6 أكتوبر 2025
19 سبتمبر 2025
يمن فريدم-اندبندنت عربية-سعيد طانيوس
فرانس برس


تطور الصراع العسكري في أوكرانيا، وظهور بؤر ساخنة داخل الشرق الأوسط وجنوب شرقي آسيا، وتنامي الاضطرابات الداخلية في عدد كبير من البلدان، كلها أمور وضعت حلف شمال الأطلسي (الناتو) أمام اختبار مصيري معقد، لا سيما بعدما اقتنعت النخب في واشنطن تحت قيادة دونالد ترمب، بعبثية الاستمرار في سياسة دعم أوكرانيا.

وعلى رغم جمود المؤسسة الأميركية العميقة وتركيزها على مهمة "هزيمة روسيا"، بدأت إدارة ترمب تفكر في حل حقيقي لهذه المشكلة، التي تفاقم الوضع العالمي بصورة خطرة في مجالات مختلفة.

ويبدو أن إحدى الخطوات المحتملة للولايات المتحدة قد تكون ضمان حياد أوكرانيا، وهو ما يتوافق مع أحد المطالب الرئيسة لموسكو. فالأميركيون يدركون أن أي وعد أحادي من كييف لا قيمة له ولن يكون محل ثقة القيادة الروسية، لذا من الضروري أن يدعم حلفاء الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي هذا الوعد.

مع ذلك، تبقى هذه خيارات افتراضية لليوم. فواشنطن، انطلاقاً من "استراتيجية طويلة المدى"، تحافظ على رهانها على حلف شمال الأطلسي كعامل عسكري قوي مثبت في ميزان القوى مع موسكو.

وفي إطار هذه الاستراتيجية، تركز أنشطة حلف شمال الأطلسي اليوم على حل المهام الاستراتيجية الرئيسة التي تحدد قدرة التحالف على التكيف مع مجموعة واسعة من التهديدات والتحديات الجديدة، وعلى رأسها المشاركة في حرب بالوكالة داخل أوكرانيا، والتي قد تثقل الحلف بالتزامات موسعة لضمان أمن أوكرانيا، والاستمرار في تقديم المساعدات العسكرية، وصولاً إلى الوعد بالتدخل العسكري في الصراع.

تهدف كل اتجاهات تطوير حلف شمال الأطلسي إلى خلق فرص جديدة وتعزيز إمكانات هذا التحالف العسكري السياسي باعتباره القوة المهيمنة في أوروبا والتابع المخلص للولايات المتحدة.

هل نشر قوات "الناتو" في أوكرانيا أمر واقعي؟

كان تنفيذ خطط ما يسمى "منطقة شنغن العسكرية" خطوة مهمة في تعزيز القدرة الاستراتيجية على الحركة للقوات المسلحة المشتركة لحلف "الناتو"، والتي تهدف إلى زيادة قدرة قوات التحالف على المناورة وتسريع تسليم المعدات الأميركية إلى الحلفاء. هذا هو هدف مبادرة هولندا وألمانيا وبولندا، التي وقعت إعلاناً خلال الـ30 من يناير/ كانون الثاني 2024 لإنشاء ممر لحركة القوات وتمركزها على طول الحدود الروسية. لم يكن اختيار هذه الدول محض صدفة، إذ تشكل أراضيها شرياناً واحداً يمكن عبره نقل القوات من غرب أوروبا إلى شرقها، إضافة إلى ذلك يقع في هولندا أكبر موانئ روتردام وأمستردام، التي تستورد المعدات الثقيلة من الولايات المتحدة الأمريكية وكندا، بالتالي تتزايد وتيرة التسليم إلى الوجهة المطلوبة في أوروبا. ومن المخطط توسيع "منطقة شنغن العسكرية" تدريجاً لتشمل أراضي جميع الدول الأعضاء في حلف "الناتو".

وتعتقد النخب العسكرية والسياسية في روسيا أن حلف شمال الأطلسي استثمر مبالغ طائلة في أوكرانيا ولن يتقبل هزيمته بسهولة، لذا سيكون مستعداً لإرسال جنوده إلى الحرب ضد القوات الروسية.

وتشير هذه النخب الروسية إلى أن أوكرانيا تخسر الحرب على رغم استثمار الدول الغربية موارد كثيرة فيها، لذلك لا يمكن لدول "الناتو" السماح لأوكرانيا بالخسارة. وخلال الوقت نفسه، هناك بالفعل سوابق عندما أرسل حلف شمال الأطلسي قوات إلى دول غير أعضاء في الحلف، على سبيل المثال إلى كوسوفو عام 1999، ثم زعم أن ذلك كان لمنع كارثة إنسانية داخل البلاد، لذلك قد يستخدم التحالف الآن الذريعة نفسها.

وخلال الوقت ذاته، يحاول الصقور الأوروبيون الضغط على الولايات المتحدة للاستمرار في دعم أوكرانيا وتزويدها بمزيد من الدفاعات الجوية، ولهذا السبب يضطرون إلى اتباع سياسة عدائية بصورة متزايدة تجاه موسكو.

الاستخبارات الروسية

وفقاً لجهاز الاستخبارات الخارجية الروسي، يسعى الغرب بقيادة دول "الناتو" الأوروبية إلى نشر قوة عسكرية قوامها نحو 100 ألف جندي داخل أوكرانيا، لاستعادة القدرة القتالية للقوات المسلحة الأوكرانية. ويعد محللو الاستخبارات أن هذا سيكون بمثابة احتلال فعلي للبلاد.

لذلك صرح "الكرملين" بأن نشر قوات حفظ سلام على الأراضي الأوكرانية لا يمكن أن يتم إلا بموافقة أطراف النزاع. وأكد وزير الخارجية سيرغي لافروف أن روسيا لا ترى أية إمكانية للتسوية في هذه القضية. وبحسب قوله، إذا دخلت قوات أجنبية إلى أوكرانيا فلن يرغب الغرب بالموافقة على شروط تسوية سلمية، لأن هذه القوة ستنشئ أمراً واقعاً على الأرض.

وحذر خبير فنلندي من أن يستغل الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي حادثة المسيرات في بولندا لجر "الناتو" إلى صراع مباشر مع روسيا. وكتب الأستاذ في جامعة "هلسنكي" توماس مالينين على منصة "إكس"، "من المرجح أن نشهد محاولة لعملية زائفة يقوم بها زيلينسكي عبر استخدام طائرات مسيرة روسية استولت عليها كييف بهدف جر حلف شمال الأطلسي بصورة مباشرة إلى الصراع". وأوضح أن فريقه كان حذر منذ أكثر من عام من احتمال لجوء نظام زيلينسكي إلى مثل هذه المحاولة.

وخلال وقت سابق، كتب مالينين منشوراً على "إكس" تعليقاً على المزاعم في شأن الطائرات المسيرة في بولندا، جاء فيه "إذا كنت تعتقد أن روسيا ستقوم بإرسال طائرات مسيرة إلى دولة عضو في ’الناتو‘ للتصعيد أكثر، فأنت أحمق". وأضاف "لا يهم ما إذا كنت تؤمن بسردية ’روسيا تنتصر‘ أو ’روسيا تخسر‘، فالدخول في مواجهة مباشرة مع ’الناتو‘ لا معنى لها في أي من الحالين".

لكن الطيار الروسي المخضرم الجنرال المتقاعد فلاديمير بوبوف اعتبر أن زيلينسكي لن يتمكن من جر "الناتو" إلى الصراع بإطلاق طائرات من دون طيار في رومانيا، مشيراً إلى أن الجيش الأوكراني ربما جمع أجزاء من طائرات روسية من دون طيار سقطت في منطقة عمليات القوات الخاصة الأوكرانية وأرسلها إلى رومانيا وبولندا كاستفزاز.

وقال الجنرال ضمن مقابلة صحافية خلال الـ15 من سبتمبر/ أيلول الجاري "حتى بعد استفزازات كييف بغارات الطائرات المسيرة، لن يتدخل القادة الغربيون في الصراع داخل أوكرانيا، فهم يدركون تماماً من يقف وراء اكتشاف القوات الجوية الرومانية طائرة من دون طيار تحلق فوق أراضي البلاد، مما اضطرها لإرسال طائرتين مقاتلتين من طراز أف 16 لرصدها".

وخلال الـ10 من سبتمبر الجاري، أبلغ رئيس الوزراء البولندي دونالد توسك عن انتهاكات متعددة للمجال الجوي للبلاد. لكن الرئيس البولندي أشار إلى أن بلاده حذرة للغاية من هذا الحدث لاعتقادها أن روسيا وبيلاروس لا يمكن أن يكون لديهما أية نيات. ولمح بالفعل إلى أن هذه طائرات مسيرة أوكرانية. وينطبق الأمر نفسه على رومانيا. ويدرك القادة الغربيون تماماً أن هذه استفزازات، على رغم أنهم لا يعلنون هذا الرأي علناً، كما أشار بوبوف.

ولاحقاً، أعلن وزير الخارجية البولندي رادوسلاف سيكورسكي في حديث مع صحيفة "غارديان" أن جميع الطائرات المسيرة التي سقطت في بولندا ليلة 9-10 سبتمبر الجاري كانت "دمى" ولم تحمل أية مواد متفجرة.

وخلال وقت سابق، أشار الجنرال بوبوف إلى أن زيلينسكي كان يحاول ابتزاز الأموال من حلف شمال الأطلسي عبر إطلاق طائرات من دون طيار على بولندا ورومانيا.

مخاوف متبادلة

في المقابل، يتزايد حديث الدول الغربية عن استعداد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لشن حرب جديدة في أوروبا. وصرح الأمين العام لحلف "الناتو" مارك روته خلال يونيو/ حزيران الماضي بأن روسيا قد تكون مستعدة لمهاجمة الحلف في غضون خمسة أعوام. وخلال مايو/ أيار الماضي، حدد المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية إطاراً زمنياً أقصر، وقال إن روسيا قد تشكل تهديداً عسكرياً كبيراً لحلفاء "الناتو" بحلول عام 2027.

صارت التحذيرات من هجوم روسي محتمل ضد دول حلف شمال الأطلسي شائعة بصورة متزايدة منذ شنت القوات الروسية عمليتها العسكرية الخاصة ضد أوكرانيا. ويُقال إن هذه التحذيرات تستند إلى تحليل للتطورات العسكرية الروسية وتصريحات "الكرملين" ووسائل الإعلام التابعة له.

وبحسب تقرير مشترك لجهاز الاستخبارات الفيدرالي الألماني والجيش الألماني اطلعت عليه صحيفة "بيلد"، تستعد روسيا لحرب واسعة النطاق ضد حلف شمال الأطلسي، وهو ما يعده الرئيس فلاديمير بوتين صراعاً منهجياً لا مفر منه.

وبحسب تقديرات الاستخبارات الألمانية، فإن روسيا قد تكون بحلول نهاية عشرينيات القرن الحالي مستعدة بالكامل لـ"حرب تقليدية واسعة النطاق" ضد حلف الأطلسي.

وفي الوقت الحالي، يعتقد جهاز الاستخبارات الخارجية الألماني أن موسكو لا تملك قوات كافية لخوض صراع مباشر مع الحلف. ومع ذلك، يحذر جهاز الأمن الليتواني من أن روسيا قد تنفذ عملية محدودة ضد دولة أو أكثر من دول الحلف لاختبار مدى جاهزيته للوفاء بالتزاماته في مجال الدفاع الجماعي.

وذكر التقرير أن القوات الجوية والبحرية الروسية لا تزال جاهزة للقتال على رغم مشاركتها في الحرب الأوكرانية، مضيفاً أن موسكو قد تعيد نشر قواتها بسرعة إلى حدود بحر البلطيق بمجرد انتهاء الصراع.

ويُشار أيضاً إلى أن الجيش الروسي يواصل تعويض خسائره، وتنتج الصناعة العسكرية منتجات أكثر مما تحتاج إليه الجبهة.

منذ عام 2022، أنفقت روسيا ما لا يقل عن 22 تريليون روبل (الدولار الأمريكي 80 يعادل روبلاً) على الجيش والأسلحة. وفي عام 2025 الجاري، بلغت موازنة الدفاع 13.2 تريليون روبل، أي ما يقارب 30% من إجمال النفقات، وهو رقم قياسي منذ الحقبة السوفياتية.

وخلال سبتمبر 2024، وقع بوتين مرسوماً بزيادة قوام الجيش إلى 2.3 مليون فرد، من بينهم 1.5 مليون جندي في الخدمة الفعلية، مما يجعل الجيش الروسي ثاني أكبر جيش في العالم بعد الصين.

وسبق لجهاز الاستخبارات العسكرية الدنماركي أن حذر من خطر اندلاع صراع واسع النطاق في أوروبا. وذكر تقريره الصادر خلال فبراير/ شباط الماضي أن روسيا قد تلجأ إلى العدوان إذا ضعف حلف "الناتو".

ووفقاً لصحيفة "فايننشال تايمز" فإن الاقتصاد الروسي مهيأ بالفعل للصراع، وقد تدفع طموحات بوتين إلى السعي لغزو مناطق جديدة، حسب قول الصحيفة.

وعلى خلفية هذه المعطيات، صرح الأمين العام لحلف شمال الأطلسي مارك روته بأنه في حال تعرض دول الحلف لأي عدوان فإن الرد سيكون "مدمراً". وقال روته ضمن مؤتمر صحافي في وارسو "إذا قرر أي شخص الهجوم على بولندا أو حليف آخر فلن يمر الأمر من دون عقاب، وسوف يواجه القوة الكاملة للتحالف".

وحذر أمين عام حلف الأطلسي من أن الإنتاج الشهري لقذائف المدفعية في روسيا بلغ 250 ألف وحدة، أي ما يزيد بأربعة أضعاف عن إنتاج دول الحلف مجتمعة. ونجحت روسيا في زيادة إنتاجها من الأسلحة، بما في ذلك الطائرات المسيرة والصواريخ المتطورة. وتتلقى مساعدات عسكرية من كوريا الشمالية وتواصل تجنيد العسكريين بنشاط.

ووفقاً للكونغرس الأمريكي، أصبح الجيش الروسي الآن أكبر بنسبة 15% مما كان عليه في بداية الهجوم ضد أوكرانيا، ويواصل تجنيد نحو 30 ألف جندي جديد شهرياً. ووفقاً للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، فإن الإنفاق العسكري الروسي قد يتجاوز إجمال الإنفاق الدفاعي لأوروبا من حيث تعادل القوة الشرائية.

وتبرر موسكو خططها برغبتها في حماية أمنها القومي، لكن الحرب في أوكرانيا تظهر أن "الكرملين" قد يعد مهاجمة دولة أخرى وسيلة لمواجهة التهديدات، ويعتقد الرئيس السابق لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية ديفيد بترايوس أنه إذا فاز بوتين في أوكرانيا فلن يتوقف، بل سيمضي قدماً.

المعرضون لغزو بوتين

يتفق جميع الخبراء الغربيين تقريباً على أن دول البلطيق - إستونيا ولاتفيا وليتوانيا - هي الأكثر عرضة للخطر. فهذه الدول تعاني نقاط ضعف عديدة تجعلها أهدافاً جذابة لموسكو.

أولاً هناك عزلة جغرافية، فدول البلطيق متصلة ببقية دول حلف "الناتو" فقط عبر ممر "سووالكي" الضيق، وهو شريط من الأرض يبلغ عرضه نحو 100 كيلومتر بين كالينينغراد وبيلاروس. لذلك فإن سيطرة روسيا على هذا الممر ستقطع دول البلطيق عن التعزيزات المرسلة براً.

ثانياً الضعف العسكري النسبي، فلدى الدول الثلاث أقل من 50 ألف جندي ضمن جيوشها المشتركة. ويبلغ الوجود المتقدم لحلف "الناتو" في دول البلطيق 4500 جندي، وسيعزز إلى 10 آلاف. وقدر محللون عسكريون أن الردع الفعال ضد العدوان الروسي المحتمل يتطلب 300 ألف جندي، وهي قوة غير موجودة حالياً في صورة قابلة للانتشار السريع.

من دون مقاومة جدية يمكن للقوات الروسية من لينينغراد الوصول إلى تالين في غضون ساعات قليلة. وبعد انضمام فنلندا إلى حلف "الناتو" أعاد بوتين إنشاء منطقة لينينغراد العسكرية، مع خطط لنشر 50 ألف جندي على الحدود الفنلندية واللاتفية والإستونية. وتبرر موسكو ذلك بالحاجة للدفاع ضد "الناتو"، وتنفي أية خطط عدوانية.

كيف يمكن أن يبدو الهجوم الروسي؟

يدرس المحللون العسكريون الغربيون سيناريوهات عدة للهجوم الروسي المحتمل على حلف "الناتو". ويعد السيناريو الأكثر ترجيحاً هو "سيناريو البلطيق"، الذي يتضمن مراحل عدة:

الأولى تحضيرية، وتتضمن تكثيف العمليات الهجينة، بما في ذلك الهجمات الإلكترونية على البنى التحتية الحيوية وتخريب منشآت الدفاع والطاقة. ووفقاً لمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، تضاعف عدد عمليات التخريب الروسية في أوروبا ثلاث مرات بين عامي 2023 و2024.

والمرحلة الثانية هي غزو خاطف، فقد ترسل موسكو قواتها إلى ليتوانيا وتشن هجمات على إستونيا ولاتفيا. وستكلف القوات العسكرية بسد فجوة "سووالكي". وخلال الوقت نفسه، ستُنشر قطع الأسطول الحربي الروسي في بحر البلطيق.

والمرحلة الثالثة هي الإكراه النووي، ففي حال حاول حلف "الناتو" استعادة الأراضي المحتلة، يمكن لروسيا التهديد باستخدام أسلحة نووية تكتيكية ضد القواعد والمدن العسكرية الأوروبية. لذلك، قبل مهاجمة أوكرانيا أجرت روسيا تدريبات لقوات الردع الاستراتيجي.

هل حلف "الناتو" مستعد لصد هجوم روسي؟

يعد الصقور في حلف شمال الأطلسي، وعلى رأسهم المستشار الألماني الحالي، أن خطط موسكو لغزو دول البلطيق تنبع من إحجام حلف "الناتو" عن الانخراط في عمل عسكري حقيقي وشامل ضد روسيا. فالقوة العسكرية الرئيسة للحلف هي الجيش الأميركي، وشكك دونالد ترمب مراراً في التزام بلاده بالدفاع الجماعي.

وتقدر الاستخبارات الدنماركية أن روسيا ستلجأ على الأرجح إلى استخدام القوة ضد حلفاء "الناتو" إذا شعرت بأن التحالف مفكك أو ضعيف عسكرياً. وفي ظل هذه الظروف تستعد الدول الأوروبية لإعادة تسليح واسعة النطاق، إذ وافقت على زيادة الإنفاق العسكري بصورة حادة، بنسبة تصل إلى خمسة في المئة على الدفاع ككل.

منذ بدء الهجوم الروسي على أوكرانيا عام 2022، توسع التحالف الأطلسي بانضمام دولتين هما فنلندا والسويد، مما زاد من طول الحدود المشتركة مع روسيا بأكثر من ألف كيلومتر، إضافة إلى ذلك تعزز الوجود الشرقي لحلف "الناتو" داخل الدول الشرقية للكتلة بصورة ملحوظة. فإضافة إلى المجموعات القتالية الأربع الموجودة في إستونيا ولاتفيا وليتوانيا وبولندا، أضيفت أربع مجموعات أخرى في بلغاريا والمجر ورومانيا وسلوفاكيا. وتستعد دول البلطيق وبولندا لإنشاء خط دفاع ممتد على طول الحدود الروسية مجهز بحقول ألغام مضادة للأفراد.

حتى لو لم تدخل الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية الحرب، فإن غزو دول البلطيق قد يجر جيرانها إلى الصراع إذا اعتقدوا أن الغزو الروسي قد يهدد وجودهم، وفقاً لوكالة "بلومبيرغ" الأميركية. وإذا هاجموا روسيا وربما بيلاروس، فستصبح الحرب عالمية على أية حال.

لكن دخول الولايات المتحدة الحرب المحتملة ضد روسيا يغير الوضع جذرياً، فخلال عام 2024 أجرى حلف شمال الأطلسي أكبر مناورات عسكرية منذ انهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة، وهي مناورة "المدافع الصامد"، التي تدرب خلالها على النقل السريع للقوات إلى أوروبا من أميركا الشمالية عبر المحيط الأطلسي.

في احتمال الحرب

يشير المتشككون إلى أن روسيا غير مستعدة لحرب على جبهتين، وأن الكلف الاقتصادية لمثل هذا الصراع ستكون كارثية لجميع الأطراف. وقدر اقتصاديو "بلومبيرغ" أن حرباً بين روسيا وحلف شمال الأطلسي قد تكلف الاقتصاد العالمي 1.5 تريليون دولار.

عادة ما تتحدث تقارير مراكز الأبحاث عن استعداد بوتين المحتمل للحرب، وهذا لا يعني أنه يرغب فعلاً في إشعالها. ويشير تقرير الاستخبارات الدنماركي إلى أن روسيا ترى نفسها في صراع مع الغرب وتستعد لحرب ضد "الناتو". لا يعني ذلك أن قراراً اتُّخذ بشن مثل هذه الحرب، بل إن روسيا تسلح نفسها وتعزز قدرتها تمهيداً لاتخاذ مثل هذا القرار".

مع ذلك، فإن من يأخذون هذا التهديد على محمل الجد يشيرون إلى أمثلة تاريخية على سوء تقدير المعتدين لخططهم. وعلاوة على ذلك، بعد هجوم روسيا على أوكرانيا توقفت اتصالات موسكو مع الدول الغربية تقريباً، مما يضعف بشدة إمكانية التوصل إلى حل دبلوماسي لأية مشكلة.

وقال وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو لصحيفة "بوليتيكو"، "إنهم لا يتحدثون مع أية جهة في أوروبا. لا يتحدثون مع أي جهة أخرى في العالم ممن هم في صفنا، وينظرون إلى الأمر بالطريقة نفسها التي ننظر بها نحن إليه".

علاوة على ذلك، قد تتدخل عوامل غير متوقعة تماماً في الوضع. وفي توقع غريب، لم يستبعد أمين حلف "الناتو" مارك روته أن تهاجم روسيا أراضي الاتحاد بناءً على طلب الصين. وقال "إذا قررت الصين استخدام القوة ضد تايوان، فقد يطلب الزعيم الصيني شي جينبينغ من الرئيس الروسي صرف انتباه الأوروبيين عن الوضع في منطقة المحيطين الهندي والهادي".

وفيما روسيا منشغلة بحربها في أوكرانيا من دون أن تحشد أياً من قواتها قرب حدود أية دولة في حلف "الناتو"، أعلن رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر أن بلاده سترسل طائرات مقاتلة إلى بولندا في إطار عملية "الحارس الشرقي" للحلف، على خلفية حادثة الطائرات المسيرة على أراضي بولندا. وقال ستارمر ضمن حديث للقناة الرابعة التلفزيونية البريطانية، "اليوم نعلن أننا سننشر قوات جوية إضافية في بولندا"، مشيراً إلى أن زعماء دول "الناتو" بحثوا كيفية الرد على حادثة المسيرات، وأنه بحث هذا الموضوع مع الرئيس البولندي كارول نافروتسكي الأسبوع الماضي.

ومن المقرر أن ترسل بريطانيا مقاتلات "يوروفايتر تايفون" إلى بولندا، وستبدأ التحليق فوق الأراضي البولندية خلال أيام، بحسب ما جاء ضمن بيان لوزارة الدفاع البريطانية في هذا الصدد. ومن المتوقع أن تنفذ أيضاً طائرات ألمانية وفرنسية تحليقاً فوق بولندا ضمن عملية "الناتو".

وأعلن الأمين العام للحلف عن إطلاق الحلف عملية "الحارس الشرقي" لتعزيز دفاعاته في أعقاب حادثة إسقاط طائرات مسيرة فوق الأراضي البولندية، زعمت وارسو إنها روسية.

ونفت وزارة الدفاع الروسية إطلاق طائرات مسيرة باتجاه بولندا، مشيرة إلى أن المسيرات المستخدمة من قبل الجيش الروسي ضد القوات الأوكرانية غير قادرة على الوصول إلى أراضي بولندا.

هل تردع المادة الخامسة روسيا؟

المادة الخامسة تعد المادة الرئيسة في الميثاق الذي أنشأ حلف "الناتو"، وتنص على الدفاع الجماعي في حال تعرض أحد أعضائه لهجوم. وأكد "الناتو" مراراً وتكراراً أنه ليس في حال حرب مع روسيا ولا يسعى إلى مواجهتها. وتمتلك دول "الناتو" - الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا - أسلحة نووية تضاهي ترسانة روسيا. وخلال الوقت نفسه، يفوق إنفاق دول "الناتو" على تدريب قواتها المسلحة قدرات موسكو المالية بأضعاف مضاعفة.

على سبيل المثال ووفقاً لحسابات معهد "ستوكهولم" الدولي لأبحاث السلام، بلغ الإنفاق العسكري للولايات المتحدة وحدها 916 مليار دولار عام 2023، بينما تبلغ الموازنة العسكرية الروسية نحو 109 مليارات دولار. ويبلغ إجمال عدد الأفراد العسكريين في دول "الناتو" ضعف عدد الأفراد في الاتحاد الروسي تقريباً.

ووفقاً لموقع "ستاتيستا"، يبلغ إجمال عدد الأفراد العسكريين في "الناتو" نحو 7.6 مليون فرد، منهم 3.4 مليون جندي في الخدمة العسكرية الفعلية من دون احتساب جنود الاحتياط، فيما يبلغ تعداد الجيش الروسي حالياً نحو 1.3 مليون جندي من تعداد الجيش الروسي البالغ نحو 3.5 مليون فرد. وتقدم دول حلف "الناتو" مساعدات عسكرية لأوكرانيا وتدرب الجنود الأوكرانيين. وخلال الوقت نفسه أكد الحلف مراراً، بما في ذلك خلال قمته الـ75 بواشنطن، أنه لن يتدخل مباشرة في الحرب التي تشنها روسيا على أوكرانيا، تجنباً لصراع مباشر بينه وموسكو. لذلك، قرر الحلف عدم إغلاق المجال الجوي فوق أوكرانيا بقوات الدفاع الجوي، وعدم إرسال وحدات عسكرية تابعة له إليها.

هل "الناتو" مستعد؟

خلال تغطيتها لقمة الـ"الناتو" الـ75 استخدمت وسائل الإعلام الروسية رواية راسخة مفادها أن الحلف (الولايات المتحدة والغرب الجماعي) يستعد لحرب مع موسكو، ونشرت صحيفة "موسكوفسكي كومسوموليتس" عنواناً رئيساً مفاده أن هجوماً للحلف على روسيا "قد تقوده ألمانيا"، بينما نشرت قناة "تساغراد" التلفزيونية عنواناً مفاده أن "الحلف يستعد لمحاربة روسيا بجدية، وحُدد موعد حاسم". ومن المثير للاهتمام أن هذا، كغيره من لوازم البروباغندا، يتناقض مع روايات أخرى، لا سيما أن الحلف في حال حرب بالفعل مع روسيا.

وكثيراً ما يستشهد الصحافيون الروس بمعلومات تنشرها وسائل الإعلام الغربية علناً، مثل تعزيز قوات "الناتو" في أوروبا، ونشر الأسلحة، أو إعداد استراتيجية في حال الحرب مع روسيا. وخلال الوقت نفسه، يظهر التحليل الاستراتيجي لأعمال "الناتو" ووثائقه أن أي صراع عسكري مع روسيا لا يؤخذ في الاعتبار إلا في حال استخدام موسكو للأسلحة النووية خلال الحرب في أوكرانيا، أو مبادرتها بمهاجمة إحدى الدول الأعضاء في الحلف.

ومن الناحية الجيوسياسية ووفقاً لبعض المشاركين في قمة "الناتو" الـ75 بواشنطن، فإن هجوم روسيا على أوكرانيا كشف نقاط ضعف الحلف. وزادت إجراءات موسكو من جاهزيته في ظل مخاوف الحلفاء من التهديدات العسكرية الروسية. واعتباراً من عام 2024 فعلت دول "الناتو" خططها الدفاعية ونشرت آلاف القوات الإضافية على جانبي الأطلسي. ونشر "الناتو" أربع كتائب جديدة في بلغاريا والمجر ورومانيا وسلوفاكيا، إضافة إلى الكتائب الموجودة داخل إستونيا ولاتفيا وليتوانيا وبولندا.

ارتفع عدد قوات الرد السريع ضمن "الناتو" إلى نصف مليون. ووفقاً لأرقام رسمية للحلف، فإنه قبل الهجوم الروسي الشامل على أوكرانيا عام 2022 كان عدد قوات الرد السريع التابعة للحلف داخل أوروبا 40 ألفاً فحسب. وقبل ضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014 كان عددها 13 ألفاً.

ومنذ انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991 تعاون حلف "الناتو" مع روسيا في مجموعة من البرامج، منها مكافحة الإرهاب والتدريبات المشتركة والعمليات العسكرية. بالتالي، زادت سياسة موسكو من جاهزية الحلف القتالية في حال وقوع هجوم روسي، ولكن لا يوجد دليل على رغبة الحلفاء في خوض صراع مباشر مع روسيا.

استشهد الدعاة الروس مراراً وتكراراً بتوسع "الناتو" كسبب لشن هجوم واسع النطاق على أوكرانيا عام 2022. وقال الرئيس الروسي السابق دميتري ميدفيديف معلقاً على أهداف الحرب التي تشنها روسيا "إن الخطط الرامية إلى التوسع المستمر اللامتناهي لحلف ’الناتو‘ ومحاصرة روسيا بمزيد من القواعد العسكرية الجديدة واختبار قوتنا وإرسال الأسلحة، ستنتهي".

ويصف "الكرملين" التصريحات الصادرة عن دول أوروبية ولا سيما بولندا حول مناورات "الغرب - 2025" الروسية البيلاروسية، التي استمرت بين الـ12 والـ16 من سبتمبر الجاري بـ"الهيستيرية". وقال المتحدث باسم "الكرملين" دميتري بيسكوف إن ردود الفعل هذه تأتي في إطار "الموقف المعادي" الذي تتبناه أوروبا تجاه موسكو.

وأضاف "من البديهي أن تستقطب مثل هذه التدريبات انتباه الدول الحدودية. ففي الظروف الطبيعية للتعايش السلمي البناء والودي، كان ممثلو الدول الغربية دائماً يتابعون سير المناورات الروسية وهي ممارسة معتادة. أما الآن، عندما تتبنى أوروبا موقفاً معادياً، فإن كل هذا يتحول إلى انفعالات هيستيرية". وذكر بتصريحات سابقة للرئيس بوتين أكد فيها أن روسيا "لم تهدد أحداً"، وأن التوسع العسكري كان دائماً يأتي من أوروبا باتجاه الحدود الروسية.

وأعلنت وزارة الدفاع الروسية خلال الـ12 من سبتمبر الجاري انطلاق مناورات "الغرب - 2025" الاستراتيجية الروسية البيلاروسية على أراضي اتحاد روسيا وبيلاروس الغربية وفي بحري البلطيق وبارنتس، حتى الـ16 من الشهر نفسه. ورداً على ذلك أعلنت بولندا إغلاق حدودها بالكامل مع بيلاروس اعتباراً من ليل الجمعة الماضي، وأرسلت 40 ألف جندي إلى حدودها الشرقية.

وعدت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا أن الغرب يفترض تهديداً من الشرق بسبب وضعه الكارثي. وقالت "يفعلون كل هذا لأن الوضع في أوروبا الغربية كارثي من الناحية الاقتصادية. فبعد المغامرة التي يخوضونها داخل أوكرانيا، بات من الضروري تعزيز الكراهية لروسيا وبيلاروس بطريقة أو بأخرى". ووفقاً لها، فإن كراهية روسيا وبيلاروس "لم يعد بإمكانهم تعزيزها إلا باختلاق أكاذيب جديدة".

واستطردت "بهذه الأفعال التي تحاكي نوعاً من العدوان الزائف الآتي من الشرق، يحاولون ترهيب شعوبهم لجمع مزيد من الأموال لمساعدة نظام كييف كي يضعوا أنفسهم أكثر على طريق من الوهم مسدود اختلقوه بأنفسهم".

وأشارت زاخاروفا إلى أن حادثة الطائرات المسيرة الأخيرة هي واحدة من سلسلة استفزازات من قبل وارسو، مضيفة "لقد كانت هناك استفزازات كثيرة، وهذه ليست الأولى للأسف وربما ليست الأخيرة".

من جهته، نفى الجانب الروسي بشدة هذه الاتهامات، وأعلنت وزارة الدفاع الروسية أن الضربات الجوية التي نفذتها قواتها ليل الـ10 من سبتمبر الجاري ضد منشآت عسكرية أوكرانية لم تستهدف أية مواقع في بولندا. وأكدت استعدادها لإجراء مشاورات فنية مع الجانب البولندي لتبديد أي لبس.

وسخر نائب رئيس مجلس الأمن الروسي دميتري ميدفيديف مما أعلنه "الناتو" عن عملية "الحارس الشرقي" لردع روسيا، وقال إن هذا "الحارس" أضحكه، إذ بقى وحيداً بعد انفضاض "تحالف الراغبين". واصفاً العملية بأنها "أثارت ضحكه"، وكتب على "تيليغرام"، "أثارت ضحكي أيضاً هذه المبادرة الأوروبية ’القوية‘، مبادرة ’الحارس الشرقي‘. يبدو أن هذا كل ما تبقى من ’تحالف الراغبين‘".

الكلمة الأخيرة لروسيا

وفي إطار تحول حلف شمال الأطلسي إلى دور جيوسياسي جديد، ينصب التركيز الرئيس على تحسين قدرات الحلف على إضعاف روسيا وهزيمتها في ساحات الحرب بالوكالة داخل أوكرانيا بكل الوسائل الممكنة، بما في ذلك التدخل المباشر في العمليات العسكرية.

وخلال الوقت نفسه، يسعى الأمريكيون جاهدين لربط حلف "الناتو" بأقصى قدر ممكن من الجهود الرامية إلى تعزيز مواقع الغرب في جنوب شرقي آسيا والقطب الشمالي والشرق الأوسط وأفريقيا. وتولي واشنطن اهتماماً خاصاً لتنسيق الجهود المناهضة لروسيا في حديقتها الخلفية الممثلة ببلدان رابطة الدول المستقلة، وتقويض منظمة "شنغهاي" للتعاون ومجموعة الـ"بريكس".

وتتطور الخطابات العدوانية للسياسيين والعسكريين لدى كلا الجانبين، إلى جانب الاستعدادات العسكرية المحددة، بما يتماشى مع الاستعداد لخلق فرص جديدة لتحالف "الناتو" العسكري السياسي وتعزيز إمكاناته كقوة مهيمنة داخل أوروبا.

لكن الكلمة الحاسمة التي ستحدد مصير النظام العالمي الجديد ستقال في ساحات القتال داخل أوكرانيا، مع الدور الحاسم للموارد الهائلة لروسيا، والموزعة على كامل العمق الاستراتيجي لهذه الدولة الشاسعة المساحة والموارد.

ويقول المحلل السياسي الروسي روستيسلاف إيشينكو "إذا اعتبرنا المشاركة المباشرة ضمن العمليات العسكرية تدخلاً ميدانياً علنياً في حرب، فإن حلف ’الناتو‘ كهيكل لن يتدخل في الحرب داخل أوكرانيا، لأن ذلك سيسفر عن حرب عالمية بكل ما يترتب عليها من عواقب. ثلث دول الحلف في الأقل وربما نصفها لن تحارب روسيا، وتتخذ القرارات داخل الحلف بالإجماع".

أما في ما يتعلق بالتدخل على مستوى الدعم السياسي والدبلوماسي، والمساعدة المالية والاقتصادية والعسكرية التقنية، فضلاً عن الدعم العسكري المباشر (المرتزقة والمستشارين)، فقد شارك حلف شمال الأطلسي ضمن الحرب الأوكرانية منذ بدايتها، وحتى قبل أن تبدأ.

الفيس بوك
تويتر

جميع الحقوق محفوظة YemenFreedom ---- تصميم وبرمجة ALRAJIHI