2 سبتمبر 2025
20 أغسطس 2025

 

اليمن ليس خارطة معلّقة على جدار الجغرافيا، بل هو كائن حي يتنفس عبر أبنائه، يتجلى في ملامحهم، ويتحوّل إلى شخصية متفردة حملت على كتفيها أوزان التاريخ وأحلام الحضارة.

الإنسان اليمني لم يكن مجرد ساكن أرض، بل كان هو الأرض ذاتها حين امتدت جذوره في جبالها وسهولها، وكان هو البحر حين مد جناحيه إلى المحيط، وكان هو الصحراء حين استعار صبرها وجلدها.

بهذا المعنى يصبح اليمني ليس فردًا عابرا، بل حاملا لمشروع كوني، عبّر عنه سد مأرب العظيم، والنقوش التي حاورت الحجر، والهجرات التي وصلت إلى أقاصي الأرض، فزرعت قيم الكرامة والشهامة والعدل حيثما حطت.

لقد كانت الشخصية اليمنية ابنة التاريخ والجغرافيا معا؛ من التضاريس الوعرة تعلمت الصلابة، ومن البحار المفتوحة تعلمت الانفتاح، ومن الصحراء تعلمت الصبر، ومن أسواق التجارة بين الشرق والغرب تعلمت فنون التواصل والوساطة.

وحين أتى الإسلام، لم يهبها دينا جديدا وحسب، بل أعاد صوغها في إطار أخلاقي وروحي جعلها أكثر اتساقا مع قيم العدل والعطاء، فتحولت إلى جسر لنشر الرسالة شرقا وغربا، وكان اليمني بذلك شاهدا حيا على أن الهوية ليست جغرافيا وحسب، بل منظومة قيم وأفق إنساني ممتد.

لكن هذه الشخصية لم تكن في معزل عن التشوهات التي فرضتها السياسة، وأثقلتها تراكمات ثقافية واجتماعية عبر قرون طويلة صنعت جدرانا من الوهم والخرافة وأعادت إنتاج الانقسامات بوجوه جديدة.

السلطة الهاشمية السياسية استغلت الدين لتأبيد السيطرة وتكريس التراتب، وحولت العقيدة من منظومة قيمية جامعة إلى أداة للهيمنة، فزرعت في وعي اليمني طاعة السلطان ولو كان ظالما، وجعلت كثيرا من الناس يسيرون في كنف القوة ويحاربون حتى أبناء بلدهم.

هذا الأثر السلبي على الشخصية اليمنية لم يكن مجرد انحراف عابر، بل كان جرحا موروثا جعلها أحيانا بسيطة مزاجية، تخلط بين التدين والخضوع، وبين الدفاع عن القيم والانقياد لسطوة الظالم.

مع ذلك، ظل البعد القومي للشخصية يتجلى في الكرم والشجاعة والعناد، وهي صفات فرضتها الطبيعة والبيئة والتاريخ. اليمني لا يخضع إلا للعدل، وإذا غابت العدالة انقلبت الطاعة إلى تمرد، والتاريخ شاهد على انتفاضاته وثوراته.

المفارقة أن هذه الروح المتمردة تختلط أحيانا بانكسار صنعته قرون القهر، فيبدو اليمني ثائرا على الظلم في لحظة، وخاضعا له في لحظة أخرى. إنها جدلية الشخصية بين الانكسار والتمرد، بين القوة والهشاشة

ومع ذلك، لا يمكن للوجه الحضاري أن يمحى . فحيثما وجد اليمني فضاء قانونيا عادلا ودولة حقيقية، انفجرت طاقاته الخلاقة في التجارة والتعليم والطب والفن.

في الخارج، حيث القانون حاضر والدولة ضامنة، يستعيد اليمني قدرته على البناء والإبداع، فيثبت أن الإطار القانوني هو الشرط الأول لانبثاق طاقاته الحضارية.

أما في الداخل، حيث تغيب الدولة ويتصدع القانون، تنكفئ الطاقات وتتحول إلى نزاعات داخلية، فيستبدل الإبداع بالاحتراب، والعقل بالتعصب، وتصبح القيم شعارات فارغة تُستغل في الصراع. هذه المفارقة بين اليمني في الخارج واليمني في الداخل تختزل سرّ العلاقة المفقودة بين الإنسان والدولة: الدولة التي تحرر قدراته حين تحضر، وتغتالها حين تغيب.

غير أن الأزمة ليست في التاريخ وحده، بل في الحاضر الذي يصرّ على اجترار الانقسامات وتدوير الخرافة، محاصرًا الشخصية اليمنية في قوالب ضيقة لا تشبه اتساعها الحضاري. فمن ينهب ويقتل ويستقوي على أخيه باسم الدين أو المذهب لا يمثل اليمن، بل يمثل اغترابًا عنه، وإن عاش على ترابه وحمل اسمه.

فاليمن هو قيم الكرامة والشهامة والعدل والعطاء، ومن يتخلى عنها يتخلى عن جوهره، مهما حمل من أوراق رسمية أو هويات قانونية.

اليمني حيثما حلّ تميز سلوكا ووجودا، فلم يكن مجرد عابر في الأمكنة بل حاملا لعمقها وذاكرتها. شخصيته المتفردة جعلت الآخر يلتفت إليه، ويحتفي به، حتى غدا كثيرون اليوم يفتخرون بالانتساب إليه طلبا لشيء من ذلك العمق الحضاري وذلك التميز الإنساني.

فالتجربة اليمنية ليست فقط ماضيا يُروى، بل حضور متجدد يترك أثره في الوجدان والوعي، ويمنح اليمني تميزا يزداد رسوخا كلما ازداد احتكاكه بالآخرين.

إن استعادة الشخصية اليمنية لا تكون عبر الحنين إلى الماضي أو اجترار البطولات، بل عبر مشروع جديد يعيد وصل الإنسان بجغرافيته وقيمه الحضارية، مشروع يحرر العقل من الخرافة، ويعيد تعريف العلاقة بين الفرد والجماعة، وبين الدولة والقبيلة، وبين الدين والحرية.

مشروع يطلق الطاقات الخلاقة في العلم والفكر والفن والاقتصاد، ويحوّل الشتات اليمني في الخارج من جرح نازف إلى رافعة للمعرفة والإبداع.

اليمني ليس هامشا ولا ظل عابرا، بل هو قلب الحضارة حين يتصالح مع ذاته. وإن جارت عليه الظروف وخذلته الحكومات، فإن حضوره لا يغيب، وتاريخه لا يمكن تجاوزه. فما زالت به ترتبط آمال الشعب، وما زالت به تُقاس إمكانات المستقبل.

الحضارة لا تموت، بل قد تنكسر أو تنحني، لكنها تظل كامنة تنتظر من يوقظها.

واليمني، بعمقه الحضاري وبذور كرامته المزروعة في قلبه، قادر على أن يستعيد ذاته، وأن يكتب فجرًا جديدًا يليق بتاريخٍ طويل من البناء والإبداع.

(من صفحة الكاتب في فيس بوك)

 

الأخبار المشابهة
3 أغسطس 2025 م
5 فبراير 2023 م
الفيس بوك
تويتر

جميع الحقوق محفوظة YemenFreedom ---- تصميم وبرمجة ALRAJIHI