يحمل منتصر طفله الذي أصيب في رأسه بعيار ناري أطلقته الطائرات المسيرة، ويركض في طرقات مدينة غزة المدمرة لوحده، قاصداً مستشفى القدس، لكنه تفاجأ بأن الدبابات الإسرائيلية تحاصر المرفق الطبي وتمنع الدخول إليه والخروج منه.
حائر الأب، طفله ينزف دماً وإصابته في جمجمته خطرة ويلفظ أنفاسه الأخيرة، يواصل الركض متجهاً نحو المستشفى الأردني، وعندما اقترب منه شاهد الدبابات الإسرائيلية في المكان، والشاحنات تنقل معدات المرفق الطبي نحو جنوب القطاع.
دبابات في الشوارع
على رصيف الشارع المليء بالركام وضع منتصر صغيره وحاول الاتصال بخدمة الإسعاف والطوارئ، لكنه عبثاً فعل ذلك، فوجوده في مدينة غزة التي بدأ فيها الجيش الإسرائيلي عملية عسكرية أطلق عليها "عربات جدعون 2" تقيد حركة سيارات الإنقاذ.
بدأت إسرائيل احتلال مدينة غزة بالكامل، وأمرت جميع السكان بالإخلاء والتوجه إلى جنوب القطاع، وتقدمت القوات البرية على الأرض حتى وصلت إلى عمق أكبر مدن القطاع، وضمن سياسة ممنهجة تعرضت المرافق الطبية والصحية لانتهاكات خطرة للغاية.
يلهث منتصر متعب وجسده هزيل، لا بشر حوله يقدمون له المساعدة الجميع نزح نحو الجنوب، وبقي قليل من السكان في مدينة غزة، أمام الأب خيار واحد مزيد من الركض لإنقاذ صغيره، وعليه الاختيار إما التوجه نحو مستشفى الشفاء أو مستشفى المعمداني.
ثمانية مستشفيات
قبل البدء في خطة احتلال مدينة غزة، كان يوجد في المجمع الحضري ثمانية مرافق طبية تقدم خدماتها لنحو 1.1 مليون نسمة، وهي (مستشفى حمد للتأهيل وتابع لقطر، ومستشفى الرنتيسي التخصصي، ومستشفى العيون الوحيد في شمال القطاع، ومستشفى القدس الطبي التابع لجمعية الهلال الأحمر، وكذلك المستشفى الأردني التابع للخدمات الملكية الهاشمية، ومستشفى الشفاء، والمستشفى المعمداني التابع لبريطانيا، والإغاثة الطبية الفلسطينية).
صحيح أن هذه المرافق الصحية منهارة وتقدم علاجات محدودة والأطباء فيها منهكون ويؤدون واجباتهم وسط الإرهاق، لكن على رغم ذلك كان هناك نوع من الرعاية الإنسانية، وعندما توغل الجيش في مدينة غزة مستخدماً قوة نارية بركانية انهارت الخدمات الصحية بسرعة.
توقفت ستة مستشفيات عن تقديم خدماتها الصحية وهي مستشفى حمد للتأهيل، والرنتيسي التخصصي والعيون والقدس والأردني والإغاثة الطبية عن العمل، وبقي في المجمع الحضري مستشفى المعمداني ومجمع الشفاء الطبي فقط يقدمان خدمات بسيطة ومحدودة.
ماذا حصل للمستشفيات الستة؟
تعرض محيط مستشفى حمد للتأهيل لغارات بركانية عنيفة أدت إلى تدمير جزء منه، وأعلن الجنود المنطقة التي بها المرفق الطبي بؤرة عسكرية مغلقة بالكامل، خاف الأطباء والمرضى من وصول القوات البرية إليهم وهربوا على الفور، مما أدى إلى خروجه عن الخدمة بصورة كاملة، إذ يمنع الأطباء من العودة لغرفهم وكذلك الأمر بالنسبة إلى المرضى.
بسبب تصعيد إسرائيل لهجومها البري والأضرار الناجمة عن القصف المتواصل، ومع تقدم الدبابات في عمق المدينة، توقف مستشفى العيون عن تقديم خدماته، على رغم أنه المرفق الوحيد في شمال القطاع الذي يقدم خدمات النظر وعلاج الرؤية.
أما مستشفى الرنتيسي، فقد قصف الجيش الإسرائيلي طبقات منه، وهرب الأطباء والمرضى منه بسرعة، على رغم أن هذا المرفق الطبي يعد المركز العلاجي التخصصي الوحيد في مدينة غزة، ويعالج الأورام السرطانية والكلى والقلب ويقدم الرعاية للأطفال الخدج وغيرها من التخصصات.
وبالنسبة إلى الإغاثة الطبية في مدينة غزة فقد دمرها الجيش الإسرائيلي ومقرها بالكامل، أما مستشفى القدس فقد فرض عليه الجنود حصاراً محكماً ومنعوا وصول المرضى والجرحى إليه، ثم أطلقت الطائرات المسيرة النار على محطة الأكسجين التي توقفت على الفور.
أما المستشفى الأردني، فقد قرر الجيش الأردني نقله من مدينة غزة إلى خان يونس جنوباً بسبب العمليات العسكرية الإسرائيلية في المدينة، وحفاظاً على سلامة كوادره، في ظل توسيع إسرائيل هجومها البري، وجاء في بيان صحافي صدر عن إدارة المرفق الطبي "المستشفى بات معزولاً ولا يعمل بسبب الأحداث الدائرة".
بلا أدوية ولا وقود
المستشفيان اللذان لا يزال يعملان في مدينة غزة ليس بوضع مثالي، إذ استقبل مستشفى الشفاء والمعمداني أكثر من 75 جثة وما يفوق 300 جريح، وهذا عدد لا تستطيع هذه المرافق التعامل معه ولا تقديم الرعاية لجميع هؤلاء المصابين.
المستشفيان العاملان في غزة يعانيان نقصاً في الأدوية والمستهلكات الطبية والوقود، وقد يتوقفان عن العمل في غضون يومين فقط، إذا لم تسمح إسرائيل للإمدادات الصحية بالوصول إلى المرفقين.
يقول المدير العام لوزارة الصحة منير البرش "العمليات العسكرية في مدينة غزة تترك المرضى بلا علاج أو مأوى صحي، في وقت يزداد فيه الضغط على المستشفيات القليلة المتبقية في الخدمة، كما أن منع دخول الوقود يفاقم الأوضاع المأسوية، إذ لن يجد مئات الأطفال الخدج الحضانات التي تبقيهم على قيد الحياة، كما سيحرم مرضى السرطان والفشل الكلوي من جلساتهم العلاجية المنتظمة، لتتحول معاناتهم إلى موت صامت".
ويضيف مدير الصحة "أزمة الوقود تمثل التهديد الأكبر، إذ لم يتبق سوى مخزون يكفي 48 ساعة فقط لتشغيل الأقسام الحيوية، إسرائيل كانت تزود المستشفيات بالوقود شهرياً ثم أسبوعياً، قبل أن يبدأ بتقليص الكميات إلى الحد الأدنى، تل أبيب تتعمد وبصورة ممنهجة ضرب منظومة الخدمات الصحية في محافظة غزة، وذلك ضمن سياسة الإبادة الجماعية التي ترتكبها في القطاع".
ويوضح البرش أن مستشفيات غزة تلفظ أنفاسها الأخيرة، وأن مدينة غزة تقترب من كارثة لا يمكن توقع نتائجها، خصوصاً مع تصاعد وتيرة العمليات العسكرية الإسرائيلية في أكبر مجمع حضري بالقطاع.
مزيد من الأرواح
يقول مدير منظمة الصحة العالمية "تيدروس أدهانوم غيبريسوس"، "مستشفي الرنتيسي والعيون في مدينة غزة توقفا عن العمل بصورة كاملة بعد تصاعد حدة العنف في محيطهما، مما أجبر المرضى والطواقم الطبية على مغادرتهما".
ويضيف "خروج المستشفيات عن الخدمة يمثل ضربة خطرة للنظام الصحي في غزة، واستمرار إغلاق المرافق الصحية في ظل بقاء مئات الآلاف من السكان داخل مدينة غزة سيؤدي إلى فقدان مزيد من الأرواح، الآن يعجز آلاف المرضى والجرحى عن الوصول إلى المستشفيات التي بقيت تعمل بصورة جزئية، مثل مجمع الشفاء الطبي والمستشفى المعمداني".
أما في الجيش الإسرائيلي فيقول المتحدث أفيخاي أدرعي "نقل المستشفى الأردني بناء على طلبهم، ونعمل حالياً على تجهيز مستشفيات في جنوب غزة لتقديم الرعاية الصحية والطبية".