وقد رفضت الانخراط في مباردة حارس الازدهار.
وقد تمسك بايدن ، طوال العام 2024، بقواعد الاشتباك الودودة مع الحوثي، خشية التدحرج إلى مواجهة إقليمية أكبر مع إيران في ظل "وحدة الساحات"، ولتأكيد حسن نيته لاستئناف المفاضات النووية وتحييد طهران عن الحلف الروسي الصيني.
وفي حين حرصت الإدارة الأمريكية السابقة على تعزيز هيمنتها العسكرية في البحر، فإنها تجنبت استخدام القوة على الأرض كي تحرم موسكو من فتح جبهة استنزافية جديدة في الشرق الأوسط وتواصل توجيه مجهودها الحربي (ماليا وتسليحيا) لدعم اوكرانيا.
لكن هذا السياق الدولي والإقليمي تبدل بشكل عميق مع مجيئ الرئيس ترامب ونجاحه في وقف الحرب الإسرائيلية على غزة؛ وبالتالي صارت عمليات الحوثيين تحديا استراتيجيا لواشنطن بعد أن كانت بالأمس فرصة جيوسياسية.
لقد استفاد ترامب من إرث بايدن بتكويس الهيمنة البحرية الأمريكية في المنطقة ومنحها بعدا شرعيا. كما استفاد أيضا من تفكك محور المقاومة في الجبهة الشامية وسقوط مبدأ "وحدة الساحات".
واستطاع ترامب التخفف من أعباء الصراع العسكري في أوكرانيا، ما أكسبه قوة دفع إضافية نحو سياسة "الضغوط القصوى" ضد إيران وشبكة وكلائها، بدءً من العقوبات الاقتصادية، ووصلا إلى التلويح بالخيار العسكري (والذي يتجلى اليوم في الساحة اليمنية).
لم يجد الحوثيون قراءة السياق الاستراتيجي الجديد، ربما بسبب العمى الايديولوجي، وربما بسبب غرور القوة، أو ربما وقعوا ضحية لمقامرات الحرس الثوري.
ومنذ تصنيفهم كجماعة إرهابية، بادر الحوثيون إلى الدخول في اختبارات قوة متدرجة. وفي فبراير الماضي أطلقت جماعة الحوثي صواريخ سطح- جو على طائرة مقاتلة أمريكية وطائرة مسيرة من طراز إم كيو-9 ريبر. ثم في مارس أعلنوا عن استئناف عملياتهم في البحر الأحمر، و حاولوا اختبار صبر واشنطن من خلال القيام بعملية محدودة دون تبنيها بشكل صريح.
لقد حاول الحوثيون استنساخ تجربتهم في أكتوبر 2023، إذ أنهم مع كل مره كانوا يطمئنون فيها إلى ردود الفعل الأمريكية، يذهبون خطوة إضافية في التصعيد. لكن ترامب قرر هذه المرة المبادرة إلى تغيير قواعد الاشتباك وفرض معادلة ردع تتراوح بين أربعة مستويات متدرجة:
1- استهداف البنية التحتية العسكرية
2- استهداف البنية التحتية المدنية
3- تصفية القيادات وقطع الرؤوس
4- دعم مناورة برية لتحرير أراضي جديدة.
وتمثل عمليات الأمس رسالة صريحة حول جدية الردع الترامي؛ وبقدر ما سيغامر الحوثيون بالتصعيد المضاد فإنهم سيجازفون بتجرع مستوى أقوى من الرد.
والخلاصة ،التي لا يبدو أن قيادة الحوثيين تستوعبها حتى الآن؛ أن أمريكا لم تعد مستفيدة من ضبط النفس، وأن إيران لم تعد قادرة على حماية وكلائها أو ردع خصومها.
أما الدول العربية -والتي مارست ضغوطا حقيقة على إدارة بايدن لضبط النفس في اليمن و التركيز على غزة كاولوية قصوى- سوف تقف اليوم رسميا على الحياد كما انها ضمنيا قد تؤيد ترامب ؛ لأنها تدرك أن سلوك الحوثيين المتهور هو بالضبط ما يحتاجه نتنياهو كي يقفز على المبادرة العربية لاعادة إعمار غزة.
ولأنها سبق وأن جربت حملة التصعيد الحوثي وكانت المحصلة أن إسرائيل استفادت منه سياسيا، وإيران وأمريكا استفادوا منه جيوسياسيا، في حين دفعت الدول العربية تكاليفه من اقتصادها الوطني وأمنها القومي.