حملت الدبلوماسية السودانية إرثاً معقداً خلفته ثلاثة عقود من حكم نظام الرئيس السابق عمر البشير، رسخت خلالها سياسة التمكين لأعضاء الحزب الحاكم، بعد إحالة الخبرات الدبلوماسية وموظفي وزارة الخارجية الأكفاء إلى "الصالح العام" بعد فترة وجيزة من الانقلاب على الحكم الديمقراطي في نهاية الثمانينيات.
وطوال 30 عاماً، عانت الدبلوماسية السودانية الانقسامات الداخلية والتقلبات الإقليمية والعزلة الدولية. فعلى مدى عقود، اتسمت السياسة الخارجية للخرطوم بالارتجال والميل نحو المحاور المتصارعة، مما أفقدها الاتزان الاستراتيجي المطلوب في بيئة دولية شديدة التعقيد. وفاقم ذلك الانقلاب، ثم استنساخه بعد إسقاط البشير في انقلاب آخر على حكومة الفترة الانتقالية بالإجراءات التي فرضها الفريق عبدالفتاح البرهان عام 2021، من تآكل الثقة الدولية تجاه السودان، إذ بات ينظر إليه باعتباره شريكاً هشاً وغير موثوق.
وسط التحولات العنيفة التي ألمت بالدولة السودانية اندلعت الحرب، وكشفت عن هشاشة البنية المؤسسية، وعصفت موجة الانهيار بالجهاز الدبلوماسي، الذي بدا عاجزاً عن التكيف مع اتساع رقعة الحرب وتدهور الأوضاع الإنسانية والسياسية. فتآكلت قدرته التمثيلية في المحافل الدولية، وتراجعت مكانته في تكتلات إقليمية كثيراً ما شكلت سنداً استراتيجياً للخرطوم، مثل الاتحاد الأفريقي ومنظمة "إيغاد"، في حين فقد السودان دولاً صديقة كثيراً ما مدت يد العون إليه، وكانت مصدر دعم اقتصادي وسياسي.
امتدت أزمة الصراع المسلح لتعمل على تغييب الرؤية الدبلوماسية، وتعالت دعوات من خارج المؤسسات التقليدية لإعادة هيكلة الدبلوماسية السودانية. بدأت نخب من المجتمع المدني، وشخصيات دبلوماسية سابقة، في طرح تصورات بديلة تنبع من حاجة ملحة إلى ترميم صورة السودان دولياً، واستعادة صوته المفقود في المحافل الإقليمية.
في قلب هذه النداءات الموجهة لإعادة الهيكلة انطلاقاً من المجتمع المدني، تتجلى ضرورة ملحة يتردد من ورائها صدى حاجة إنسانية ماسة، فالحرب التي مزقت أوصال السودان لم تخلف فقط فراغاً في السلطة أو انقسامات سياسية، بل خلفت قبل كل شيء معاناة إنسانية حادة تتجسد في غياب الرعاية الصحية، وانعدام الأمن الغذائي، وتشريد ملايين ممن أصبحوا بلا مأوى.
تجميد النشاط
في ظل التدهور المتسارع للوضع الإنساني في السودان، برزت أزمة جديدة تعمق الجراح وتضيف مزيداً من التعقيد إلى المشهد، تمثلت في القرار الصادر في مايو/ أيار الماضي عن مفوضية العون الإنساني، والمدعوم من مجلس السيادة، والقاضي بتجميد نشاط تجمع منظمات المجتمع المدني والمنظمات المحلية العاملة في الحقل الإنساني كافة.
جاءت هذه الخطوة تحت مبررات "إعادة تنظيم القطاع وضبط النشاط المدني"، إلا أن تداعياتها الميدانية سرعان ما انعكست بصورة كارثية على قطاعات الخدمات الصحية، وخصوصاً في المناطق الأكثر تضرراً كولاية الخرطوم والجزيرة والنيل الأبيض وشمال كردفان.
وتزامن القرار مع اتساع رقعة الحرب، وانهيار المنظومة الصحية في العاصمة ومحيطها، وخروج معظم المستشفيات والمراكز الصحية عن الخدمة، مما جعل المنظمات المدنية آخر خطوط الدفاع في مواجهة الأوبئة، وعلى رأسها وباء الكوليرا الذي يشهد انتشاراً كبيراً منذ فبراير/ شباط الماضي، بحسب ما أكده رئيس تجمع منظمات المجتمع المدني السودانية عادل عبدالباقي. الذي أشار إلى أن نقص الدعم الدولي وتراجع الثقة من المنظمات الأممية يعود جزئياً للعراقيل البيروقراطية والمالية التي تفرضها الحكومة السودانية على النشاط الإنساني، مما دفع بعض الجهات إلى تقليص عملياتها أو الانسحاب الكلي.
في مقابل هذه التحذيرات برزت أصوات رسمية تدافع عن القرار، إذ ذكرت مفوضية العون الإنساني في بورتسودان أن "القرار يهدف إلى ضبط الأداء، وتجنب تسرب الدعم الخارجي إلى جهات غير مصرح بها"، لكنه أقر في الوقت ذاته بوجود "أثر جانبي كبير" في الاستجابة الإنسانية، داعياً إلى آلية تقييم مشتركة تتيح استئناف العمل تدريجاً لمن ثبت حيادهم وكفاءتهم.
في المقابل تتسارع الدعوات من ناشطين وخبراء إلى ضرورة مراجعة القرار وتغليب البعد الإنساني على الاعتبارات الأمنية، لا سيما أن المواطن السوداني بات يدفع الثمن الأكبر، بين نيران الحرب وانهيار الخدمات، وتراجع تجاوب المجتمع الدولي لبذل المساعدات.
دبلوماسية موازية
قالت الناشطة ميساء إسماعيل "ذاق مجتمع النازحين الأمرين منذ بدايات الحرب، فقد عجزت الحكومة ممثلة في وزارة خارجيتها في استقطاب الدعم الدولي، حتى من بين الأيدي الممدودة لها، كما جفت برامج المساعدة الهادفة إلى دعم النازحين".
وأضافت "على رغم أن المجتمع الدولي تناسى أو نسي الحرب في السودان لعوامل كثيرة، وحتى مؤتمرات المساعدة الإنسانية كانت تعقد على استحياء، لكن العامل الأساسي يعود لتعاطي الحكومة مع المجتمع الدولي والمنظمات الدولية والإقليمية، والنظرة الاستباقية إلى مدى تأثيرها في منظمات المجتمع المدني في الداخل".
وتابعت "حال النفور الحكومي من المنظمات الدولية والمجتمع المدني، التي ترقى إلى منع المساعدات يمكن تفسيرها بأن الحكومة تخشى من أن مدخل هذه المساعدات بواسطة المنظمات الدولية الإنسانية سيتطور إلى إسهامها في بناء السلام بعد الصراع، وغيره من البرامج، وهي غالباً ما تندرج تحتها الدعوة إلى إيجاد نظام ديمقراطي والتحول إلى حكم مدني، مما يزعزع السلطة الحالية".
وأوردت إسماعيل أنه "في ظل الانكماش المؤسساتي الذي أصاب جهاز الدولة السودانية، ظهرت منظمات المجتمع المدني كحامل بديل لمشروع بناء الثقة مع العالم الخارجي، ومع التضييق الداخلي باتت تمارس دورها من الخارج. وهذه المنظمات، التي تتوزع بين شبكات حقوقية، وتنظيمات شبابية، واتحادات أكاديمية ومهنية، وثقافية وفنية بدأت تشكل قنوات دبلوماسية موازية، غير رسمية، لكن ذات أثر ملموس".
وتواصل الناشطة "في الوقت الذي تفتقر الحكومة إلى خطاب موحد وسياسات خارجية مستقرة، تتقدم هذه المبادرات المدنية لتملأ الفراغ، من خلال برامج ثقافية ومؤتمرات دولية وشراكات مع هيئات دولية. ويكمن البعد الأعمق هنا في أن هذه المبادرات غالباً ما تعبر عن روح السودان الحقيقية في إبراز التنوع والانفتاح والسلم الأهلي، لا عن الانقسامات التي فرضتها النخب السياسية المتصارعة. بهذا المعنى يصبح المجتمع المدني السوداني ليس فقط أداة للتقارب مع الخارج، بل أيضاً مرآة لهوية وطنية تريد أن تعيد تعريف نفسها في المحيط الدولي".
تجاوز الانغلاق
من جانبه يقول الصحافي محمد مهدي مصطفى "يدرك السودانيون في هذا المنعطف الحاسم من تاريخ السودان السياسي والدبلوماسي أن إعادة صياغة حضور بلادهم الدولي لم تعد ممكنة بالاعتماد الحصري على أدوات الدولة التقليدية، ولا على نظام يحكم لعقود ثم ينهار بإسقاطه. وعليه فإن هذا المسعى يتطلب انطلاقة جديدة تنبع من مشاركة مجتمعية واسعة، تسهم في إعادة تشكيل ملامح السياسة الخارجية بروح تتسم بالشمولية والتشاركية".
وأضاف "لم يعد ينظر إلى منظمات المجتمع المدني كمكون هامشي، بل غدت تشكل ركيزة أساسية ضمن مسار استراتيجي جديد، يعكس تحولاً نوعياً في مقاربة الدولة لأدوات القوة الناعمة، ويعبر عن وعي متزايد بأهمية الانفتاح على الطاقات المجتمعية".
وأورد مصطفى أن "أي انخراط للفاعلين المدنيين في هذا الجهد الدبلوماسي المتجدد، يجسد إيمان السودانيين العميق بالدور الحيوي لمجتمعاتهم في بناء السلام من القاعدة إلى القمة، وتعزيز الاستقرار عبر قنوات غير رسمية قادرة على تجاوز حالات الجمود والانغلاق السياسي. كما يفتح هذا الانخراط الباب أمام دبلوماسية متعددة المسارات، تتيح فرصاً أوسع للتواصل الإنساني والثقافي مع العالم، وتسهم في استعادة الثقة المفقودة على المستويين الإقليمي والدولي".
وتابع "في هذا الوقت الحرج، الذي يعمل فيه السودانيون على إعادة تموضع بلادهم، على رغم استمرار الحرب، في الخريطة الجيوسياسية للمنطقة، فهناك سعي حثيث إلى تحسين صورة السودان الخارجية وإعادة تعريف دوره وموقعه من خلال خطاب شعبي يوصله المجتمع المدني إلى الخارج، ويتجاوز به القوالب الرسمية الجامدة، ويثبت أنه منفتح على الآخر من غير تخوين، وفق دبلوماسية مبنية على المصالح المتبادلة، والاحترام العميق المتبادل".
تحديات هيكلية
في ورقته التحليلية حول "المجتمع المدني خلال الفترة الانتقالية في السودان"، يرى الوزير السابق والناشط الحقوقي مدني عباس مدني أن "من أبرز إيجابيات الانفراجة السياسية التي أعقبت سقوط نظام البشير في أبريل/ نيسان 2019، أنها أفسحت المجال لمنظمات المجتمع المدني السوداني للتفاعل مع العالم الخارجي والمجتمع الدولي، وممارسة نوع من ’الدبلوماسية الناعمة‘ المنطلقة من قضايا الداخل السوداني، وعلى رأسها العدالة الانتقالية وحقوق الإنسان وإعادة بناء الدولة على أسس جديدة".
ويؤكد مدني أن "منظمات المجتمع المدني تمكنت، للمرة الأولى منذ عقود، من التحرر من القيود الأمنية التي كانت تكبل حركتها، ومن أداء دور سياسي غير رسمي، عبر حملات المناصرة، وصياغة السياسات، والتأثير في صناعة القرار من خارج الجهاز التنفيذي".
وأشار إلى أن المرحلة الانتقالية وفرت بيئة سياسية مواتية شهدت توسعاً ملاحظاً في حرية التعبير والتنظيم والتجمع السلمي، مما أتاح للمنظمات المدنية أن تعمل في العلن، من دون اشتراط الحصول على إذن أمني مسبق، كما كانت الحال خلال النظام السابق، معتبراً أن هذه الظروف الاستثنائية مكنت من بناء تحالفات جديدة، وتوسيع قاعدة الفاعلين المدنيين، لا سيما من فئة الشباب والنساء، الذين وجدوا موطئ قدم في مستويات قريبة من دوائر صنع القرار.
وأضاف أن "منظمات المجتمع المدني نجحت في قيادة حملات مؤثرة أسفرت عن تعديلات قانونية مهمة، وزيادة الاهتمام الرسمي بقضايا حقوق الإنسان، كما لعبت دوراً محورياً في تعزيز مفاهيم الشفافية والحكومة التشاركية، خصوصاً عبر اللجان القاعدية مثل لجان الأحياء والمقاومة"، مؤكداً أن هذه المشاركة أسهمت في تطوير علاقة مباشرة بين المجتمعات المحلية والسلطات، وأسست لخبرات مدنية في فهم أولويات الحكم العام.
وعلى رغم إقراره بتحديات هيكلية رافقت هذه المرحلة، أبرزها ضعف القدرات التحالفية وغياب الرؤية الاستراتيجية، فإن مدني يؤكد أن "الفرصة التي أتيحت للمجتمع المدني في تلك الفترة كانت فريدة من نوعها، وكان يمكن أن تؤسس لتحالف مدني - دبلوماسي يعكس صوت المجتمع السوداني في الخارج، لولا تعثر مسار الانتقال وعودة القبضة الأمنية لاحقاً".
مسارات دبلوماسية
في ظل الانهيار المؤسسي الناجم عن الحرب السودانية، وانكماش أدوار الدولة الرسمية، يبرز المجتمع المدني ليس فقط كفاعل إنساني أو صوت احتجاجي، بل كمكون دبلوماسي بديل قادر على ترميم الصلات الخارجية وبناء قنوات تواصل ضمن مسارات دبلوماسية بديلة مع العالم. صحيح أن التأثيرات الشعبية نادراً ما تغير البنية الكلية للدولة خصوصاً مع النظر إلى حجم الدمار الذي أحدثته ولا تزال الحرب السودانية، لكن تحولات هذه البنى لا تنشأ من دون شرارات محلية تبدأ غالباً من المبادرات المجتمعية، ومن الأصوات التي تعبر عن نبض ضحايا الحرب واللاجئين والنازحين. وعليه فإن خطوات المجتمع المدني القادمة في ظل انكفاء الدبلوماسية الرسمية، ستكون نحو أداء أدوار تفاوضية وشراكات ناعمة وتفاعلات دولية تتجاوز الأطر التقليدية.
يحاول المجتمع المدني مخاطبة الدول الصديقة والمجتمع الدولي بأن يتجاوز الإصرار على حصر العلاقات الثنائية والمتعددة الأطراف ضمن قنوات رسمية فاشلة أو مختطفة من طرفي النزاع، مما يعني إعادة تدوير الأزمات وتكريس عزلة السودان وإطالة أمد المعاناة الشعبية.