يمر الاقتصاد اليمني بمرحلة هي الأشد قسوة في تاريخه الحديث، بعد سنوات من انهيار العملة الوطنية وتراجع الخدمات العامة واستنزاف قدرة المواطنين على الاحتمال. وفي هذا المنعطف الحرج، تنفذ الحكومة خطة اقتصادية إصلاحية عاجلة وُصفت بأنها الأكثر شمولًا منذ اندلاع الحرب. غير أن التجربة علمتنا أن التحدي الحقيقي لا يكمن في كتابة الوثائق أو إعلان النوايا، بل في القدرة على ترجمة الوعود إلى أفعال وسط بيئة سياسية وأمنية منقسمة وهشة.
الخطة الحكومية، وفق ما يمارس وما تسرب من تفاصيلها، تركز على إعادة ضبط المالية العامة من خلال توحيد الإيرادات في البنك المركزي بعدن، بما يمنحه فرصة لاستعادة التوازن النقدي وإدارة السياسة المالية بفاعلية. كما تتضمن إجراءات للحد من فوضى شركات الصرافة، وإلزام المؤسسات الحكومية بالعمل عبر القنوات المصرفية الرسمية. هذه خطوات مهمة لكنها لن تبلغ غايتها ما لم تُدعَم باستقلالية حقيقية للبنك، واعتماد موازنة شفافة توقف عشوائية الإنفاق وتقطع الطريق على الفساد.
وفي المقابل، تسعى الحكومة إلى استعادة الدعم الخليجي والدولي عبر المنح النفطية الموعودة ومؤتمرات المانحين المزمع عقدها في عدن. غير أن هذه المؤتمرات لن تُقاس بوعودها، بل بقدرة الحكومة على تقديم رؤية واقعية مقنعة، مدعومة بخطوات شفافة تستثمر الدعم في مسارات إنتاجية، خصوصًا بعد نقل الصندوق الاجتماعي للتنمية إلى عدن وربطه برقابة البنك المركزي، بما قد يفتح الباب أمام عودة المساعدات الدولية عبر القنوات الرسمية.
ويتصدر ملف الأمن الغذائي قائمة التحديات الملحّة، إذ يهدد انعدام الغذاء حياة الملايين من اليمنيين. ولا يمكن لأي إصلاح اقتصادي أن ينجح إذا تُرك هذا الملف في دائرة الطوارئ دون استراتيجية وطنية شاملة. التحضير لمؤتمر دولي بالرياض في أكتوبر القادم بشأنه خطوة مهمة، لكنها ستبقى محدودة إذا لم تُبنَ على تعزيز الإنتاج الزراعي، وتطوير شبكات التخزين والنقل، وبناء شراكات دولية تضمن استقرار الإمدادات. فالأمن الغذائي لم يعد ترفًا سياسيًا، بل قضية وجودية تمس الأمن القومي مباشرة.
أما قطاع الطاقة، فقد أولته الخطة أولوية خاصة، مع التحضير لمؤتمر وطني للطاقة تحت شعار: “نحو يمن متعافٍ بطاقة مستدامة”. الهدف المعلن هو بناء قطاع كهربائي أقل اعتمادًا على الاستيراد وأكثر قدرة على الاستدامة. إعادة تشغيل بعض وحدات مصافي عدن، ومشروع مصفاة حضرموت، إلى جانب خطوات لتوطين صناعة الأدوية وتخفيض أسعارها، كلها مؤشرات إيجابية. غير أن السؤال المحوري يبقى: هل تستطيع الحكومة تفكيك شبكة المصالح التي كبّلت هذا القطاع لعقود طويلة؟
ولا يقل عن ذلك أهمية ملف الاستثمار والأراضي، إذ أعلن رئيس مجلس الوزراء عزمه إنهاء العبث بالأراضي المخصصة لمشاريع متعثرة، وتفعيل الهيئة العامة للاستثمار لتوفير حوافز وضمانات تشجع رؤوس الأموال المحلية والخارجية. ومع ذلك، فإن ضعف القضاء وعدم تفعيل القوانين واستفحال الفساد يشكل عقبة حقيقية أمام حماية حقوق المستثمرين وتعزيز الثقة بالبيئة الاستثمارية.
وتتوزع بقية محاور الخطة بين ملفات معيشية ملحّة، أبرزها أزمة الغاز المنزلي التي شدد رئيس الوزراء على اعتباره حقًا أساسيًا لا مجرد سلعة تجارية، إضافة إلى قطاع الثروة السمكية وتوفير الأسماك للمواطنين بسعر مناسب عبر تقليل الهوامش الربحية المبالغ فيها على مختلف مستويات قنوات التسويق. كما أن الحكومة مدعوة اليوم لمنع الصيد الجائر وتشجيع الاستزراع السمكي وتطوير الصناعات التحويلية بما يعزز القيمة المضافة ويوفر فرص عمل جديدة. غير أن هذه التوجهات، على أهميتها، تظل بحاجة إلى مؤسسات قوية وإدارة رشيدة لم تتبلور بعد.
ورغم ما تحمله الخطة من وعود واسعة، فإن نجاحها مرهون بعوامل تتجاوز النصوص الرسمية: تحقيق حد أدنى من الاستقرار السياسي والأمني، وتوحيد الإيرادات بعيدًا عن الحسابات الموازية، وبناء إدارة نزيهة تقطع الطريق على الفساد، مع تركيز جاد على القطاعات الإنتاجية بدلاً من الارتهان المستمر للمنح الخارجية.
الخلاصة: إن الخطة الاقتصادية الحكومية تمثل اختبارًا لإرادة سياسية أكثر مما هي مجرد برنامج إصلاحي. فهي ليست حزمة إسعافات أولية، بل خطوة فاصلة: إما أن تستعيد الدولة ثقة الداخل والخارج بقدرتها على إدارة مواردها، أو تفقد آخر ما تبقى من رصيدها. اليمن بحاجة اليوم إلى اقتصاد أفعال لا أقوال، إلى خطوات متدرجة تعيد الثقة بالعملة الوطنية، وتفتح أبواب الاستثمار، وتدعم الزراعة والصيد والصناعة. عندها فقط يمكن أن يبدأ التعافي الحقيقي ويُمنح اليمنيون الأمل في مستقبل أفضل بعد سنوات الحرب والحرمان.
(من صفحة الكاتب في يس بوك)