5 ديسمبر 2025
4 ديسمبر 2025


في فمي ماء فكيف أجيب؟

يُقال هذا المثل حين يعرف المرء الحقيقة لكنه يعجز عن قولها. وما يجري في حضرموت والمهرة يجعل كثيرين اليوم - من مسؤولين وفاعلين وناصحين - في أفواههم ماء؛ لأن الكلام بات أثقل من الصمت، ولأن المشهد أصبح أكبر من قدرة التفسير والتبرير.

الرئيس صامت، ووزير الدفاع خارج البلاد، واتصالات المنطقة العسكرية الأولى - كما تؤكد روايات عديدة - كانت مغلقة في اللحظة التي كان يكفي فيها توجيه واحد فقط لوقف السيل غير المسبوق من الحقد على الجمهورية اليمنية، وعلى علمها، وعلى رئيسها نفسه.

مشاهد فرز الناس على أساس البطاقة، ليس لشيء إلا لأنهم قاموا بواجبهم في حماية أمن منطقتهم العسكرية وأمن المواطنين، وهو أمر لا يليق بدولة ولا برجال دولة. ومشاهد أخرى لأقدام تدوس العلم وكأنها تعلن نصرًا زائفًا، ولرصاص يُفرغ من خزان كامل على قطعة قماش لم تنحنِ بينما الطلقات الحقيقية تخترق قلوب اليمنيين قبل أن تستقر في التراب.

ستظل تلك الصور شاهدًا خالدًا على لحظة انكسار سيادي لم تعرفها اليمن في تاريخه الحديث.
ذلك الكم الهائل من السب والشتم والتخوين للرئيس؟ لا أعلم متى سيخرج ليكشف حقيقة ما جرى، ولا كيف - أو متى - ستتوقف هذه التجاوزات ويُستعاد القرار الوطني من جديد؟

كيف يمكن بعد كل هذا الزلزال أن نتحدث عن الشرعية، أو مجلس القيادة، أو الحكومة.. أو أن ندافع عنهم؟ وكيف نثق بتحالف يسلم للأمر الواقع الذي يصنعه الانتقالي، ثم يخرج ويتحرك لحضرموت ليرعى اتفاقًا بين المحافظ وبن حبريش تاركًا الانتقالي وفعلته، وما إن جفّ حبر الاتفاق حتى دخلت قوات الانتقالي المواقع وكأنه كان ضوءًا أخضر، بلا اكتراث لموقف المملكة أو لضماناتها؟

ولا يزال بن حبريش مختفيًا عن الأنظار. وكيف يُفهَم ان يقبل محور المهرة الرضوخ وانزال العلم اليمني وقد ادرك اللعبة ورفع العلم الانفصالي واسلم جنوده اراقة الدم. وكيف أن لواءً متمركزًا في العبر تفاوض باقتدار وخرج بكرامته وسلاحه إلى مأرب، وسلّم مواقعه بتوجيه - كما يُقال - من التحالف، لا من القائد الأعلى للقوات المسلحة الذي غاب هو ووزير دفاعه ورئيس أركانه وحكومته عن أهم اختبار سيادي منذ سنوات؟

لقد دفنت الشرعية نفسها في رمال حضرموت، ودفنت معها ما تبقى من صورتها. أمّا الحوثي - المستفيد الوحيد - فقد التزم الصمت، ناسياً فجأة كل خطاب “العدوان والاحتلال”… إلى حين. هذه ليست قراءة انفعالية، بل سياسية خالصة: حين تضعف الدولة في حضرموت، يقوى الحوثي في صنعاء. وحين يتصدع معسكر الشرعية في الشرق، يشتد ساعد الانقلاب في الشمال.

الخلل ليس في حضرموت ولا في المهرة ولا في المناطق والمحاور العسكرية؛ الخلل في مركز القرار الوطني… في مجلس القيادة الرئاسي الصامت حتى الآن على زلزال دمّر القيم والثوابت قبل الأرض.

والانتقالي، من جانبه، أثبت - للأسف - أن حساسيته ليست من الخصوم بل من العلم اليمني نفسه. موجة الغضب التي تفجرت في "معركة المستقبل الواعد" نحو حضرموت والمهرة لم تكن سوى تأكيد أن العلم اليمني أصبح عدوّهم الأول، وأن المعركة لديهم ليست مع الحوثي بقدر ما هي مع هوية اليمن ورمزها ووحدته.

ومع ذلك، فالقضية ليست الانتقالي وحده؛ القضية أن الرئيس ومسؤوليه يعرفون الحقيقة، لكنهم لا يقولونها. يصمتون خجلاً، خوفًا، أو مراعاةً لحسابات أكبر من اللحظة. لكن هذا الصمت لم يعد حلًا. الصمت اليوم يكلّف الشرعية هيبتها، ويضعف موقفها أمام أصدقائها قبل خصومها، ويمنح الحوثي مكسبًا مجانيًا بلا رصاصة.

قد يظن البعض أن ما جرى في حضرموت انقلاب مفاجئ، لكنه ليس سوى نتيجة مسار واضح لمن أراد أن يراه. عند لحظة الاختبار، لم يحدث صمود ولا مواجهة. المواقع سُلّمت خلال ساعات بلا معركة تقريبًا. ورغم ذلك، لا يزال بوسع القيادة — إن أرادت — تحويل الكبوة إلى فرصة، والهزيمة إلى بداية إعادة ترتيب أوراق الردع… لكن بشرط واحد: أن تتوقف عن الصمت.

اليوم، ومع تضارب التصريحات وتناقض الروايات وغياب الموقف الرسمي، يبقى كثير من السياسيين والإعلاميين “في أفواههم ماء”. يعرفون الحقيقة، ويرون كيف تُسحب حضرموت تدريجيًا نحو مربع فوضى لا يشبه أهلها، ويشهدون تحركات عسكرية خارج القرار الوطني… لكنهم يصمتون. صمت العارف الخائف، أو العاجز أمام ميزان مختل يكافئ المتمرد ويعاقب الملتزم.

في فمي ماء.. لأن ما يجري في حضرموت أخطر من أن يُختصر بخلاف سياسي.

في فمي ماء.. لأن الصراع الحقيقي ليس على الأمن بل على النفوذ والقرار والسيادة.

في فمي ماء.. لأن من كان يجب أن يدافع عن الدولة وقانونها صار هو أول المترددين.

في فمي ماء.. لأن الجيوش تتحرك بلا إذن، والتهديدات تُطلق بلا حساب، والحكومة - صاحبة الشرعية - صامتة، بل تكاد تطبّع مع سلطات محلية تجاوزت عليها بالأمس.

حضرموت والمهرة لا تحتاج إلى "محرر".

حضرموت والمهرة تحتاج إلى دولة.

وتحتاج قبل ذلك إلى قرار وطني واحد.. غير مزدوج، وغير مرتبك، وغير خاضع لمنطق القوة على حساب القانون.

وإن لم تُراجع الشرعية والتحالف - وفي المقدمة السعودية - طريقة إدارة المشهد، فإن القادم سيذهب لصالح الحوثي، وساعتها لن ينفع الندم. فمعارك النفوذ التي تُخاض بعيدًا عن مركز الدولة لا تُضعف الانتقالي وحده، بل تُضعف الشرعية والتحالف، وتقوي مشروعًا واحدًا فقط: مشروع الحوثي.

أما الذين يعرفون هذا كله… ففي أفواههم ماء.

وأخشى أن يأتي يومٌ ينطق فيه الجميع… لكن بعد أن يكون الكلام قد فقد قيمته، وبعد أن يكون الوطن قد دفع الثمن.

ولهذا، فإن السؤال الذي لم يعد يجوز تأجيله: لماذا يصمت أعضاء مجلس القيادة الرئاسي من الجمهوريين؟ ولماذا لا يتخذون موقفًا - أو يقدمون استقالة جماعية - بدل البقاء شهود زور على مشروع تقسيم اليمن؟

لماذا لا يخرج قائد حراس الجمهورية ليرفع صوته أو يقدم استقالته من مجلس لم يعد يحمي الجمهورية؟ ولماذا يلوذ الشيخ سلطان العرادة بالصمت وهو الذي كنا نقول إن الجمهورية ما تزال قائمة في عرينه؟ وأين الشيخ عثمان مجلي، وأين الدكتور عبدالله العليمي، بل وأين الدكتور رشاد العليمي نفسه من كل هذا الانهيار؟

إن استقالتهم - إن عجزوا عن الفعل - وحدها كفيلة بكشف الزبيدي ونائبيه وتعريتهم أمام الشعب، وبتجريد المشروع الانفصالي من غطائه الشرعي. أما بقاؤهم صامتين، وهم الأغلبية، فلن يعني إلا شيئًا واحدًا: أنهم صاروا - شاءوا أم أبَوا - محلِّلين لمشروع تمزيق اليمن.

فلينطقوا اليوم قبل أن يأتي يوم يُجبرون فيه على الكلام بعد أن يفقد كل لفظ قيمته، وقبل أن يُكتب أنهم كانوا جزءًا من الصمت الذي هيّأ الطريق للكارثة، وخانوا الوطن بصمتهم الطويل.

اللهم احفظ اليمن، وسخّر لجيرانه الحفاظ عليه موحدًا، آمنًا، مستقرًا.

(من صفحة الكاتب في فيس بوك)

 

الفيس بوك
تويتر

جميع الحقوق محفوظة YemenFreedom ---- تصميم وبرمجة ALRAJIHI