19 يونيو 2025
22 إبريل 2025


في كل مرة تُقصف فيها غزة، لا تُستهدف فقط منازل المدنيين ومآوي الأطفال، بل تتلقى كذلك الحركة الحقوقية ضربة مزدوجة: الأولى من وحشية الواقع، والثانية من اختبارات المعايير والازدواجية في التعامل الدولي.

حرب غزة الأخيرة لم تكن فقط مشهداً دموياً، بل كانت مرآة قاسية لعالم لم يعد يستحي من المفاضلة بين الضحايا.

الحراك الحقوقي العربي: من الاحتجاج إلى التجاهل

خلال الأسابيع الأولى للحرب في غزة، شهدنا ارتفاعاً في وتيرة الحراك الحقوقي في العالم العربي، من خلال بيانات إدانة، حملات إلكترونية، وقوافل تضامنية. اللافت في هذه الجولة أن عدداً كبيراً من المبادرات الحقوقية التي كانت تركز على قضايا محلية (كالنازحين، وحرية التعبير، والعنف القائم على النوع الاجتماعي)، أعادت توجيه بوصلتها نحو غزة. وهذا التوجه لم يكن عاطفياً فقط، بل جاء كرد فعل على ما شعرت به تلك الحركات من واجب إنساني وأخلاقي مرتبط بجوهر رسالتها.

لكن هذا الزخم تضاءل حتى حد التجاهل ، حتى وان كانت هناك دولة او دوليتن او ثلاثة مازالت حتى اليوم تخرج للشارع تندد بالجرائم بحق أهلنا في غزة ، في ظل نقص في التنسيق، وانعدام الرؤية الإقليمية الجماعية، مما أضعف تأثيرها في دوائر صنع القرار الدولية او حتى على مستوى حكوماتهم العاجزة.

تباين المواقف.. شعرة معاوية

صادفت احداث غزة الأولى في أكتوبر 2023 اثناء تواجدي في احدى الدول العربية التي دخلت مطارها بشال فلسطيني وتعرضت بسبب ارتداءه للتهديد والتحقيق معي وطُلب مني اخفاءه اثناء التجول للسياحة ، في حين ان الأجانب في المطارات الأوروبية طلبوا مني تزويدهم بالشال ومشاركتي بالاحتجاجات التي تجوب شوارعها تضامنا مع اهل غزة.

هذا التباين الصارخ بين الخوف من رمزية الشال الفلسطيني في بلد عربي، والحفاوة به في شوارع أوروبية، لم يكن مجرّد مفارقة عابرة، بل لحظة صادمة كشفت لي عمق الانقسام في المواقف، لا بين الشعوب فحسب، بل بين ما يُعلن وما يُكتم. وجدت نفسي أمام سؤال مؤلم: كيف أصبحت بعض العواصم الغربية مساحة حرة للتعبير عن تضامن إنساني صادق، بينما تحوّل الفضاء العربي – الذي يفترض به أن يكون الأقرب روحًا وقضية – إلى مساحة مقيّدة بالخوف والتوجّس؟

كان الصمت في تلك اللحظة أكثر إيلامًا من التحقيق، والخنوع أكثر ضجيجًا من الاحتجاجات. اكتشفت أن "شعرة معاوية" في مواقف بعض الأنظمة لم تُقطع فقط، بل تم خنقها تحت ثقل الحذر السياسي وضيق الحسابات. أما صوت الشارع، فإما مغيّب أو مكبّل، في مشهد يُفترض به أن يكون الأكثر حضورًا وكرامة.

الفضاء الدولي.. حقوق الإنسان ليست للجميع؟

المؤسسات الحقوقية الدولية، وعلى رأسها الأمم المتحدة ومنظمات مثل "هيومن رايتس ووتش" و"العفو الدولية"، أصدرت بيانات قوية تدين استهداف المدنيين. لكن التباين في الاستجابات - مقارنة بأزمات أخرى- كان لافتاً. ففي حين يتم توصيف أحداث أخرى كمجازر وإبادة جماعية خلال أيام، فإن غزة لا تزال تنتظر توصيفاً قانونياً واضحاً من بعض الأطراف الدولية، وكأن دماء الفلسطينيين تحتاج مراجعة إضافية.

هذا التراخي أدى إلى تآكل ثقة الشعوب العربية بالحركة الحقوقية الدولية، وزرع شعور عميق بأنها مُسيسة وتخضع لحسابات المصالح لا المبادئ.

الرقابة على الرواية وحرية التعبير

لم تكن الحرب فقط على الأرض، بل على السردية أيضاً. منصات التواصل أغلقت حسابات ناشطين، ووسائل إعلام عالمية استخدمت لغة منحازة. هذا كله جعل من الدفاع عن الرواية الفلسطينية جزءاً من نضال حقوقي، يفرض على المؤسسات الحقوقية أن تتحرك لحماية حرية التعبير وضمان التعددية في السردية.

التضامن ليس خياراً

في ظل ما يتعرض له الشعب الفلسطيني في غزة من جرائم ممنهجة يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي، يصبح التضامن العربي والإسلامي ليس فقط واجبًا أخلاقيًا وإنسانيًا، بل ضرورة سياسية وثقافية للحفاظ على الوعي الجمعي بالقضية. قد لا تكون كل الشعوب قادرة على دعم ميداني مباشر، لكن حتى أبسط أشكال التضامن—كالمقاطعة الاقتصادية، والإضرابات الرمزية، ورفع العلم الفلسطيني، والحديث الصادق في الإعلام والمنصات الدولية عن الجرائم الواقعة—تشكل ضغطًا متراكبًا يصعب تجاهله.

الحديث عن غزة دون تزييف أو تخوين للمقاومة، وتبني القضية في الخطاب الشعبي والرسمي، في المدارس والجامعات، في الأغاني والندوات، كلها وسائل تثبّت فلسطين في الوجدان العام. فالتضامن ليس شعارًا عاطفيًا، بل أداة مقاومة طويلة النفس، تُفقد الاحتلال قدرته على عزل غزة، وتبقي الذاكرة حيّة مهما اشتد الحصار.

لايكفي!

التضامن الشعبي لا يكفي وحده. ما تحتاجه الحركة الحقوقية اليوم هو بناء تحالفات عابرة للحدود توّحد الصوت الحقوقي العربي مع نظيره العالمي، والعمل على تدويل الجرائم وتوثيقها بلغة قانونية تفرض نفسها في المحافل القضائية ـ وقبلها نحن بحاجة الى إعادة تعريف أولويات الخطاب الحقوقي ليكون أكثر جرأة وأقل خضوعاً للإملاءات السياسية.

لقد كشفت حرب غزة هشاشة المنظومة الحقوقية الدولية، لكنها في المقابل أطلقت شرارة وعي جديدة في العالم العربي. ما بعد غزة لن يكون كما قبلها. والرهان الآن على قدرة الحركات الحقوقية على تحويل لحظة الألم إلى قوة منظمة مستدامة، تقف في وجه الظلم أينما كان، وبغض النظر عن جنسية الضحية أو هوية الجلاد.

 



 

الهاشتاج
الفيس بوك
تويتر

جميع الحقوق محفوظة YemenFreedom ---- تصميم وبرمجة ALRAJIHI